الحـــــــوار - بريس تطوان - أخبار تطوان

الحـــــــوار

الحـــــــوار

ربما لا أكون موفقا إذا قلت أن الحوار وسيلة متخلفة، في حين أريد أن أقول إنها وسيلة عاجزة غير مؤثرة في إقامة علاقة عقلية بين رأيين أو مذهبين أو فردين أو جماعتين.

إن بعض مفكري العرب المحدثين راجعوا صفحات التاريخ الإنساني منذ البداية حتى اللحظة التي تكتب فيها هذه السطور، فلم نعرف أن فيلسوفا أقنع فيلسوفا آخر بنظريته، كما لم يقنع سياسيا ممثلا لدولة أقامها وآتاه بالأسلوب الجذاب واللسان الخلاب، والحجة الصادقة، والبينة القاطعة، أن يخرج السياسي الممثل لدولة أخرى عن اعتقاده ويسلم لزميله المتحدث الرائع، والمحاور البارع بما قاله وأفضى من الحقائق والمعلومات فأنهى ما كان بينهما أو بين دولتيهما من نزاع، وهدأت السيوف في اغمادها والخناجر في قرابها، وبقيت الجيوش في تكناتها لم تبرحها.

وقد رأينا على مدى التاريخ الإنساني، مذاهب سياسية تنشأ، وعقائد دينية تولد، ومدارس فكرية تقدم، ورأينا لكل مذهب وعقيدة ومدرسة، أنصارا ودعاة يبشرون بفكرتهم، ويروجون لعقيدتهم، ويجادلون عن مذهبهم بالخطبة الأخاذة والحوار الذي يسد على الخصم المنافذ بعنف أو برفق، وبالحديث البسيط المسترسل الذي لا تحس فيه بنبرة الاعتزاز بالنفس ولا الرغبة في القهر ثم تتوالى الكتب رسائل صغيرة، فأسفارا ضخمة فمجلدات تنوء بثقلها الجمال في القوافل، وكلها دفاع عن تلك المذاهب، ومفاتحة – عن صدقها ورد على خصومها. ثم يهدأ غبار المعارك فإذا كل شيء في مكانه، وإذا الناس يزدادون تعصبا لمذهب بعينه أو ينفضون عنه، ويغادرون هذه الدنيا وهم لم يسمعوا شيئا مطلقا عن هذه الأسفار الضخمة، ولا تلك المجلدات التي تعد صفحاتها بالمئات.

ولكن الشيء الذي لا يمكن تفسيره أن الحوار لم ينقطع بين الناس من المذهب الواحد، وبين الناس من المذاهب المتباينة، وبين الناس التي تريد أن تحاور وتجادل، وهي لا تنتمي إلى عقيدة، ولا تنحاز لأسلوب فكر. الحوار إذن حاجة إنسانية لا يستغنى عنها ولا يعيش بغيرها. وهناك حوار لا نعترف به، ولا نعطيه حقه من العناية والدراسة، والتأمل هو الحوار مع النفس.

وليس حتما أن يكون الحوار مع النفس بالصوت المسموع ولكنه يحدث بالصوت المسموع فما أكثر المسرحيات والخطب والمرافعات التي قالها أصحابها لأنفسهم وهم يتصورون أنفسهم إنسانا يجادلهم أو جماعة جالسة على مقاعد مصفوفة تستمع وتستمتع وتهز رؤوسها بالموافقة أو تلهب أيديها بالتصفيق وهي لا وجود لها، ولكنها انبثقت من خيال الكاتب أو المسرحي أو الخطيب.

هذا الحوار الذي لم نسمعه ولم يسمعه أحد هو أعظم أنواع الحوار الإنساني تأثيرا وإن كان حديثا من طرف واحد، ولكن إليه ينسب أكبر الأفكار وأعظمها وأجملها وأجلها، ففي هذا الحديث الذي لا يبغي به المتحدث أن يقر رأيا، ولا أن يكسب نصيرا هو الحوار الذي يوح إلى صاحبه أولا بالأفكار، وثانيا بالتغيير والتعديل، وثالثا بالاقتناع والطمأنينة.

وإذا التقى إثنان من مذهب واحد فإنهما – وللعجب – يبدآن في الحال حوارا، ليتبينا بعده أنهما جد مختلفين وأن ما يفهمه أحدهما من مذهبه يفهم الآخر نقيضه، فإذا هما خصمان لدودان وخصمان متناقضان، وإذا الحوار الهادئ المريح قد استحال إلى قذائف متطايرة ولعنات متصاعدة، تتقلص لها الأيدي وتنقبض بسببها أسارير الوجه وقسماته، ويتصبب العرق، ويشيح كل منهما عن صاحبه بوجهه كرها وضيقا، ثم يهدآن ثم يستأنفان الحديث، فإذا هما متصافيان يتودد أحدهما للآخر، وإذا الخلاف الذي أجج النقاش بينهما يتبخر فلا يجدان له أثرا، ولا يحسان لوقدته لذعا فيحسان أنهما أقرب ما يكون أحدهما من الآخر، ولكن إلام انتهيا وعلام اتفقا ؟ لا شيء مطلقا. والموضوع الذي دار حوله الخلاف بقي في موضعه لم يتقدم خطوة، ولم يتحرك من مكانه قيد شبر.

وجملة القول أن هناك حوارا يتم بين الضمائر التي في الصدور ويتلقاها الذين يديمون النظر في شؤون البشر، ويقارنون بين أحوال الناس ويتأثرون بما يلحظونه وما يمر بهم من الظروف والتغيرات مر البرق الخاطف، فيهتزون من الأعماق ويخيل لهم أن عقائدهم تهتز من القواعد فيتشبتون بها ويقبضون عليها كما يقبض الممسك بالجمر وهو يتلظ من النار، ويكاد يفقد احتماله.

هذا الحوار الصامت الناطق المستمر والمتقطع هو الحوار الذي يصوغ في الواقع الأفكار والخواطر والعقائد والميول، والذي يدفع الناس إلى التصادم والتماسك، وبغيره لا يكون للفلسفة وجود، ولا لمعارك الرأي والفكر أثرها الباقي والدامي، فهو في الواقع خلاصة تاريخ البشرية، وسر عظمة المجددين والثوار.

ولكنه مع ذلك مغبون الحق، مجحود المكانة شأنه شأن كل العظائم في حياة الناس.

والله الموفق

25/08/2013

محمد الشودري.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.