رواية “التطاونيات”… ظهور فطومة - بريس تطوان - أخبار تطوان

رواية “التطاونيات”… ظهور فطومة

بريس تطوان

المشهد الخامس عشر: ظهور فطومة

عند عودتها إلى تطوان استقرت الزاهية في منزل سي سلام زوج ابنتها المختفية “فطومة” لكون منزلها كان مقفلا لمدة طويلة وبالتالي يحتاج إلى إصلاحات كبيرة. هكذا أصبحت حليمة وجدتها الزاهية وعمتها البتول تعشن تحت سقف واحد ولهن قضية واحدة ووحيدة هو البحث عن فطومة وفك لغز اختفائها. ومن حين لآخر كانت تزورهن الاسبانية صديقة فطومة السيدة “ماريا أنخليس” والتي زودتهن بمعلومات قيمة مرتبطة بذلك الاسباني الذي أراد شراء تلك الوثائق النفيسة من فطومة ولكنها رفضت بقوة كما عبرت في عدة اجتماعات معها أن لها قناعة كبيرة كون أن هذا الإسباني الذي له يد طويلة في المخابرات الإسبانية هو الذي اختطف فطومة. لكن البتول كان لها رأي آخر بحيث تقول إن فطومة معتقلة بدار بريشة لكونها صرحت عدة مرات أنها ترفض الانخراط في الحزب الذي أراد أن يهيمن على الساحة السياسية. وكان لكل واحدة منهما أدلة قاطعة على ما تقولان.

في أحد الأيام وفي وقت متأخر من الليل وبينما حليمة وجدتها الزاهية وعمتها البتول في المنزل يتجاذبن أطراف الحديث سمعن طرقات قوية على الباب، تساءلت الزاهية على من يطرق الباب في هذا الوقت المتأخر من الليل وذهبت حليمة مسرعة لفتح الباب وإذا بها “ماريا أنخلس” واقفة أمام المنزل وهي ترتعش ودخلت بسرعة وهي تقول أقفلي الباب أقفيلي الباب، طلبت المعذرة من الجميع لكونها زارتهن في هذا الوقت المتأخر من الليل لكنها بررت زيارتها هذه بكون أنها رأت فطومة “مكتفة اليدين يقودها أحد الرجال إلى مكان مجهول بعدما أخرجها من منزل ذلك الاسباني المخبر. ثم عم صمت رهيب لمدة طويلة. ثم قالت الزاهية: هل رأيتها أنت بعينك أم أحد قال لك أنه رآها؟

قالت مريا أنخلس وهي ترتعش وبصوت خافت يكاد يسمع: نعم رأيتها بأم عيني من نافذة منزلي الموجود بنفس العمارة الموجود بها منزل ذلك اللعين المخبر الإسباني. وعندما أردت أن أتيقن خرجت من المنزل ونزلت الدرج إلى أن وصلت السيارة وتيقنت من أنها هي، فكلمتني قائلة: ماريا أنخليس صديقتي أنقذيني من هذا المجرم ثم انصرفت السيارة بسرعة وسجلت رقمها، وعندما عدت إلى المصعد وجدت ذاك المخبر وبدأ ينظر إلي نظرات حقودة لكنني لمته على ما يفعل بفطومة المرأة العالمة والمثقفة، لكنه هددني ولم يبال بما أقول ودخل منزله وأتيت أنا عندكم مسرعة إلى هنا لأخبركم بما وقع.

قالت لها الزاهية: وماهو المعمول الآن؟

قالت ماريا أنخليس: اقترح عليكن أن نذهب الآن إلى القنصل الاسباني نخبره بما جرى، إنه صديق لي وسيتفهم الأمر.

ذهبت الزاهية والبتول بسرعة في سيارة ماريا أنخليس إلى منزل القنصل العام الاسباني وتركن حليمة في المنزل تراقب حالة أبيها سي سلام المريض. وعند وصولهما دقت ماريا أنخليس على الباب فإذا بهن يسمعن صوت القنصل يقول من يدق في هذه الساعة؟ قالت “ماريا أنخليس” أنا ماريا سامحوني ادق عليكم في هذا الوقت لكنني أتيت لأمر مهم. فتحت الباب السيدة “خولييتا” زوجة القنصل ودخلن إلى المنزل فطلبت منهن الجلوس وحكت ماريا لخولييطا كل ماشاهدته. أنخليطا هذه كانت مهتمة كثيرا بقصة فطومة المرأة المثقفة ذات المخطوطات الغزيرة والنفيسة بعدما حكت لها ماريا أنخليس كل التفاصيل عن فطومة وغموض اختفائها فأصبحت مهتمة باختفاء فطومة وبسر اختفائها.

