"مسألة الجن في السيرة النبوية والقناة الموازية لمواصلة الدعوة " - بريس تطوان - أخبار تطوان

“مسألة الجن في السيرة النبوية والقناة الموازية لمواصلة الدعوة “

أولا: حضور للجن عند النبي كتنفيس ومواساة عن الغم 

 إن انكفاء الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  نحو الداخل غما وكمدا ،بعد أهوال الطائف وغيره ،والمعوقات ضد دعوته،  لم تكن في الحقيقة  سوى نتيجة انعكاس لحرصه على الآخرين الذي أصبحوا في حكم اليائسين والبائسين، وانغلاق قنوات أنفسهم وأرواحهم عن رؤية التجليات والأنوار التي جاء بها من عند الله تعالى لإنقاذهم هم ،والذي لم يكن له فيها من حظ ذاتي ولو لحظة أو ذرة .

ولم يكن الرسول هو المحبط أو اليائس البائس بدليل قولهs :أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد  الله لا يشرك به شيئا.وهي رؤية واسعة سعة رحمة الله تعالى وشموليتها للماضي والحاضر  والمستقبل ،حيث إن الرسول sيمثل قطبها ومحورها بل عينها كما قد يعبر به لدى العارفين:”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”،”فبما رحمة من الله لنت لهم”.

كما أن هذا الانكفاء والرجوع  بالكلية إلى الباطن ستقابله سلوى وجلوى وتجليات كاشفة لحقيقة الوجود ،وعوالم أخرى غير تلك المحصورة بين الوديان والجدران من عالم الإنس والحيوان.

فكان من بين تلك التجليات والنتائج الإيجابية في الباطن ،بعدما سدت أفق الظاهر من خلال المعارضة والمطاردة ،أن طرحت مسألتان معقدتان ومتراتبتان سواء على المستوى المعرفي أو الوجودي وهما :مسألة سماع الجن وقصة الإسراء والمعراج، حيث لكل مقام مقال ،نقتصر هنا على الأولى .

يقول ابن إسحق:ثم إن رسول الله انصرف من الطائف راجعا إلى مكة  حين يئس من ثقيف حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر  به نفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى ،وهم – فيما ذكر لي- سبعة نفر من جن أهل نصيبين فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا  إلى ما سمعوا ،فقص الله خبرهم عليه قال الله عز وجل: “وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن” إلى قوله تعالى“ويجركم من عذاب أليم” إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة “[1].

وموضوع  الجن في خضم هذه الأحداث التي مر بها النبي، والعوارض التي واجهت دعوته ، سيكون له دلالات معرفية  وعقدية وأبعاد نفسية واجتماعية دقيقة، قد يمر عليها الكثير من الباحثين مر الكرام أو يضرب البعض بها عرض الحائط، إهمالا لشأنها وعدم التطرق إليها ولو بإشارة، من زعم أنها لا تخضع لمقاييس العقل والمنطق، ولا يمكن أن تطرح إلى جانب الواقع الملموس الذي هو من أهم خصائص السيرة النبوية ومقصدها قدوة وأسوة حسنة.

لكن وبمجرد وقفة سريعة وتأمل بسيط فقد تتبين  لنا أهمية هذا الحدث ودلالاته المعرفية ،بل ارتباطه المباشر  بالواقع النفسي والاجتماعي، وخاصة العربي، الذي قد كان لديه إيمان قوي وتصديق جماعي بوجود الجن وتأثيره على حياتهم ونفسيتهم ،حتى إنهم قد يدخلونه في حروبهم ومنازعاتهم ويسمون زعماءهم بأسمائهم وقبائلهم مع تحديد أماكنهم ومساكنهم في زعمهم.

   فمسألة الجن هاته لا يمكن اعتبارها قضية تاريخية عامة أو أنها جزء من السيرة العملية التي تقتضي  الملاحظة والتحليل من خلال المعطيات والآثار الثابتة ،قد يتفق عليها العقلاء جميعا وتقبلها البدائه ،وذلك لما قد يطبع هذه الكائنات من  تضارب بين الخفاء والظهور  وتأرجح بين عالم الغيب والشهادة .

