وداعا أحبتي .. محبكم ريان ! - بريس تطوان - أخبار تطوان

وداعا أحبتي .. محبكم ريان !

اسمي ريان ابن قرية إغران حيث يتقاطع النهران الخالدان .. البؤس والنسيان .. كنت أتمنى ككل طفل كأي إنسان .. أن يكون لي في المدرسة مكان بين الأقران .. أن أتهجى الألف والباء والياء .. أن أردد كأقراني “مدرستي الحلوة .. مدرستي الحلوة ..” .. أن أبني داخل حجراتها أحلام .. أن أرسم بالألوان .. أن أرسم بابا .. أن أرسم ماما بالألوان .. أن أرسم علمي بالألوان .. أن أضع لقصتي مع الحياة بداية وعنوان .. كنت أعيش بعيدا جدا عما يعرفه وطني من بناء ونماء .. كنت أتوق أن أدحرج الكرة في ملعب صغير مع الأقران ..

كان عالمي الصغير لايتجاوز حدود أسرة تلتحف الفقر وتتغطى الهشاشة تحت حراسة الجبال وأمام أعين السماء .. ولا يتعدى عتبات قرية منسية تحرسها عساكر العزلة القاتلة اسمها إغران .. حيث لا طريق ولا ماء ولا كهرباء .. كنت أحلم أن تداعب أناملي الصغيرة أزرار لعبة إلكترونية كالأقران .. أن أركب في القطار .. أن أسبح في الشاطئ تحت أنظار أمي بعيدا عن التيار .. أن أزور الرباط وشالة وحسان .. أن تطأ قدماي حديقة الحيوان .. أن أسافر كالطير حرا طليقا بين جمال وطني .. أن أكون بيتا ساطعا مشرقا في قصيدة بلدي ..

أنا ريان أنا ابن إغران .. كنت أتمنى لما أكبر، أن أكون طبيبا لأنقذ أسرتي وقريتي البئيسة المصابة بوباء النسيان .. أن أكون مدرسا لأعلم الصبيان قوله تعالى “اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق …” .. أن أكون مسؤولا، حتى أخرج جماعتي من غياهب العزلة والنسيان .. أن أكون محاميا شاطرا لأدافع بشراسة عن حق قريتي في الطريق والماء والكهرباء والنماء .. أن يكون لي “صوت” يدافع عن كرامتي في البرلمان .. بل كنت أتمنى أن أكون مجرد طفل .. مجرد إنسان في وطن أحمله في الوجدان .. أن أحيى وأعيش كما يحيى الطفل وكما يعيش الإنسان .. أن تكون لي شهادة اعتراف في وطن لا أعرف فيه إلا راية حمراء تتوسطها نجمة خضراء .. في وطن له في قلبي الصغير مكان .. أنا ريان ابن إغران .. كنت أقرأ علامات البؤس في عيون والدتي .. كنت أتألم وأنا أرى القساوة تتربص بوالدي وبكل ساكنة قريتي إغران .. كنت أتأسف لوالدتي وهي تشقى بحثا عن قطرة ماء .. وكنت أتأسف هل أبكي لحالها أم لحالي أم لحال كل إغران ..

أنا ريان أنا ابن إغران .. كل أحلامي كانت هي المدرسة .. أن أحمل على ظهري الصغير المحفظة كالأقران .. أن أقول “صباح الخير معلمتي .. صباح الخيرمعلمي” .. أن أفتح الكراس .. أن أتهجى .. أن أكتب الكلمات والأسماء .. أن أتعلم الحساب .. أن أقرأ القرآن .. أن أعود كل يوم إلى أسرتي .. أن أقبل والدتي و والدي .. أن أنجز واجباتي تحت ضوء الشمع .. لكن كل أحلامي كانت تتبخر لما أقف أمام باب بيت أسرتي، ولا أرى إلا الجبال من حولي والأرض والسماء تحرسني، وكأنني في وطن غير الوطن … كنت أتمنى أن يكون لي “ملعب” ألعب فيه مع الأقران .. أن أدحرج الكرة بأناقة كما يدحرجها رونالدو وأروضها كما يروضها ميسي .. أن أجد أمامي مدرسة تحميني من قساوة البؤس وحرارة النسيان .. أن أدرس وأنمو وأكبر وأصبح نجما ساطعا في عيون والدتي وكل قريتي .. لكنني وجدت أمامي بئرا توقفت داخله عقارب حياتي ..