قالت ماريا أنخلس هل القنصل مستيقظ؟

قالت خولييطا: نعم إنه في مكتبه يحرر بعض التقارير إذ كان اليوم مشغولا بعدة قضايا إلى درجة أنه تناول وجبة العشاء في مكتبه.

قالت ماريا: هل يمكنني أن أحدثه في الأمر؟

قالت خولييطا: سأحاول أن أقنعه ثم دخلت إلى مكتبه

وما هي إلا لحظات حتى خرج القنصل وسلم على الجميع ثم قال لماريا أنخليس: أهلا بأستاذتنا الجليلة لم نرك منذ زمن بعيد، هيا قل لي ما بك.

قالت ماريا أنخليس: إنك تعرف أنطونيو

قال: نعم أعرفه جيدا

قالت: ولربما سمعت باختطاف فطومة صاحبة المتحف

قال: نعم سمعت عنها لكن لا أعرف تفاصيل هذه القصة. وما علاقة أنطونيو بفطومة المغربية.

قالت ماريا أنخليس: اليوم وبينما أنا أتأهب إلى النوم سمعت سيارة وقفت أمام العمارة التي أقطنها فإذا بي أرى رجلا طويل القامة خرج من العمارة مرفوقا بفطومة وهي مكتفت اليدين. عندما رأيت هذا المشهد خرجت بسرعة من المنزل ثم من العمارة واقتربت إلى السيارة فإذا بي أرى فطومة شاحبة الوجه وهي تقول لي يا صديقتي ماريا أنقذني من ذلك المجرم أنطونيو إنني اشتقت إلى ابنتي حليمة وزوجي سلام. لكن السيارة ذهبت بسرعة وبينما أنا راجعة إلى المنزل لأرتدي لباسي وأخبر الشرطة التقيت بأنطونيو وهو بباب العمارة وحدرته من مغبة ما يفعل بهذه البريئة لكنه أجابني بالجملة الثالية: لن تستطيعيإنقاذها مني حتى تستجيب لرغباتي وتبيع لي كل الوثائق النفيسة التي تملك. ثم دخل منزله وأقفل الباب بقوة. حينها تأكدت من أنه هو المجرم مختطف فطومة المرأة المثالية المثقفة والعالمة ودخلت منزلي وذهبت بسرعة إلى عائلة فطومة لأخبرهم بالحدث ثم أتينا إليك هنا لتساعدنا على انقاذ فطومة.

بدأ القنصل ينظر إلى الأرض ويتأمل بعدما كان ينصت بإمعان لماريا أنخليس، ثم رفع رأسه وهو يقول: أنطونيو هو الذي اختطف فطومة، يا للعجب. ثم نظر إلى ماريا أنخلس وقال لها: في رأيك لماذا اختطفها؟

قالت ماريا أنخليس: إن فطومة لها متحف عريق ووثائق نفيسة تعد بالآلاف وأراد أنطونيو أن يشتري كل ذلك منها لكنها رفضت فاعتقلها، هذا هو التفسير الوحيد لاختفائها.

سكتت ماريا أنخليس قليلا ثم استرسلت قائلة: منذ البداية كان لي اليقين ان أنطونيو هو الذي اختطف فطومة ولم يكن لدي أي شك في أنه هو المجرم لقد رأيته كيف كان يتعامل مع فطومة في متحفها بحيث كان يشتمها ويهددها شر تهديد، إنني أعرف سلوكه السيئ منذ زمن بعيد واليوم تأكد لي ذلك بوضوح، لقد رأيت فطومة بأم عيني مكتفة اليدين وخارجة من العمارة التي يسكنها أنطونيو ومن خلال كلامه معي أكد لي أنه هو المختطف وأنني سوف لن أقدر على انقاذها منه.سكتت قليلا فبدت وكأنها تتحدث مع نفسها وهي تقول: كانت المسكينة شاحبة وهي تطلب مني أن أنقذها، كان بإمكاني أن أشد بيدها ولا أطلقها لكن السيارة كانت أسرع مني. وبدأت ماريا أنخلس تبكي وهي تقول لقد ضيعت الفرصة لإعادة فطومة لمنزلها ثم اتجهت إلى حليمة وهي تقول: سامحيني يا حليمة كان بإمكاني أن أنقذ أمكوأرجعها إليك وإلى زوجها سي سلام الذي يعاني كثيرا من اختفائها، لكن السيارة يا ابنتي كانت أسرع مني وبدأت تبكي بكاء شديدا.حينها تقدمت الزاهية نحو القنصل وهي تقول إليه: أتوسل إليك سيدي القنصل أن تتدخل بسرعة قبل فوات الأوان، ساعدنا على إنقاذها من فضلك.