يقول الشيخ محيي الدين بن عربي الحاتمي  واصفا ومقربا الموضوع  قياسا واستشفافا بأن الجن : “كائنات برزخية، أي أنهم لا من عالم الإنس ولا من عالم الملائكة ،وإنما كما ذكر الله تعالى أصل خلقتهم بقوله : ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) )،و النار لها تلونات و تشكلات بحسب  قوة اشتعالها وارتباطها بالمادة الأرضية ، وأيضا  هي  بحسب ارتفاع ألسنة لهيبها وتصاعدها نحو الأعلى ، وهذا ما قد يسهل للجن قدرته على تقمص الشخصيات والظهور على صورة عدة كائنات والقيام بالطيران على مرتفعات قياسية بالنسبة إلى الإنسان ،بل الطيران لحد ملامسة السماء الدنيا كما ورد في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف .

فتفاصيل وجودهم قد تحدث عنها القرآن الكريم في سورة خاصة بهم وهي “سورة الجن“،  التي فيها تأكيد على قابلية تواصل هذا الكائن الخفي مع الإنس والتقارب معه لغاية التقاطع أو التضارب في المصالح والمفاسد على حد سواء .ولكن كل هذا قد يتم بضوابط وشروط وقانون وجودي لا يمكن تعديه كما يقول الله تعالى في أول السورة :قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) .

ففي السورة دليل الإدراك عند هذه الكائنات واستعمالها للحواس المقابلة  للإنسان ، كما أن لديها لغة مطابقة أيضا لما عليه لسانه بحسب التموضع الجغرافي والعرقي وما عليه الأعراف والتقاليد ،أو بعبارة أخرى قد يوجد عند الجن مجتمع موازي للإنس بكل ما لديه من مظاهر وأعراض قابلة للاقتباس والتشكل . حتى يمكن اعتبار  هذا تداخلا وتقاطعا بين مجتمعين مختلفين شكلا وجوهرا ،قد لا يوجد قاسم مشترك بينهما سوى الإدراك والتوظيف اللغوي . أي يمكن اعتبار  الجن كتعريف  منطقي بأنه” مارج ناطق  في مقابل الإنسان الذي تعريفه التقليدي أنه حيوان ناطق! ” وهذا التواصل والتقاطع سيشير إليه القرآن الكريم بقوله:وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا .

فلقد جاء هذا الوصف مطابقا لما كان عليه الواقع عند العرب ، في مزاعمهم وظنونهم التي سيختلط فيها الصواب بالخطأ والوهم بالحقيقة ،وذلك بالفصل الغيبي في هذا الموضوع وتخليص الحق من الباطل في قضيته، مؤكدا على أن الجن موجود فعلا  وحقيقة ثابتة، وعلى أن التوهم كما حدث لدى الإنسان  في علاقته بالجن  وعالم الغيب عموما هو نفسه و  بنسب  متقاربة قد وقع لدى الجن وذلك في تحديد علاقتهم ببعضهم البعض ،وأيضا من حيث موقفهم من الدين والعقيدة والعالم الغيب عموما .

كما أن إدراكهم ،بالرغم من طيرانهم وسرعة تحركهم فيزيائيا وروحانيا ،هو محصور ومقيد ،قد يختلط فيه الصحيح بالفاسد والحق بالباطل، وأنهم في حد ذاتهم ليسوا من أهل الغيب وإنما هم بين بين ، كما ذكر الشيخ  محيي الدين ابن عربي الحاتمي ، وهذا ما نص عليه القرآن الكريم في قصة سليمان عليه السلام : ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)[2].

لا أريد أن أسهب في الحديث عن هذا الموضوع  العميق والدقيق، عقديا وفلسفيا وجوديا،  ولكن كنت أود الإشارة فقط إلى أن حضوره  في هذه المحطة والمرحلة بالذات من سيرة النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ربما قد كان فيها تمهيد وإيذان بفتح العوالم الغيبية المتدرجة ،حتى يكون هو قد استوفى ما على الأرض وتحت الأرض  من معرفته بكائناتها ليتسنى له العروج نحو  العوالم الأخرى تساميا ،وارتقاء من مقام إلى مقام وركوبا طبقا على طبق.

 ثانيا: الجن وفتح قناة جديدة وموازية للدعوة الإسلامية

هذا من جهة، ومن أخرى فإنه كما يقول الدكتور محمد علي الصلابي فقد :”هبط هؤلاء الجن على النبي sوهو يقرأ ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا :”أنصتوا“.

