سلسلة تراجم علماء تطوان: العلامة أحمد بن محمد السلاوي - بريس تطوان - أخبار تطوان

سلسلة تراجم علماء تطوان: العلامة أحمد بن محمد السلاوي

خزانته:

كان للسلاويِّ خزانةٌ (متوسِّطةٌ مختارةٌ)[1]، ضمّت من كتبِ المالكية أصولهَا ومتونهَا وشروحَها، إلى كتب أخرى في الخلاف العالي والتفسير والقراءات والأصول والحديث والسيرة والتاريخ ومبادئ العلوم واللغة والنحو، وقد ازدانت حواشيها ـ في الغالب ـ بطررٍ نفيسةٍ لمترجمنا، دالةٍ على سعة مشاركةٍ، وحسنٍ تهدٍّ. ومن العناوين التي أوقفتنا عليها مواردُ ترجمته، وأنقالُه التي عَظُم فيها اهتبالُه بمصادر الفنون، وتكرَّر الاقتباسُ منها في غير موضع:

1 . الفقه المالكي:

المدونة، والبيان والتحصيل لابن رشد، والفروق للقرافي، والرسالة بشروحها وحواشيها للمنوفي وابن ناجي والصعيدي.. والبهجة في شرح التحفة للتسولي، ومختصر خليل بشروحه وحواشيه للزرقاني والخرشي والحطاب والرهوني والتاودي .. وشرح لامية الزقاق لأبي حفص الفاسي، والعمل الفاسي لأبي زيد الفاسي، ونوازل البرزلي، ونوازل العلمي..

2 . التفسير وعلوم القرآن:

مفاتيح الغيب للرازي وبهامشه تفسير أبي السعود، والكشاف للزمخشري..

3 . الحديث والسيرة:

صحيح البخاري، وإرشاد الساري للقسطلاني، وفتح الباري لابن حجر، والمنح المكية في شرح الهمزية لابن حجر، وشرح الهمزية للجوجري، وشرح المواهب اللدنية للرزقاني..

4 . اللغة والنحو:

الخلاصة بشروحها لابن عقيل والمكودي والأشموني، والمغني لابن هشام، والتخليص في علوم البلاغة للقزويني، والقاموس للفيروزآبادي، ومختار الصحاح للرازي، والمصباح المنير للفيومي..

أما الكتب المطرَّرة بقلمه فعدَّ الشيخ المحقق محمد بوخبزة _ رحمه الله _ نماذجَ منها، مما وقف عليه واستجاد ما اكتنفه من الطرر والتعليقات، يقول: (لا يخلو كتابٌ من كتب خزانته المتوسطة المختارة من تصحيح وتوضيب واستدراك، وقفت على كثير منها بين طويلٍ كمفاتيح الغيب للرازي، وشرح المواهب للزرقاني، وإرشاد الساري للقسطلاني، وحاشية الرهوني الوزاني على شرح الزرقاني لمختصر خليل، ومتوسط كبهجة التسولي، والإتقان للسيوطي[2]وغيرهما. ولو جمعت تلك الطرر لكانت حواشيَ قائمة برأسها. ورأيت له على نسخة من سعود المطالع لنجا الأبياري، وهو في مبادئ واحد وأربعين فناً: تحقيقات وتصويبات واستداركات على فنون رياضية وعلمية بحتة كالهندسة والمساحة والحساب والتوقيت والتشريح مما يستغرب صدوره من فقيهٍ مفتٍ في مثل بلده) [3].