قال القنصل: أنا سأتدبر الأمر، عليكما أن تذهبا الآن واسترحن وفي الصباح ستجدون خبر فطومة عندي. هذه الليلية سوف لن أنام حتى أعرف مكان فطومة.

انصرف الجمع وذهبت “ماريا أنخليس” إلى منزلها بعدما أوصلتبسيارتها كل من الزاهية والبتول إلى منزل سي سلام ووجدن حليمة تنتظرهن بشوق كبير. لم تر عينا حليمة ولا “الزاهية” النوم تلك الليلة وهما تنتظران طلوع الصباح حتى يتمكن من ملاقاة فطومة المرأة الخلوقة والبشوشة والعالمة التي طال غيابها. أما سي سلام فكانت فرحته كبيرة بحيث كان أول خبر مفرح متعلق بزوجته “فطومة” بالخصوص وأن التي رأتها صديقتها منذ زمان وتمتاز بأخلاق عالية ولا تعرف الكذب. سي سلام كان يحب زوجته كثيرا وعندما اختفت فقد توازنه النفسي لأنها كانت بالنسبة إليه كل شيء لم يكن يتصور أن يعيش من دونها، وكان يستشيرها في كل أموره، وكانت تنير له الطريق بأفكارها النيرة واقتراحاتها الحكيمة. كانت ساكنة المدينة العتيقة تعرف قيمة سي سلام والخدمات الجليلة التي قدمها لشباب هذه المدينة. فبالإضافة إلى أنه أستاذ مقتدر للغة العربية كان يحب طلبته ومتواضع معهم، كما كان أديبا وكاتبا وروائيا وشاعرا وكتب عدة مسرحيات قام بأدوارها شباب وشابات المدينة، وكان يسعدهم ذلك وفي كل مرة ينتظرون إصداراته الجديدة بلهفة كبيرة. سي سلام هو بدوره ينتظر الصباح ليقابل أعز إنسانة أحبها وأحبته.

جاء الصباح وتناولت الزاهية فطورها برفقة البتول وحليمة وسي سلام وبدأت تنتظر الساعة العاشرة صباحا وهو الموعد الذي اتفقت فيه مع ماريا أنخليس لكي تأتي إلى منزل السي سلام ويذهبن هن الثلاثة إلى القنصلية. لكن مرت ساعة على الموعد ولم تأت ماريا أنخلس. انتظرت إلى الساعة الثانية عشرة لكن بدون جدوى لم تأت ماريا أنخلس. فكرت الزاهية كثيرا ثم طلبت من البتول أن تصاحبها إلى القنصلية. عند وصولهما أخبرت الزاهي الحارس أن لهما موعدا مع القنصل. غاب الحارس هنيهة ثم خرج وقال لهما تفضلا القنصل ينتظركما في مكتبه. دخلت الزاهية والبتول ثم صعدا إلى الطابق الأول ومرا من بهو كبير فوجدا كاتبة القنصل فطلبت منهما أن تنتظرا. وما هو إلا وقت وجيز حتى خرجت الكاتبة مبتسمة وهي تقول لهما تفضلا. دخلت الزاهية والبتول فسلم عليهما القنصل بحرارة وبابتسامة عريضة تم طلب منهما الجلوس وجلس هو على مكتبه. ووقع صمت رهيب.

نطقت الزاهية بصوت خافث قائلة: اين هي فطومة؟ هل عثرتم عليها؟

سكت القنصل قليلا ثم قال: لا ليس بعد.

قالت الزاهية: ألم تقل لنا البارحة أنك ستتدبر الأمر وستجد فطومة المختفية منذ زمن بعيد، بالخصوص وأن “ماريا انخلس” أخبرتك بأنها رأت فطومة كما رأت انطونيا داخل العمارة التي خرجت منها فطومة مكتوفة الأيدي واقتادوها إلى مكان مجهول.

قاطعها القنصل قائلا: هل تعرفان شخصا آخر رأى فطومة غير “ماريا أنخلس”؟

قالت الزاهية متعجبة: هل أصيبت “ماريا أنخليس” بمكروه؟

قال القنصل: لا لم تصب بمكروه. ولكن البارحة عندما واعدتكنأنني سأتدبر الأمر قمت ببعض الاتصالات وتبين لي أن أنطونيو غير موجود بتطوان وهومنذ ثلاثة اشهر موجود بمدريد وماريا أنخليس تقول أنها رأته البارحة في عمارتها. كما تحريت بعض المعلومات فوجدت أن أنطونيو لم يسكن قط بالعمارة التي تسكن فيها “ماريا أنخليس”.

