محمد شكري من طفلٍ يقتاتُ على النّفايات إلى كاتبٍ عالمي - بريس تطوان - أخبار تطوان

محمد شكري من طفلٍ يقتاتُ على النّفايات إلى كاتبٍ عالمي

 
“قل كلمتكَ قبل أن تموت؛ فإنها، حتما، ستعرف طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تُشعل عاطفةً أو حزنا أو نزوة غافية”. (الخبز الحافي، ص 4).

يدعونا هنا محمد شكري، من خلال هذا المُقتطف القصير من الخبز الحافي، إلى القَول، أي إلى الكتابة. هذا الفعل الذي يُمَكّْنُ الذات -من جهةٍ- من الوعي بمناطق كامنة وخفية فيها، و-من جهةٍ أخرى- فهم الكون الضّخم الذي تحيا فيه. مع التأكيد –طبعاً- أن فعل الكتابةِ هذا يبقى صعب المنال بدونِ فعلٍ سابقٍ له هو فعلُ القراءة.

لقد اختار محمد شكري الكتابة عن الذّات، من خلال كتابَيه الخبز الحافي وزمن الأخطاء، اللّذين يتعرفُ من خلالِهما القارئ على شخصيةٍ مُوغلةٍ في التّمرد والعصيان والمشاكسة.

وُلِدَ محمد شكري في جبال الريف عام 1935 من أسرةٍ فقيرةٍ جدا. ولأن أسرته كذلك (فقيرة)، فإنه سيغادر، هو وأسرته، حسب ما جاء في الخبز الحافي، إلى طنجة من أجلِ البحثِ عن الخبُز. تقول والدته: “اسكت. سنهاجر إلى طنجة. هناك خبز كثير. لن تبكي على الخبز عندما نبلغ طنجة. الناس هناك يأكلون حتي يشبعوا.” (ص 5).

يحكي لنا محمد شكري عن الطّفل الصغير الذي كَانَهُ. ذلك الطفل الفقير جدا الذي يقتاتُ على النّفايات، والذي لا يجدُ ما يأكله في البيت، وأيضا الطّفل الذي يسرق، والذي يلعنُ أباهُ والعالم… باختصارٍ، يحكي لنا محمد شكري، من خلالهِ هو، عن فئةٍ من الأطفال عانت التّشرد، والاستغلال، والقمع، والازدراء… في بلدٍ مستعمَرٍ هو المغرب.

في هذا العالم، عالم الفقر، تغيبُ الأخلاق والأعراف… لذلك نجد الطّفل محمد في “الخبز الحافي” يلعن والده الذي كان يُمْعِن في ضربِه. يقول: “دخل أبي. وجدني أبكي على الخبز. أخذ يركلني ويلكمني: اسكت، سكت، اسكت، ستأكل أمك يا ابن الزنى. رفعني في الهواء، خبطني على الأرض، ركلني حتى تعبت رجلاه وتبلل سروالي”. (ص 6). ويقول في مَوضعٍ آخر: “صرت أفكر: إذا كان من تمنيت له أن يموت قبل الأوان فهو أبي […] في الخيال لا أذكر كم مرة قتلته. لم يبقى لي إلا أن أقتله في الواقع”. (ص 91) لكن ربما المشهد الأكثر رُعبا هو الذي يقول فيه الطفل محمد: “حين يموت أبي سأزور قبره لكي أبول عليه. إن قبره لن يصلح إلا مرحاضا.” (ص 100).

إننا هنا أمام واقع مريرٍ يحكي عن علاقةٍ بين أبٍ قاسٍ على أبنائه، الأب الذي سيقتل ابنه (أخو محمد)، وبين ابنٍ ساخط.

بعد مرحلة طنجة، ستغادر أسرة محمد إلى تطوان (حوالي 1942). وهنالك تستمر حياة محمد العامِرة بالمُعاناة. سيمعن الأب في ضربه، الشيء الذي سيدفع محمد إلى المبيت في الشارع رفقة المتشردين والحمقى. وفي الشارع، تعاطى محمد لمختلف الموبقات من تدخين للكيف، وسرقة، وزيارة لمواخير الدّعارة.