وقد بيعت خزانةُ السلاويِّ بالغرسة الكبيرة بتطوان، واقتنى المؤرخ الأستاذ محمد داود حظاً وافراً منها، وضمّه إلى مكتبه العامرة التي تحتفظ بنسخة من (مفاتيح الغيب) للرازي، و(المنح المكية في شرح الهمزية) لابن حجر، وشرح الخرشي على خليل، وحاشية الصعيدي على (نهاية الطالب الرباني) لأبي الحسن المنوفي، وغير هذا وذاك من الكتب الأثيرة المطرّرة عند مترجمنا في إقرائه أو مطالعاته.. أما شيخنا محمد بوخبزة فظفر ب (الإتقان) للسيوطي، وهو من محفوظات خزانته، والطّرر عليه وافرةٌ زاخرةٌ. وكان قد حدَّثني بأن المؤرخ داود سبقه إلى الغرسة الكبيرة، لما علِم بأمر بيع الخزانة من قِبل أحد أبناء المترجَم به، واقتنى عُظم محتوياتها.

المبحث الحادي عشر:

وفاته ورثاؤه:

لبَّى مترجَمنا داعيَ ربّه ضحى يوم الجمعة 11 رمضان 1320هـ موافق 12دجنبر 1902م، بداره القريبة من الجامع الكبير، عن سنٍّ تناهز الثمانين، بعد مرضٍ خفيفٍ ألمَّ به، وتولّى تجهيزه وتكفينه تلاميذه: الرهونيُّ، وابن الأبار، واللواجريُّ، وشيّع جنازته جمعٌ غفيرٌ من أهل تطوان فضلاً عن المشيِّعين المتقاطرين من الضواحي والقبائل المجاورة، ودُفن ( ظهر يوم السبت في القوس الوسط بين الأقواس الثلاثة المقابلة للباب الخارج لباب المقابر، من زاوية الولي الصالح سيدي الحاج علي بركة رضي الله عنه، في القبر الثاني من جهة الجدار الجنوبي، رحمه الله)[4].

وكانت وفاته رزءاً جللاً حلَّ بأهل تطوان، وثغر ثغرةً في الدين والعلم، ومن طالعَ طرره وفتاويه، وتأمَّلها فضلَ تأمّلٍ، أدركَ انفساحَ ذرعه في العلوم، وقيامه على صناعة الفتوى، واضطلاعه بالمذهب على سَنَنِ أسلافه الحذَّاق. وقد أحسن الفقيه المرير في وصفِ مصابِ فقده حين قال : ( فأصيبت أفئدة أهل العلم بمصابه، وخفض مرفوع علم الفتوى بعد انتصابه، وبكى على فقده خاصّة الثّغر وأعيانه؛ إذ ذهب بذهابه قواعد الدّين وأركانه، تغمّده الله برحمته، وأسكنه فردوس جنّته )[5].

أما تليمذه الرهونيُّ فقد رثاه بقصيدةٍ من سبعة عشر بيتاً، بثَّ فيها لواعجه، وعدّد مناقبَ المرثيِّ في العلم والعمل، ودعا له بالغفران والرحمة، ومطلعها :

أسفاً على بدرٍ تغيَّب في الثَّرى= فغدا الفؤادُ من جواه محــــــــــــــــيَّرا

والشَّطرُ الثاني من البيتِ مكسورٌ [6]، وكذلك أبياتٌ من القصيدةِ لا تُقرَأُ إلا على عرجٍ في الوزن، ونشازٍ في إيقاع (الكامل)، فضلاً عن رداءة النَّظم، وخلوِّه من النَّفسِ الشعريِّ المجنَّح، واللّفتةِ الخياليَّةِ البكر!

خاتمة:

درج السلاويُّ، فانطوت بموتهِ صفحةٌ من تاريخ العلم بتطوان، وانقرض جيلٌ من الفقهاء كان لهم رسوخٌ وتفنّنٌ، وكأني بمن أطراه ب (خاتمة المحقّقين) لا يقصد بذلك ثناءً سابغاً، أو تحليةً فائقةً فحسب؛ بل يزيد على ذلك بوحاً بمعتلَج خاطره ونفثةِ صدره ! وإنما تتفاضل العصور بما يكون فيها من خيرٍ، وبما تُنبت من رجالٍ عظام..