قالت الزاهية: وماذا تريد ان تقول من هذا الكلام؟

قال القنصل: ما أريد أن أقوله هو أن كل ماحكته البارحة “ماريا أنخلس” لم يكن حقيقة بل كان فقط في مخيلتها. حتى رقم السيارة التي أعطتني فهذه السيارة غير موجودة. سكت القنصل قليلا ثم استرسل قائلا. إن “ماريا أنخليس” كانت تعاني مؤخرا اضطرابات نفسية فأعطتها المدرسة التي تدرس بها إجازة لتتابع حالتها عند بعض الأطباء النفسانيين بمدريد.

لم تستوعب الزاهية هذه القصة المحبوكة والتي ذهبت ضحيتها “ماريا أنخليس”، فزادها هذا اسرارا على اتهام أنطونيو فرفعت دعوى ضده لكون أنه هو من اختطف فطومة. والسبب واضح هو رفضها بيعه المخطوطات والوثائق النفيسة. كما استعانت فطومة بشهادة خوليطا زوجة القنصل التي كانت حاضرة لشهادة “ماريا أنخلس” كما شهدت أن “ماريا أنخليس” صديقتها منذ زمن بعيد لم تظهر عليها أية اضطرابات نفسية. في اليوم الموالي وقع حدث غريب نزل كالصاعقة على كل أفراد عائلة فطومة وصديقاتها وهو خبروفات “ماريا أنخلس” في منزلها بعدما تسرب الغاز من القنينات ولم تنتبه، فأصبحت جثة هامدة.

بعد ثلاثة أيام على فاجعة مقتل “ماريا أنخلس” وبينما الزاهية وحليمة وعمتها البتول منشغلتين بالأعمال المنزلية إذ سمعن دقات على الباب فذهبت حليمة لفتحها فإذا هي “خوليطا” سلمت عليهن سلاما حارا واستضفناها لشرب الشاي مع بعض الحلويات وشكرنها كثيرا على موقفها الثابت وشهادتها الحاسمة. لكنها فاجأتهن عندما أخبرتهنبأنها ستنتقل إلى تونس لأن زوجها القنصل جاءه انتقال مفاجئ إلى تونس. وقبل أن تودعهن وتنصرف قالت لهن: لي عندكن خبر يهم فطومة. البارحة التقيت بصديق مغربي تدرس ابنته مع ابنتي في نفس القسم و أخبرته بقضية فطومة وقال لي إنه رآها بجنان بريشة الموجود بحي “عقبة الحلوف”.

قالت الزاهية: ما اسمه؟

قالت خوليطا: اسمه بوغالب البقالي

قالت: البتول إني أعرفه كان صديقي في الحزب منذ زمان عندما كنا ننشط في شبيبة الحزب.

قالت الزاهية: وهل يمكن أن تتصلي به؟

قالت البتول: نعم يمكنني أن أتصل به وأعرف منزله.

قالت خوليطا: سأودعكن الآن وأتمنى أن ترجع فطومة إلى عائلتها، فودعتهن، ثم انصرفت عبر دروب المدينة وهي تبكي لكونها ستفارق أجمل مدينة عتيقة عاشت فيها، بأقواسها الجميلة وأبوابها الرائعة ودروبها وساحاتها التي يفوح منها عبق التاريخ العريق والفنون الجميلة.

غدا صباحا استيقظت البتول باكرا وتناولت وجبة الإفطار وذهبت إلى الحزب تسال عن بوغالب البقالي، لكن أصدقاءه في الحزب قالوا لها أنهم لم يروه منذ زمن بعيد وأنه أصبحت له مواقف من عدة مناضلي الحزب لكنهم دلوها على أحد النوادي المهتم بمجال التراث يدعى نادي التراث والتنمية والمواطنة، حيث يكون في غالب الأوقات هناك. دخلت البتول إلى النادي وإذا بها ترى صديقها ورفيقها في النضال السيد بوغالب البقالي والذي لم تتغير ملامحه ومازال محافظا على لياقته وصحته. سلما على بعضهما سلاما حارا وخاضا في الحديث عن الماضي وذكريات الشباب عندما كانا في شبيبة الحزب، كما استضافها لمقشدة النادي لشرب الشاي وبعض الحلويات. فاسترجعت البتول ذكريات نضالاتها وحيوياتها التي كانت قاب قوسين أو أدنى أن تمحى من ذاكرتها. فرحت البتول فرحا كبيرا بلقاء السيد بوغالب البقالي الرجل الخلوق والأنيق والمحترم. وقبل أن يفترقا طلبت منه أن يجلسا لوحدهما في إحدى الطاولات بالمقشدة ثم قالت له: أتيتك في ما يخص امراة معتقلة بجنان بريشة اسمها فطومة.

