هدنة مع الحياة - بريس تطوان - أخبار تطوان

هدنة مع الحياة

وسط يوم مزدحم بالأحداث والمعارك… بين كومة من المشاعر المبعثرة وجبل من الأفكار المتضاربة… كان البعض مني يريد الكثير والبعض الآخر يتطلع للأكثر… وكانت الأنفاس تتسابق في ماراتون داخلي…

في خضم الحرب الضروس التي أخوضها بيني وبين نفسي.. وبيني وبين الحياة… جلست هنيهة، كما عهدت دائماً، أمام قهوتي لأجدد الوصال بالسكينة… وكأني أوقف الاقتتال من حولي… وكأني أطلب الهدنة…

أخذت مقعدا في مقهى “الريو” بمرتيل، على الشرفة وكان الشاطئ والكورنيش أمامي… وكانت الخطوات المتثاقلة للمصطافين وهم يعبرون للشارع العام أو بشكل عكسي، تفرغني من طاقتي المشحونة وتسلب بطاريتي شيئا فشيئا … وكانت رائحة القهوة الساحرة المنبعثة من فنجاني تخدرني رويدا رويدا إلى أن استسلمت لزرقة البحر وأشعة الشمس المنسدلة برفق فوق بريقه… وصرت أسمع أصوات الحياة -الطبيعية- تدب من حولي.

وهذا شيخ بقندورته وطاقيته البيضاء يمر بتؤدة، يقف ليتأمل تارة المصطافين ويطالع قدميه المتعبتين تارة أخرى وكأنه ينصت لدقات قلبه، وكأنه يحدثه، وكأنه ينتشل بعض القوة… ليواصل السير.

وهاذي فتاة في عمر الزهور، تحلق كفراشة نحو الشاطئ بفستانها الأزرق الصيفي وشعرها المنساب على كتفيها… تحمل حقيبة البحر وتلامس الأرض بخطوات خفيفة رشيقة مقبلة على الحياة… تدرك وجهتها جيدا وتثق في قدميها حد الركض.

يتقابلان في الوسط، تمر الفتاة كريشة أسقطها نسيم الصباح العليل، ترفع شعرها بخفة وتنزل للرمال المشتعلة كاتقاد عزيمتها، ويقف الشيخ وقد أتعبه المسير، ليلتقط أنفاسه.. تلفت انتباهه موسيقى إحدى السيارات التي مرت بالقرب، يواصل الوقوف ويتابع السيارة إلى أن تغيب عن ناظريه، ثم يقرر المشي…

أخطف رشفة من فنجاني، وأعود بعيني للكورنيش…
وفي أقل من ثانيتين تغيب الفتاة عن مستوى نظري، في اللحظة التي لا يزال الشيخ يحاول وضع قدميه طمعا في خطوة ثانية.

لا بد وأن للشابة حرب داخلية، لا بد وأنها ترغب في استغلال آخر سويعات الصيف قبل العودة لمقاعد الدرس، لا بد وأنها تفكر في زاوية تلتقط منها صورة للانستغرام، أو في حبيبها الذي راسلته ولم يرد بعد، لا بد وأنها تنسق طقم ملابس في ذهنها قبل أن تقتنيه، أو تخطط لخرجة رفقة صديقاتها… أو لطريقة تقنع بها والدها لاقتناء هاتف جديد…

ولا شك أن الشيخ، يحلم أيضا، يحلم بخطوات ثابتة سليمة، تقوده نحو مبتغاه بسلاسة، يفكر ربما في أحفاده ويتمنى أن يقضوا يوما كاملا معه، أو في ابنه الذي لم يلتقيه لسنتين بسبب الوباء، أو تراه تذكر للتو موعد الدواء الذي كاد يفوته أو صلاة العصر ليلحقها جماعة في المسجد، أراه قرر الإسراع في المشي بعزم حسب طاقته…

لكل منهما حربه الخاصة، وبين الحربين حياة طويلة أكاد أهدرها أنا بالمعارك اليومية والتذمر من اللحظات التي أظنها عصيبة، أكاد أفلتها من قبضتي بسبب التعب الذي أخاله جسديا وهو ليس إلا تراكم نفسي لخيبات أمل “بسيطة”…

أطوق فنجاني الصغير بأصبعي، وأسرح بذهني في حياتي ومنعرجاتها، وقبل أن أعد نفسي بأن لا أهدر لحظات عمري في التوتر، تمر حملة انتخابية ببوق يملأ الأرجاء وحناجر تصدح بالشعارات، وشباب متطلع، فأرتشف آخر رشفة وأعود لهرولتي.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.