لهثٌ خلف السراب - بريس تطوان - أخبار تطوان

لهثٌ خلف السراب

ما أجمل أن يستفيق الانسان من غفلته، ولو بعد أزمة.. ما أجمل أن يعود لطبيعته وأن يرتمي في أحضانها من جديد..

ففي خضم متاهات الحياة، بمنحنياتها المتشعبة.. بإيقاعها السريع.. بجلبتها الخانقة.. يحدث أن يُرَّج الانسان على حين غرة.. أن يفر إلى ملاذه الطبيعي وأن يلقي بنفسه حيث خلق؛ الطبيعة.

ليصير حلم الحياة الوحيد لدى الواحد منا، الجلوس جلسة البسيط.. الهنيء.. المتمتع بخلق الله ومخلوقاته.. والمستمتع بالصفات التي وضعت في ذاته وروحه كذرة في الملكوت العظيم.

لم تأخذ منا الحياة الهناء، لكننا انتزعنا من أنفسنا الحق فيه، حينما لحقنا بصخبها وضوضاءها، وقبلنا أن نكون جزء لا يتجزأ من عجلة ميكانيكية لا تنفك عن الدوران.. لا بداية لها ولا نهاية..

حينما تعمدنا إخفاء الحقيقة الجلية بغربال أحمق، متشبثين بسفاسف الحياة وبقاياها، ظنا منا أنها “حياة”.. وليست سوى زيف مشترك ساهم الكل في بناءه وتشييده فوق سطح هش، بوسعه الانهيار متى أذن الخالق وشاء..

تلك الأيام الميكانيكية التي انخرط فيها الانسان الحديث دون أدنى التفات للذات والروح.. جعلت منه حجرا فوق خارطة مشوهة، يجئ للدنيا جاهلا بالأمور ويتشرب رواسب المجتمع على مضض، ثم ما إن تطأ قدماه سنا متعارفا عليه، حتى يشرع في الركض والهرولة نحو حياة يحلم بها الجميع من أقرانه، ليجد نفسه في الأخير وقد أخذ من عمره أجمل العمر، قابعا وسط العجز والندم والحسرة على ما ضاع منه في غفلة منه وارتباك.. ليفهم آنذاك أن الأسرة رزق، والبسمة رزق، والسعادة الداخلية رزق، والسلام النفسي رزق.. وليدرك حينئذ أن نحنحة الأب ولمسة الأم، ومشاكسة الإخوة، والزوج الصالح والولد البار، وهمس الرضا في دواخله.. كلها أرزاق ثمينة مهما قلّت لن تكون أسمى وأعظم وأثمن من جهاز إلكتروني بات لصيقا به وضغط قاتل يحدق به وصراط طويل يركض فوق ملايين البشر نحو اللاوجهة واللامكان، في صورة منشقة توحي بالوضوح.. وما الإيحاء إلا انعكاس كاذب لما تهوى النفس وتبغي..

فبعد انقضاء فترة الحجر الصحي، وبعد أنا اهتزت الحياة من تحت أقدامنا وارتج الحلم والهدف والمخطط.. وجد معظمنا ضالته وراح يستمد طاقته من بساطة الدنيا.. من طبيعتها.. مما هي عليه..
أدرك معظمنا أن الحياة كذبة كبيرة بإمكانها أن تفتضح أمامه وتنزع قناعها في أي لحظة.. بإمكانها أن تطفئ أنوارها ولن يضيء سبيلنا سوى نور الروح المتوهج.. بإمكانها أن تخذلنا.. أن تنتزع منا ما ظنناه ملكا خاصا بنا..
فبعد مرور الأزمة.. -وإن كنا لانزال نتخبط في ثناياها- فهمنا أخيرا اللهث وراء السراب.. سراب لا قيمة ووجود له.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.