قال لها: وهل تعرفين فطومة صاحبة المتحف؟

قالت: نعم إنها زوجة أخي.

طأطأ راسه ثم قال: عندما أفكر في فطومة ومثقفات ومثقفين آخرين معتقلين بجنان بريشة تصيبني الكآبة، وهذا هو الخلاف الذي كان بيني وبين مناضلي الحزب، وعندما أصروا على الاستمرار في اعتقالهم جمدت عضويتي واشتغلت في نادي التراث والتنمية والمواطنة.

قالت البتول: حسنا فعلت، فهؤلاء المثقفون والعلماء هم من خيرة مفكري البلاد فكيف سمحت لهؤلاء أنفسهم باختطافهم واعتقالهم وتعذيبهم؟ سكتت قليلا ثم قالت له هل يمكنك مساعدتي لكي نخرج فطومة من هذا المعتقل؟

قال: مستحيل، لأن أوامر الاعتقال تصدر عن جهات عليا داخل الحزب.

قالت: أرجوك

قال: مستحيل

سكتت قليلا ثم قالت: هل يمكنني أن أراها وأكلمها؟

فكر قليلا ثم قال: سأتصل ببعض أصدقائي وسأخبرك.

مر أسبوع على لقاء البتول وبوغالب البقالي، وبينما البتول داخل بيت سي سلام تقرأ احدى المجلات إذ سمعت دقات على الباب فإذا به طفل قال لها هل هنا تسكن البتول قالت له: أنا البتول. قال لها: إن البقال يقول لك اليوم على الساعة الثالثة مساء في نفس المكان. فهمت البتول أن البقال هو بوغالب البقالي لأن البقال كان هو اسمه السري داخل الحزب.لم يكن يفرقها عن الساعة الثالثة سوى ساعة واحدة. لذا قامت ورتبت بسرعة بعض الأمور داخل المنزل ثم لبست ثيابها وانصرفت نحو مقر نادي التراث والتنمية والمواطنة فرأت بوغالب أمام مقر نادي التراث والتنمية والمواطنةفأشار لها من بعيدبأن تلتحق به وراء مقر النادي فوجدته جالسا بمقهى صغير هو وامرأة كبيرة في السن، امرأة تطاونية بجميع المواصفات ويبدو عليها الوقار. تبين للبتول أن هذه المرأة تعمل طباخة داخل دار بريشة وهي خالة بوغالب واقترح عليها أنها يمكنها ان تدخل إلى دار بريشة وتلتقي مع فطومة بصفتها شغالة ومساعدة لهذه الطباخة.

لم تنس حليمة ذلك اليوم الذي حكت فيه عمتها البتول عن لقائها مع فطومة بدار بريشة، وكيف كانت نظرات جدتها الزاهية مركزة على شفاه البتول تسمع بتمعن كل كلمة تقولها بالخصوص وأن هذه أول مرة تلتقي البتول مع فطومة منذ اختفائها. كان وصف البتول لملامح فطومة وصفا دقيقاوالمهم في كل هذا هو انها مازالت على قيد الحياة. كان فرحا ممزوجا بالحزن والأسى، فرحا لكونهن سمعن أخبار حقيقية عن فطومة ولكونها مازالت على قيد الحياةوحية ترزق، أما الحزن فلكونها معتقلة رغم أنها لم ترتكب أي جريمة أو ذنب ورغم أنها من المثقفات العالمات التي ذاع صيتهن داخل المغرب وخارجه وهناك عديد من أمثال فطومة داخل ذلك المعتقل.قالت البتول أن معنويات فطومة مرتفعة وأنها صابرة على البلاء الذي أصابها. كما صرحت لي بأن اختطافها تم بأوامر من أنطونيو لأنها رفضت بيعه الوثائق التاريخية النفيسة التي تملكها والتي تعتبر أنها ليست ملكا لها وحدها بل هي ملك لجميع المغاربة. وعندما التقت بي “ماريا أنخليس” وأنا مكتوفة اليدين بعدما رأتني خرجت من العمارة التي يقطنها أنطونيو، خاف أنطونيو أن ينكشف أمره فوضعوني في مزرعة خارجة تطوان وطلبوا من أحد عملائهم أن يتصل بالحزب ويخبر بأن فطومة صاحبة المتحف التي رفضت الانضمام إلى حزبهم موجودة بالمزرعة الفلانية، فتوجهت مجموعة من أعضاء الحزب إلى المزرعة وأخذوني إلى معتقل جنان بريشة.