والحق أن مترجَمنا أوتي فضيلتين لم يؤتاهما أقرانه وبلديوه:

الأولى: المشاركة الحسنة في العلوم التجريبية كالطب والهندسة والمساحة والحساب والفلك، وكان يتكىء على بعض هذه المعارف في فتاويه، فيحسن التصور وتحقيق المناطات، وحاله هذه تذكرني بما قيل في المازري: ( كان يفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه ).

والثانية: اضطلاعه بالنقد الفقهي، ولا أعلم من كاتفه في هذه الفضيلة، أو بلغ شأوه في استواء الملكة واتساع الأدوات، ولذلك كانت تُعرض عليه الفتاوى للنظر والتصحيح، ولا تكاد تسلم فتوى من سهام كنانته؛ بل إن سهامَه النقديةَ فُوِّقت إلى المفسرين واللغويين وأربابِ التأليفِ عامة، فلم يُخل كتاباً طالعه من طرةٍ استدراكيةٍ تردُّ عبارة إلى حاقِّ نصابها، أو تصحِّح منزعاً من القول، أو تضيف فائدة مغفولاً عنه، وهو في هذا المضمار قرينُ النقادة ابن الفخار القرطبي في علمه وأسلوبه معاً، على اتساع الفجّةِ الزمنيّةِ بين الرجلين.

ومع فضل المترجم واتساع معارفه، فصداه خافت في الآذان، ومكانته مهتضمة عند أهل البحث، وقد أفردت ترجمته بهذا الكتاب نفضاً لغبار الإهمال والتحيّف الذي ران على سيرته ومسيرته، وحجب فواضلَه عن كثير من الباحثين في تاريخ تطوان، ولعلنا نكون قد وُفقنا في إنصافه وإنزاله المنزلة التي تناسبَ مواهبه الثرَّةَ وعلمه الجمَّ، دون نقصانٍ ولا ازديادٍ، وإنما تُكتب التراجم حبّاً للعبرة، ونشراً للفكرة، وطمعاً في جيلٍ قارىءٍ مستهدٍ بأنوار السَّالفين ..

استدراك:

تُرجِم للسلاوي في (معجم علماء اللغة والنحو بالمغرب الأقصى)[7] للسادة الباحثين: حسين زروق، وعزيز الخطيب وعبد اللطيف الخلابي، وذُكرت الترجمة في موضعين من المعجم، بناءً على أن المترجَم بهما علَمان مختلفان، والصحيح أنهما واحد، وقد سبق هذا الوهم إلى خلَد المؤلفين الفضلاء؛ لصنيعِ الرهونيِّ في تاريخه؛ إذ ذكر نسب المترجم به مرة باللام الممدود بالألف: (السلاوي)، ومرة بدون مد: (السلوي)، فأورث ذلك ظنّاً بأن الأول غير الثاني!! ولو وقف المؤلفون على الترجمة المفصلة في (عمدة الراوين) لكانوا في مأمن من هذا الوهم.

ومجموع الترجمتين يفيد أن المترجَم به سلاويُّ اللقب، تطوانيُّ الدار، أقرأ الألفية وأوضح المسالك، ومن طلابه عبدالله الأمراني، ومحد الطاهر الفاسي، وأحمد الرهوني، مع إغفالٍ لتاريخ الميلاد والوفاة.

[1] معلمة المغرب ( محمد بوخبزة ) 15 / 5073 .

[2] الصحيح أن طرر السلاوي على (الإتقان ) من الصنف الأول، وهو الطويل؛ إذ تجاوز عدد الطرر ( 500).

[3] معلمة المغرب ( محمد بوخبزة )، 15 / 5074.

[4] عمدة الراوين للرهوني، 6 / 174.

[5] النعيم المقيم للمرير، 2 / 65 .

[6] يستقيم الوزن على هذا النحو : ( فغدا الفؤاد معذّباً ومحيَّرا ).

[7] 2 / 96 ، 2 / 146.

د. قطب الريسوني

المصدر: جريدة الشمال الورقية


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.