لم أدرك وقتها إخوتي، أن قدماي يقوداني إلى عالم لا متناه من الظلمات، توقفت معه ناعورة أحلامي الصغيرة على مضض .. كم تمنيت أحبتي أن أروي لكم قساوة ألمي وأنا بين غياهب الجب .. أن أسرد لكم تفاصيل حكاية وحدتي .. أن أرسم لكم لوحة آلامي بالألوان .. تمنيت وقتها وأنا محاصر بين أقدام الظلام أن أصرخ بأعلى صوت .. أنقذيني أماه .. أنقذني أباه .. لكن انتهى الكلام في بحر الظلام حيث لا يعلو صوت على صوت الألم والوحدة القاتلة .. تمنيت أن أروي وأحكي لكم معاناتي الطويلة مع وحوش الظلام، وأحلامي الصغيرة في المنام .. لكن أطلب منكم إخوتي أن تتخيلوا صورة طفل صغير حوصر لساعات بل ولليال طوال داخل جب لا صوت يعلو فيه على صوت الظلام ..

كان قلبي مع أمي التي لن يغمض لها جفن بدوني .. وكان بالي مع أبي الذي لن يتجرأ على إغلاق باب البيت وأنا محاصر في عمق الجب أصارع الموت والحياة .. وكان فكري منصبا على إخوتي الذين لن يهدأ لهم بال إلا بوجودي .. حاولت طلب النجدة لأخرج إلى عالمي الصغير حيا أرزق .. لأرتمي في حضن أمي .. لكن خانتني قوتي .. وذاب جليد كلماتي تحت أشعة محنتي ومشقتي …

لا أخفيكم سرا أحبتي .. اشتد ألمي بعد سقطتي في الجب .. وتحملت وزر آهاتي في كبد الظلام بدون ماء ولا طعام ولا حتى هواء .. ومع ذلك تجرأت وتحملت كل آلامي وخوفي، أملا أن تخلصوني في أسرع الأوقات من الجب، لأعود إلى أسرتي وقريتي وجماعتي .. وكلما وصلتني أصداء دعواتكم الصادقة، كلما تحملت أعباء ظلمتي ومشقتي داخل جب عميق يصعب أن يتحمله الكبار فكيف يتحمله الصغار ؟

أسعدتني إخوتي تعبئتكم المجتمعية من أجلي .. وأثلج صدري صدى الجرافات التي دارت عجلاتها آناء الليل وأطراف النهار لتخليصي من جحيم الجب .. افتخرت بما عبرتم عنه أبناء وطني من مشاعر “تامغربيت” وأنا محاصر بين كثبان الظلام .. وسررت بمشاعر التضامن والتعاطف التي اجتاحت كل العالم من أجلي .. افتخرت بكل أبناء وطني الذين أتوا من كل فج عميق تضامنا مع أسرتي المكلومة وقريتي الجريحة .. كم كنت سعيدا وفخورا بكم أبناء وطني، وأنتم تسابقون الزمن لهدم الجبل في سبيل إنقاذي وتحريري من عساكر الظلام ..

انتظرتكم إخوتي لساعات طوال في الجحيم .. تحملت كثيرا من أجلكم .. من أجل أسرتي وقريتي وجماعتي .. شئتم جميعا في المغرب وفي كل بقاع العالم أن أخرج من الجب حيا أرزق .. شئتم أن أبقى .. وشاء رب العالمين أن أرحل .. انتظرتموني طيلة خمس ليال، فأخرجوني جثة هامدة .. دعوتم لي بالرحمة فلبى ربي النداء بأن أحاطني برحمته الواسعة .. دعوتم لي بالحياة، فاستجاب الرحمان لدعواتكم بأن جعلني أحيى حياة أبدية في جنات الخلد .. دعوتم أن يعيدني الله إلى حضن والدتي، فلبى ربي النداء بأن منحني حب الوطن وأحضان الإنسانية جمعاء .. شئتم أن أعود إلى عالمكم حيا أرزق، وشاء خالقي أن أرحل إلى عالم الطهر والنبل والمحبة والصفاء والنقاء ..