عندما انتهت البتول من الكلام عن لقائها مع فطومة قالت الزاهية: وماذا سنفعل الآن؟

قالت البتول: غدا سأعود إلى دار بريشة مع الطباخة فاطمة وسأحاول معرفة المكان جيدا حتى أتمكن من إيجاد حل لتحرير فطومة من المأزق المتواجدة فيه.

فقالت حليمة: اشتقت لرؤية أمي المسكينة فأكيد أنها تتألم ثم أجهشت بالبكاء.

تقدمت إليها الزاهية وضمتها إلى صدرها وهي تقول: لا تحزني يا ابنتي إن الفرج قريب. حاولت بعض الدموع التسرب إلى عيون الزاهية لكنها كانت صامدة كالجبل ثم قالت: لايجدينا البكاء في شيء يا ابنتي علينا أن نتحلى بالشجاعة واليقظة حتى نتمكن من انقاذ أمك.

صباح الغد ذهبت البتول إلى جنان بريشة مرفوقة بالطباخة فاطمة، وفي الطريق أخبرتها فاطمة أن بعد غد سيرسل الحزب مجموعة من معتقلي جنان بريشة إلى كرسيف ومن بينهم فطومة وأن صديق بوغالب سيرافقهم وأنه اتفق معه أنه سيهرب فطومة مع مجموعة أخرى إلى البحرعند وصولهم إلى حضيرة وادي لاو وسيجدون على الشاطئ قاربا ينتظرهم ليوصلهم إلى اسبانيا. ثم قالت لها عندما تلتقي بفطومة بالداخل أخبريها بذلك وقل لها عندما يفتح الباب الخلفي للشاحنة “بوادي لاو” تقفز بسرعة وتتجه نحو البحر ستجد قاربا ينتظرها هناك، وسيذهب بها وبمجموعة أخرى إلى اسبانيا، سكتت الطباخة شيئا ما ثم توقفت عن المشي وهي تنظر إلى الأرض وتفكر ثم رفعت رأسها وقالت للبتول وإن كان لك عنوان لأحد أقاربكم في إسبانيا فيمكنك إعطاؤه إياهربما ينفعها. تذكرت فطومة أن في حقيبتها “بطاقة زيارة” الأستاذة الاسبانية صديقة فطومة “ماريا أنخلس” كانت قد اعطتها إياها عندما زارت معها ومع الزاهية منزل القنصل.

عندما دخلت البتول مع الطباخة فاطمة توجهتا مباشرة إلى المطبخ وبدأتا بإعداد طعام فطومة فأخذته البتول إلى فطومة بالطبق الثاني وأخبرتها بما قالت لها فاطمة الطباخة كون أنهم سيهربونها إلى اسبانيا وعليها ان تتبع الخطوات المبرمجة لنجاح تهريبها ثم ناولتها “بطاقة زيارة” صديقتها “ماريا أنخليس” والموجود بها عنوان وهاتف ماريا. وسلمت عليها سلاما حارا ثم ودعتها وانصرفت إلى المطبخ. وبينما هي في الطابق الأول فإذا بهم ثلاث رجال من الحزب مارين من امامها فبدأ ينظر إليها أحدهم بإمعان وهو يقترب منها ثم قال: أليست هذه البتول التي كانت تعادي حزبنا؟ إنتبه الآخران ثم قالا نعم إنها هي. فقال لها الأول: ماذا تفعلين هنا أأنت تتجسسين علينا؟ خافت مريم وأصابها الرعب ثم انطلقت تجري نحو المطعم فالتحقوا بها بسرعة وقيدوا يدها ورجليها ووضعوها بقاعة مقفلة بإحكام في الطابق السفلي فأصبحت بدورها مختطفة.

مر أسبوع على اعتقال البتول في جنان بريشة وبينما حليمة مارة من إحدى المكتبات بدأت تقرأ عناوين الصحف المعروضة بجانب المكتبة فإذا بها تقرأعنوانا عريضا: وفاة المناضلة البتول في حادثة سير مرعبة بين تطوان ومرتيل. ولاحظت أن جل الجرائد تحمل نفس العنوان مع صورة للبتول ملطخة بالدم داخل سيارة مقلوبة وسط الطريق. اشترت حليمة الجريدة وانطلقت بسرعة إلى المنزل.