بعد فترةٍ في وهران الجزائرية، سيعود محمد إلى تطوان ثم إلى طنجة في سن السادسة عشر تقريباً (حوالي 1951). هنا سيكبر الطفل وسيصبح شاباً قادراً على العمل. عمل حمالا، ومهربا… إلى أن التقى بـ”حسن” الشاب الذي كان يدرس في معهد في مدينة العرائش. ففي يومٍ كان يجلس محمد بمعية “عبد المالك” الأخ الأكبر لحسن، وكان يحمل معه كتابا لتعلم أبجديات القراءة والكتابة، اقترح عليه حسن أن يذهب إلى العرائش واللّقاء بمدير مدرسة هناك، مؤكدا أن المدير صديق له (صديقا لحسن)، فكتب حسن رسالة إلى المدير وأرسلها إليه مع محمد.

سيذهب إلى العرائش، وهنا ينتهي الجزء الأول من سيرة محمد شكري الذاتية، أي الخبز الخافي.

في الجزء الثاني من السيرة، يحكي لنا محمد شكري عن التحاقه بالمدرسة في العرائش ولقائه بالمدير صديق حسن. يقولُ محمد في مشهدٍ له في أول يومٍ له في القسم: “تهامس التلاميذ ناظرينني فاحصينني. أحستني مسروقاً بينهم. لم يسبق لي أن كنت بين أربعين شخصاً يفحصونني من تحت إلى فوق. في القاعة تلاميذ في مثل سني، لكنهم يعرفون القراءة والكتابة. على السبورة، درس مكتوب، وأمامهم الدفاتر، سأعرف لاحقا أن هؤلاء الكبار جاءوا من البادية.

عاد المعلم وأجلسني، في الصف الوسط، إلى جانب أصغر تلميذ في القسم. في حجرة الدرس ثلاثة صفوف: عن يميني أربع تلميذات ناهدات في المقاعد الأولى.” (ص 20).

في هذا الجزء، يتحدّث محمد بإمعان عن شغفِهِ بالقراءة، بحيث يحكي عن صحبته لصديق أعمى اسمه المختار كان يقرأ له الروايات مقابل أداء واجب القهوة، ويحكي أيضا عن تأثير صُحبة هذا الصديق وتعرفه من خلاله على المنفلوطي وجبران خليل جبران… بل إن تأثره بالأدب كان يبعده أحيانا عند دروسه في المدرسة ومدرسة المعلمين لاحقاً.

لا يفوت شكري في هذا الجزء أن يتحدث عن الفقر، وعن زياراته لمواخير الدعارة، وتعاطيه لمختف أشكال المخدرات؛ لكنه، بالرغم من فقره وصَعْلَكَتِهِ، أكمل دراسته والتحق بمدرسة المعلمين بتطوان. يقول: “عندما نجحت في مباراة الدخول إلى مدرسة المعلمين أحسست كأني ولدت من جديد.” (ص 83) ليس هذا وكفى، بل إن محمدا سيدخل غمار الكتابة بكتابته لبعض القصص التي ستنشرها له بعض الجرائد. يقول: “دوخني الفرح وسكرت احتفالا بموهبتي الأدبية الدفينة. اشتريت أعدادا كثيرة وزعتها عن رفقائي المتدربين لأشعرهم بأهميتي بينهم”. يُضيف: “ابن الكوخ والمزبلة البشرية يكتب أدبا وينشر.” (ص 99).

تتطور أحداث القصة، ومعها يزيد محمد ألقا، وبهاء، وأناقة… فيصبح شابا ذا بال؛ فـ”ابن البراكة وعشير الفئران يتأنق، يتحضر، يتطور، يخرج من جلد خشن ليدخل في جلد ناعم.” (ص 99).

لقد انتقل محمد من عالم النّفايات والسرقة ومعاشرة الأطفال المتشردين إلى موظف عند الدولة. هذا ما تنتهي إليه قصة محمد. ونحن نضيف قائلين، إن قصة محمد لم تنتهِ عند كونه معلما أو موظفا عند الدولة، بل وصلت حدّ كونه كاتبا ترك لنا كلمته لتقرأها أجيال وأجيال، لذلك نقول له: إن كلمتك يا محمد شكري قد وَصلتنا، وبها لا تزال تعيش معنا. وقد صدقت حينما قلت: “قل كلمتكَ قبل أن تموت فإنها، حتما، ستعرف طريقها…”

فعلا، لقد عرفت كلمتكَ يا محمد طريقها.

صفوةُ القول، يُعلمنا شكري من خلالِ كلمته تلك، أن الفقر والمِحن والألم… ليست ذرائع نغطي بها فشلنا؛ بل من كل هذه الأشياء يولدُ الإبداع والابتكار والأدب.
محمد بدازي/ هسبريس


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.