صاحبة "القَبْ التطواني" - بريس تطوان - أخبار تطوان

صاحبة “القَبْ التطواني”

أراها كل صباح بجلبابها البني الفاتح اللون ورداء كتفيها الأسود، تجلس في أعلى درج بإحدى سلالم الشارع العام، تأخذ ركنا في زاوية الشارع وتراقب العالم بعينين جاحظتين تتمردان على غطاء وجهها “القَبْ التطواني” الذي يؤكد انتماءها لجيل الوقار.

سيدة أخذت من العمر رقما عظيما لم يمنعها من التخلي عن زييها الأصيل وأخذ منها الرقم ما يكفي لتجلس كل صباح تسأل المارة بضعة دراهم.

أول ما انتبهت لوجودها، لم أتوقع أن تكون متسولة مررت بجانبها مسرعة ولم أصخ للكلمات التي تمتمت بها لي … ظننتها تحدث أحدا أو ربما تحدث نفسها. لكن حين رأيتها صباح اليوم التالي وأعرت اهتمامي لها تأكدت من أنها متسولة أنيقة!

ما أثار انتباهي حقيقة هو تواجدها في نفس الساعة، تجلس لمدة زمنية محددة كل يوم قبل أن تغيير مكانها أو ربما تدخل بيتها في انتظار صباح اليوم التالي

استجمعت قواي وفضولي وتساؤلاتي كلها وقررت الاقتراب منها بعد أن وضعت بعض القطع النقدية كمفتاح لباب الحديث معها. “السلام عليكم ا الحاجة”: افتتحت المحادثة “ما جاكش البرد هنايا؟” أردف قائلة مضيفة بعض البهارات للحديث، عينين جميلتين تحيط بهما تجاعيد الزمن، كل خط منها يحكي قصة عمر طويل عايش ما عايش من الأحداث، فهمت من نظرتها العميقة أنها تاريخ مهيب، أنها حكاية امرأة قوية تعاقبت عليها السنين ولم تقوى على إطفاء البريق المتلألئ بعينيها؛ “تبارك الله، الله يرحمنا بالشتا” لم أتوقع هذا الرد منها أبدا، كان ردا دافئا جدا، حميميا أكثر مما توقعت … يعكس روحا مطمئنة وراضية …!

تلعثمت أمام ثباتها لحظات ثم تابعت: “عندك شي وليدات؟ ديما كنشوفك هنا فالصباح”؛

“لو كانوا عندي أبنتي منجلسشي هنا …غير كيعملوا حياتهم وكينساو الوالدة” هنا فهمت أن لديها أبناء لكن بتخليهم عنها أقنعت نفسها أن لا أولاد ينتمون إليها …؛ “عايشة بوحدي.. غير أن والله والحمد لله، معنديش ومخسنيش” حجم الرضا والامتنان اللذان كانا يغلفان كلماتها جعلاني أقف وقفة تأمل بيني وبين نفسي وأعيد ترتيب عباراتي من جديد وأنا أتابع حديثي معها، وأفكاري وأولوياتي وأنا أحدث نفسي بعد أن انصرفت إلى حال سبيلي…

حدثتني عن حياتها، عن شبابها، عن قوتها وجمالها وعن ما آلت إليه في الكبر، اشتكت من الحياة التي قررت أن تعيد النظر في الانصاف والعدل معها قبل أن تختم كل جملة تتفوه بها بالحمد والشكر والثناء.

هي حياة لن نستطيع أن نسبر أغوار نوايا إلا بالانغماس وسط مفاجآتها تلقائيا، وحده الإيمان يقوينا، وحده الامتنان يغذي عزيمتنا، وحده الأمل ينير الغد في قلوبنا …، هذه كانت حصيلة حديثي مع “مولات القَبْ” كما يحلو لي أن أناديها متى رأيتها قبل أن تجيبني ب “الله يرضى عليك المرضية” تلك دعوتها الصباحية التي تصاحبها بضحكة مثقلة بالجمال.

مريم كرودي/بريس تطوان


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.