نزل حدث وفات البتول على العائلة كالصاعقة، بحيث تألم سي سلام كثيرا على وفات أخته  بالخصوص وأنه بدأت تصله أخبار مفرحة عن زوجته فطومة عن طريقها، أما الزاهية فرغم أنها حزنت كثيرا لوفاة البتول إلا أنها بدت متماسكة وطلبت من السلطات المحلية أن تقوم ببحت مفصل عن أسباب وفات البتول كما اتصلت ببعض الجمعيات الحقوقية وأخبرتها بما حصل وبمعتقل جنان بريشة وما يشوبه من تجاوزات لا إنسانية. كما انخرطت في جمعية نسائية متضامنة مع معتقلات جنان بريشة وقامت بعدة لقاءات صحفية.

بعد مرور سنة على وفات البتول عقدت الزاهية جمعا عاما لتقويم ما وصلتإليه الجمعية وحضر الجمع الكثيروالكثيف من النساء التطاونيات المناضلات ومن النواحي كالعرائش والقصر الكبير وشفشاون وأصيلة وطنجةالغفير منهن، كما حضر كم مهم من أفراد العائلات التي عانت من معتقل دار بريشة. كان فعلا حضورا مكثفا.

كانت كلمة الزاهية قوية وجريئة شدت إليها الأنظار حيث رفعت معنويات المناضلات وهزت هممهن وشكرتهن على جديتهم وتفانيهم في العمل، كما فضحت كل المتورطين والمتواطئين الذين تسببوا في اعتقال وتعذيب شرفاء المدينة ومثقفيها وعلمائها ونشطائها. ولأول مرة ترى حليمة جدتها تتكلم بحرارة وبصوت مدووبخشوع كبير وتركيز فريد. بدأت حليمة تتأمل في جدتها وهي تتكلم بحماسوبكلمات تخرج من أعماق قلبها وهي تتصبب عرقا، أدركت حليمة المعاناة الداخلية التي كانت تعانيها الزاهية وها هي الآن تتفجر كالبركان. وفعلا ما عانته الزاهية من قساوة وجفاء ليس بالشيء الهين. فليس من السهل أن ترى جدها “الحداد الحكيم” وأمها “فامة بنت الحداد” وأباها “أحمد النجار” يعدمون أمام عينيها وهي مازالت صغيرة، وليس من السهل أن تتهم بجريمة وتقضي سنين عديدة خارج الوطن بسبب ذلك وفي النهاية تظهر براءتها بوضوح للعيان، وليس من السهل أن تخطف ابنتها فطومة ولم تراها بعد إلى يومنا هذا، وليس من السهل أن تهاجر صديقات ابنتها فطومة إلى اسبانيا، وليس من السهل ان تقتل أخت زوج ابنتها البتول المناضلة من أجل ابنتها فطومة. لقد مورس ظلم كبير على الزاهية التطوانية وأمثالها والكثيرات فضلن الصمت لكن الزاهية كانت كذلك البركان المدوي، وعرت على واقع كان من الصعب أن يتكلم فيه الرجال وما بالك بالنساء.

أما المفاجأة الكبيرة في هذا الجمع العام فكانت الكلمة التي ألقتها حليمة باسم أمها فطومة حيث قالت إنها توصلت اليوم برسالة من أمها فطومة آتية من اسبانيا وتلت نص الرسالة الذي كان على الشكل التالي:

ابنتي العزيزة حليمة، أمي الحنونة الزاهية، زوجي العزيز سي سلام، جميع أعضاء الأسرة الكريمة أيها الأصدقاء والصديقات في البداية أحييكم على نضالاتكم والمجهودات الكبيرة التي قدمتموها من أجلي ومن أجل عديد من النساء التطاونيات المعتقلات بجنان بريشة،وأحيي عاليا المناضلة البتول التي ضحت بحياتها من أجلي عندما غامرت ودخلت إلى معتقل جنان بريشة من أجل إنقاذي متنكرة في ثياب شغيلة مع فاطمة المشرفة عن مطبخ جنان بريشة، كما نسقت مع الرجل الشهم المناضل بوغالب البقالي لتهريبي من جنان بريشة إلى إسبانيا وأعطتني عنوان “ماريا انخليس” بإسبانيا الذي لولاه ما كنت أدري ماذا سيكون مصيري في إسبانيا. كما أحيي باسمكم وباسم جميع معتقلات جنان بريشة صديقتي العزيزةوالأستاذة المكافحة والفاضلة الإسبانية “ماريا أنخليس”التي كان لها الفضل في اكتشاف مكاني وفضح أنطونيو المجرم ذلك الشرير المقيت الذي أراد الاستحواذ على وثائق ومخطوطات تطوان. فأدت المسكينة الثمن باهضا بحيث اتهمت بالجنون ورحلت إلى إسبانيا، ولما فضح أمره دفع بي لأسجن بجنان بريشة عبر بعض عملائه.

