حكاية السينما بتطوان في الزمن الجميل - بريس تطوان - أخبار تطوان

حكاية السينما بتطوان في الزمن الجميل

بريس تطوان

في أحد أفلامه قال أسطورة أفلام “الويسترن” الأمريكي الممثل “كلينت ايستوود” الشهير عند شباب تطوان وتحديدا جمهور سينيما “سيني ميسيون” المنقرضة، بلقب  “العايل د الرواية، الروبيو “نظرا لشعره الأشقر، – قال – ” أملك الأموال وأستطيع أن أشتري كل شي، لكنني لا أستطيع شراء الزمن”.

فعلا صدق بطل الفيلم الرائع المعنون بـ “ّالصالح، الشرير، والبشع”، بكون لا أحد يستطيع شراء الزمن، وبصفة خاصة زمن تطوان الجميلة، زمن الذوق المتحضر، ونعمة البال، زمن الأحلام القزحية الألوان، وبهاء الأمكنة، زمن حين كانت تطوان تنسج خيوط الجمال والمعنى في كل مناحي الحياة، وطبعا كانت الشاشة الفضية جزءا من تلك الحياة الحلوة.

بكل أمانة إننا في هذا المقال سنقوم بالتنقيب في حطام سفينة تطوان الغارقة،عن ومضات مضيئة،عن لحظات ليست كباقي اللحظات، محاولين استحضار أجواء عامة كانت تسود بفضاءات الحمامة البيضاء في علاقتها بالشاشة الفضية في الزمن الجميل ،وهي في تقديرنا كانت أجواء شاعرية وجدانية وتاريخية من الصعب استرجاعها ولو أنفقنا عليها كل أموال الأرض وليس دراهم  الدعم المعدودة لوزارة الثقافة المغربية.

عود على بدء

كما هو معلوم؛ إن السينما كاختراع غربي دخلت إلى مدينة تطوان العامرة مع الاستعمار الإسباني شأنها في ذلك شأن مطبعة “المهدية” التي دخلت بدورها مجرورة على صهوات خيول الجيش الاسباني في حرب تطوان لسنة  1860.

كما لا ننكر أيضا أن الإسبان هم أول وربما آخر من شيد بمدينة الحمامة البيضاء قاعات سينمائية مذهلة  ب “بالكونات “وأبراج شامخة تفوق جمالا وبهاء نظيراتها في اسبانيا وحتى ببعض الدول الأوروبية، ومنذ ذلك التاريخ  نشأت بين جمهور تطوان الذواق وقاعات السينما علاقة حميمة استمرت طيلة عقود الزمن الجميل.

وتذكر الشهادات التاريخية أن التطوانيين والتطوانيات والأسر التطوانية وحتى بعض الشباب المنحدرين من قبائل جبالة، وغمارة الكبرى، والريف الذين كانوا مجندين ببعض ألوية الجيش الاسباني، كانوا كلهم يقصدون السينما لمشاهدة أفلام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وروائع أفلام فريد الأطرش الغنائية، وشقيقته أسمهان، وليلى مراد وإسماعيل ياسين، إضافة إلى الأفلام الهندية والإسبانية والأمريكية .

وكانت تذكرة السينما تعتبر جزءا لا يتجزأ من المصروف الأسبوعي أو الشهري بالنسبة لرواد السينما في ذلك الإبان، سواء كانوا جنودا أو عمالا أو صناع حرفيين.

والغريب في الأمر أن مدينة تطوان التي لم تكن تتعدى ساكنتها 30 ألف نسمة كانت تتوفر على سبع قاعات سينمائية ضخمة، نذكر منها سينما المنصور، سينما المسرح الوطني والشهيرة عند التطوانيين بسينما المصلى الكائنة بالحي الذي كانت  تسكن به الجالية الهندية المقيمة بتطوان آنذاك .

إضافة إلى سينما اسبانيول وسينما  أبينيدا وسينما مونمنطال وقاعة “سيني ميسيون” وقاعة  سينما الملكة  “فكتوريا” بحي الباريو مالقا، وهي نوع من سينما القرب بالنسبة لأبناء تطوان الذين كانوا يسكنون خارج وسط المدينة.

أكثر من ذلك كانت هناك فضاءات سينمائية أخرى بالهواء الطلق أو ما يعرف بسينما فصل الصيف كما هو الحال بسينما الهواء الطلق بالحي الإسباني (Pavillones)

طقوس الدخول إلى السينما

كان الدخول إلى السينما  بتطوان في “الزمن الجميل” له طقوسه الخاصة، وكان الأشخاص ينعمون بنوع من الحرية الشخصية والجماعية لأن الفضاء العام كان مهذبا وراقيا وغير مؤذ، فكان الشخص يخرج ليلا مرفقا بزوجته أو خطيبته للذهاب إلى السينما ويعود إلى منزله دون أن يعترض سبيله أحد أو يتحرش بزوجته ” أولاد السوق”  كما سيحدث فيما بعد.

وكانت ساكنة تطوان العامرة عندما يريدون الذهاب إلى قاعات السينما يرتدون أفضل ما عندهم من ثياب وكأنهم مدعوون لحضور عرس أو حفل بهيج، فالرجال كانوا يرتدون بذلات أنيقة بربطات عنق زاهية الألوان وأحذية جلدية لامعة من شدة المسح، أما النساء والفتيات فكن يرتدين أفخر ملابس الموضة في ذلك العصر، مثل  التنانير والسراويل الطويلة التي تشبه أرجل الفيلة “بانتاليفون”، والقمصان ذات الأعناق الطويلة، وتلك كانت تعتبر ملابس آخر صيحات الموضة في  تلك الحقبة “الزاهية”.