هذه الدعوة (العالمية الكونية الشاملة) التي رفضها المشركون بالطائف ستنتقل إلى عالم آخر ،هو عالم الجن ،فتلقوا دعوة النبيs ومضوا بها إلى قومهم كما مضى بها أبو ذر  الغفاري إلى قومه ،والطفيل بن عمرو إلى  قومه ،وضماد الأزدي إلى قومه،فأصبح في عالم الجن دعاة يبلغون دعوة الله :يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

كان هذا الفتح الرباني في  مجال الدعوة ورسول الله s ببطن نخلة عاجز عن دخول مكة ،فهل يستطيع عتاة مكة وثقيف أن يأسروا هؤلاء المؤمنين من الجن وينزلوا بهم ألوان التعذيب؟وعندما دخل النبيs مكة في  جوار المطعم بن عدي كان يتلو على صحابته سورة الجن فتتجاوب أفئدتهم خشوعا وتأثرا من روعة الفتح العظيم في عالم الدعوة ،وارتفاع راياتها ،ليسوا هم وحدهم في المعركة ،هناك إخوانهم من الجن يخوضون معركة التوحيد مع الشرك.

وبعد عدة أشهر من لقاء الوفد الأول من الجن برسول الله s جاء الوفد الثاني متشوقا لرؤية الحبيب المصطفى والاستماع إلى كلام رب العالمين[3].

إنه بمثابة فتح قناة ثانية للدعوة ، أو بعبارة أخرى استعمال الدعوة الموازية كمواجهة نفسية واجتماعية وكبعد إعلامي واسع الانتشار ،هذا إذا علمنا بأن العرب أشد تأثرا بعالم الجن وتفاعلا به من غيره ،الأمر الذي سيجعل الاهتمام بالموضوع كبيرا جدا  والتوجس من حرب الجن ومواجهتهم قائما،بل إن الجن سيكونون أدرى بألاعيب إبليس وأساليب مكره وتمويهه،ومن ثم فقد يسدون عليه المسالك من عدة نوافذ ،مواجهة وتحذيرا وفضحا وتفسيرا ،سواء بالنسبة إلى جنسهم من الجن  أو إخوانهم من الإنس.

وهذه القيمة المضافة إلى الدعوة ستكون بلسما وترويحا نفسيا عن النبي s مما لقيه من سوء معاملة ورد عنيف من طرف أهل الطائف وباقي القبائل العربية الممانعة والصادة للدعوة.

وكما سبق وأشرنا فموضوع الجن قد يتوافق مع  الواقع النفسي والاجتماعي عند العرب عموما،وهو موجود حقيقة ،وحتى إذا اعتبره البعض وهما ،فهذا الاعتراض توهم في حد ذاته ،إذ علم الاجتماع الحديث قد يقر عنصر العقيدة كمكون أساسي للمجتمع وركن في إحداث التغيير فيه ،أيا كان هذا المجتمع وكيفما كان المعتقد.

كما أن العرف محكم في تأصيل التواصل،ومن الأعراف عند العرب أن الجن موجود ويمكن التواصل معه ،إذن فلا غرابة ولا وهم حينما يطرح هذا الموضوع في مقابل الردود السيئة التي صدرت من إنس العرب باستجابة جنهم للدعوة كإشعار  للآخرين بأنهم ليسوا وحدهم من يتخذ القرار  ، وإنما هناك غيرهم من قومهم وفي منطقتهم من هم أقرب إليهم وأشد تهديدا لهم إن هم تمادوا في هذا الصد والمعاداة .

لكن ،والله أعلم، نرى بأن المغلب في هذا التجلي وفتح قناة الجن للدعوة ونشر الإسلام قد كان هو الترويح عن النبي صلى الله عليه وسلم وتحفيزه لمواصلة الدعوة من غير اكتراث أو انكفاء إلى الداخل غما وهما ،إذ في الخارج الجلي والخفي قد يوجد ما به التسلي من عوالم متعددة الصور والخصائص، وهي جاهزة كل الجهوزية لتقبل هذه الدعوة والإيمان بما أرسل به النبيs على أحسن وجه وفي أبهى صورة وتمثيل وامتثال ،كما وصفsرد الجن في سورة الرحمن عند قوله تعالى:” فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ “.

روى أبو عيسى الترمذي  عن جابر قالخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أصحابه فقرأ عليهم سورة ” الرحمن ” من أولها إلى آخرها ، فسكتوا فقال : ” لقد قرأتها على الجن ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : ( فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) ، قالوا : لا بشيء من نعمك – ربنا – نكذب ، فلك الحمد”.

[1] ابن هشام :سرة النبي المجلد 2ص31

[2] سورة سبأ آية 14

[3] الدكتور علي محمد الصلابي :السيرة النبوية ،عرض وقائع وتحليل أحداث ندار المعرفة بيروت ص220-221


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.