آسف والدتي إن تركتك تذرفين الدمع من أجلي .. آسف والدي إن أحزنك رحيلي وعبوري الخاطف .. آسف أحبتي وأهلي إذا كنت لم ألب النداء .. لكنني لبيت نداء الرحمان خالقي وخالقكم .. آسف وطني الحبيب إن تركت في ثراك الطاهرة أحزان، ورغم أني أدرك أن حب الأوطان من الإيمان .. فقد تركتك يا وطني إلى الأبد، لحكمة لا يعلمها إلا الرحمان ..أنا ريان ابن إغران .. أنا صوت الطفولة المنسية في وطني .. أنا صوت المغرب العميق .. رحلت عنكم إلى الأبد بمشيئة الرحمان، وتركت بين أياديكم أحلامي الصغيرة أمانة ..

كنت أحلم إخوتي وأحبتي بمدرسة أتعلم فيها الكتابة والحساب وتلاوة القرآن .. وطريق تفك العزلة عن قريتي .. ومستشفى نقصدها لما يقسو علينا برد الشتاء.. وملعب صغير أدحرج فيه الكرة مع الأقران .. ودار شباب أتعلم فيها المسرح والرسم وأناشيد الوطن .. كنت أحلم أن أغير ملابسي الممزقة وأرتدي ملابس جديدة تقيني وإخوتي من شدة برد الشتاء .. كنت أحلم بأن أخلص قريتي من عناء البحث عن الحطب والماء.. كنت أحلم أن يحضر المسؤولون إلى قريتي الصغيرة ليعاينوا عن قرب بؤسي وعزلتي وهشاشتي .. أن يسمع صوتي ويتم الانتباه إلى صرختي وأنيني .. كنت أحلم أن أستفيد من ثمار بلدي .. كنت أحلم أن تتحرك الأمة والعالم من أجلي وأنا أنسج حكايات أحلامي الصغيرة في قريتي.. لكنكم تنكرتم لي ولم تهتموا بصرختي وصرخات بلدتي .. ولم تنتبهوا لي إلا وأنا محاصر في غياهب الجب بين الحياة والموت .. ولم تتحركوا من أجلي إلا بعد فوات الأوان بعد أن اختارني الرحمان .. ومع ذلك أفتخر بكم يا أبناء وطني الحبيب، ويكفيني فخرا أنكم تصارعتم مع الزمن وحطمتم جبلا كاملا من أجل إنقــاذي، وبفضلكم اجتاحت صورتي كل بقاع الأرض .. وعمت محنتي كل العالم ..

أنا ريان .. الذي حرك بمشيئة الرحمان المشاعر الإنسانية الجافة، وزعزع عرش الإنسانية، وكسب حب الملايين في مغرب الأرض ومشرقها .. أنا ابن إغران الذي تعالت من أجله الدعوات وأقيمت من أجله الصلوات .. أنا ابن شفشاون الذي وحد المغاربة والعالم .. أنا ابن الريف الذي جعل العالم ينتبه إلى أن الإنسانية هي الأصل والباقي عبث وانحطاط .. أنا ريان المغربي الذي فجر عيون القيم الإنسانية المشتركة في زمن الأنانية والبؤس والانحطاط ..

أنا ريان ابن الشعب وابن العالم .. أتمنى ألا تتوقف الجرافات بعد رحيلي .. ففي قريتي وبلدتي أناس طيبون يحبون الوطن بنقاء وصفاء وأحلامهم صغيرة كأحلامي .. وأتمنى بعد رحيلي، أن تتحرك ناعورة النماء نحو قريتي وبلدتي وكل ربوع وطني .. أنا ريان الذي حرك العالم .. أنا صرخة في وجه الظلم واللاعدالة والأنانية المفرطة والتعالي والاستقواء والاحتقار.. أنا صوت الحرية والعدالة والمساواة والتضامن والأخوة والمحبة والتعاون والنبل والرقي والصفاء والنقاء ..

أنا ريان المغربي .. أوصيكم خيرا بأسرتي وقريتي وبلدتي .. أوصيكم خيرا بوطني الحبيب .. أوصيكم بلم الصف العربي والإسلامي .. أوصيكم بطرح أسلحة الأنانية والتطاحن والخراب والدمار، والعودة التي لا محيد عنها للإنسانية التي تجمعكم .. أوصيكم خيرا بكل “ريانات” وطني .. أوصيكم بهدم كل الآبار المهجورة التي تهدد حياة أبناء وطني .. وداعا قريتي وداعا مدينتي .. وداعا مغربي وداعا وطني .. وداعا أحبتي .. لن أنساكم أبدا .. لاتنسوني بدعواتكم .. محبكم ريان المغربي ..


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.