والحقيقة وهذه شهادة للتاريخ أننا لم نكن نشاهد في ذلك الزمن بتطوان البرقع الأفغاني أو الخمار السعودي، أو المأزر وغيرها من الملابس الحاملة للفكر الإيديولوجي المُنحاز عن الوسطية والإعتدال.

في تقديري الشخصي  إن ازدهار السينما بمدينة تطوان كان مرتبطا بوجود نوع نسبي من الحرية الشخصية في الفضاء العام، وبيئة بها نوع من مساحات الحرية والاحترام وقبول الآخر، قبل أن يتم تدمير هذه المكتسبات شيئا فشيئا مع نهاية الثمانينيات.

أسباب ضياع السينما بتطوان  

يرى مالك القاعات السينيمائية بتطوان  “حسين بوديح” أن أسباب انقراض السينما بالمدينة يعود لعوامل تقنية وتكنولوجية فهو يقول أن السينما قتلت المسرح وأشرطة الفيديو  و”السي يدي” ، قتلت السينما وهذا  في تقديري نصف إجابة.

فالسيد “بوديح” توقف عند الأعراض وليس عند جوهر المرض، والدليل على ذلك أن  القاعات السينمائية لازالت قائمة بالدول المحترمة وعند الشعوب المتمدنة ،واستوديوهات هووليود وبوليود، لا زالوا ينتجون أفلاما ضخمة  وجميلة لكن المشكل الذي تهرب “بوديح” من الإجابة عليه هو  أين ذهب الجمهور الحداثي؟

أين تبخر الجمهور الذي كان ينتظر في طابور ثلاث ساعات ليقتني تذكرة دخول فيلم عاصفة من الدموع، وهكذا الأيام، والوسادة الخالية؟.

أين المشاهد التطواني الأنيق الذي كان يرتدي أحسن بذلة مع ربطة عنق ويصطحب زوجته الرائعة وهما يسيران الهوينا، كزوج حمام نحو قاعة سينما “المنصور” ليشاهدا  فيلم فريد الأطرش وهو يصدح بأنغام رائعته الخالدة ” علشان مليش غيرك “؟ .

أين اختفى الجمهور التطواني الذي  كان يعيش بفضاء مدينة جميلة وقنوعة كما قال عنها المؤرخ التطواني محمد داوود، مدينة حسنة السمعة، فكان القليل فيها مقنعا ،والصغير نقيا نظيفا، والحياة وديعة سعيدة.

 شرطة ” لاراف” تدق أخر إسفين بنعش السينما بتطوان  

إن الزمن الجميل لفضاءات السينما بمدينة تطوان العامرة ونواحيها يمكن حصره ما بين سنة 1923 و سنة 1983،لأنه بعد أحداث الشمال سنة 1984 طفت على السطح ظاهرة قتل وتسميم أجواء الفضاء العام بالمفهوم الذي نظر إليه الفيلسوف الألماني “هابرمارس” .

وفي فترة الإنحدار جاء رهط من البوليس قادما من مدن الداخل، بدأ يطلق حملات أمنية أطلق عليها “لاراف” وكانت عناصره، تسأل أسئلة غير متسامحة وخطيرة، أسئلة تحمل في أحشائها بوعي أو بدونه بذور الفكر المتطرف، أسئلة من قبيل  ” شكون هديك للي معاك ” واش ضارب بها الكاغيط” “وماذا تفعل في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ ، و”هدي ماشي الساعة د الخروج”  وغيرها من مصطلحات القدح والوصم الإجتماعي.

وهكذا لعبت شرطة تطوان لما بعد سنة 1984  دورا كبيرا  في تصلب شرايين الفضاء العام، وذلك بنشرها  أحكام قيمة، تمتح من التشدد والفكر المتطرف، وبدأت تتطور هذه الظاهرة  حتى أصيب قلب الفضاء العام  بتطوان بالشلل التام .

المحزن والمضحك في الأمر أن حملات “لاراف” الأمنية التي أفرزت نوعا من الخوف والرهاب الإجتماعي للخروج إلى الفضاء العام بكل سلاسة وأريحية، زادت من تفاقم الحالة الإجرامية بوسط المدينة حيث كانت تتواجد معظم القاعات السينمائية ، فظهر باعة سجائر التقسيط، واللصوص وتكاثر المنحرفون، والنساء العاملات في قطاع الجنس، وأطفال الشوارع وعدد لا يحصى من المظاهر  السلبية المشينة.

فكان من الطبيعي أن تدفع كل هذه الظواهر المخيفة  والمقززة الجمهور التطواني الذواق والحضاري وما تبقى من “أولاد الناس”  للانسحاب كليا من الفضاء العام، والعزوف عن ارتياد دور السينما، تاركين  الفضاء العام للمنحرفين و”أولاد السوق” و”الطبقة الرثة “، حسب تعبير الفيلسوف” كارل ماركس”.

وهكذا أسدل الستار عن حكاية الأيام الحلوة للسينما بمدينة تطوان العامرة، وضاع الزمن الجميل للشاشة الفضية، بعد أن تحول الفضاء العام  إلى ما يشبه  مستنقع آسن  أو مقبرة جماعية تعيش بها أشباح وجثث تتحرك بلا معنى.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.