أحبتي الأعزة كان بودي أن أسلم عليكم جميعا قبل أن أرحل عن هذا الوطن، لكني كنت مرغمةولميكنلي اختيار آخر غير الهروب عبر قوارب الموت لكي أنجو من الموت. وأنا أركد وأجري على شاطئ “وادي لاو” خائفة أترقب والتفت حولي حتى وصلت إلى القـــــــارب وأنا أرتعــــــــش ومن حولي مجموعة من المناضلات حالتهن تدمي القلوب، كنا نصارع الوقت لنصل ونرحل وننجو من الهلاك. كان بودي أن أسلم عليكن واحدة واحدةلكنحاجتي إلى الوقت كانت كبيرة وإلا لخطفني الخاطفون من جديد وأعادوني إلى معتقل الرعب.عندما ركبنا البحر وكانت أمواجه عالية احسسنا بالأمان، لأننا ارتأينا أنهدير البحر أرحم من هدوءمعتقل جنان بريشة. كان بودي أن أضمكن جميعا إلى صدري لكن خفت أن يؤذي مشاعركم هذا الوداع، ففضلت أن أنسحب من المشهد كذلك المصارع الذي انهزم أمام الملأ وكان بوده أن ينتصر لكن قواعد اللعبة كانت أقوى منه فأرغمته أن ينسحب في صمت مطأطئ الرأس معترفا بهزيمته المريرة. رحلت عن هذا الوطن دون أن أودع أحدا أو أساهم في حزن أحد أو أوذي أحدا. ليلة الهروب الكبير سألتني صديقتي في السجن: أأنت فعلا هاربة غدا من هذا الوطن؟ قلت لها: كان بودي أن أصارحك منذ وقت بعيد لكن لم أستطع كي لا تحزني. نعم إنني هاربة غدا من هذا السجن الكبير.

وأنا على قارب الموت في ظلام دامس بأعالي البحار والأمواج تهزنا هزا كنت أسأل نفسيما هو الذنب الذي ارتكبته حتى أهاجر بهذه الطريقة البشعة الاإنسانيةوأنا امرأة مسالمة مشغولة بالعلم والكتب والمخطوطات؟ كم كنت عبيطة وأنا أجري في ظلام الليل على الشاطئ وأنا راكبة قارب الموت تلطمنا الأمواج أفكر في كيفية تحسيس الشباب على أن لا يهاجروا. كما أنني عندما كنت أعذب داخل الزنزانة وأشتم ويبصق على وجهي كنت أحاول أن أجد تبريرا مقنعا لهذا التصرف غير المقبول ولهذه الهمجية التعيسة التي ولى عليها الزمن وأقول: بالتأكيد هناكشيءخطأ، وهذا التصرف ليس تصرف المغاربة الأصيلين. في كثير من الأحيان كنت أقول ماذا وقع لأبناء بلادي تغيروا كثيرا؟ هل أكلوا أو شربوا شيئا أزال منهم آدميتهم؟ وفي كثير من الأحيان كنت أدعوا لهم بالهداية.

لكن الشيء الجميل في هذه المغامرة هو عند وصولي إلى إسبانيا لم أجد صعوبة للعثور على عنوان “ماريا أنخليس” بمدينة قرطبة العاصمة العلمية للأندلس، التي رحبت بي وعاملتني كواحدة من أفراد عائلتها بل أكثر. إنها امرأة رائعة قدمت لي الشيء الكثير.ولكي أدمج بسرعة في المجتمع الاسباني مع احترام هويتي وجذوري المغربية وتعرفت على عديد من جمعيات المجتمع المدني التي تشتغل في المجال التراث الثقافي الأندلسي المكتوب والمدون كالمخطوطات الأندلسية والوثائق القديمة والكتب النفيسة. إنني أتنفس هواء قرطبة، هواء الثقافة الحرة هواء التراث العريق والفكر الرزين والعلم المنير، وأنا أسير في قرطبة وكأني بتطوان، دروبها الملتوية الساحرة وابوابها العريقة وأقواسها المتنوعة وساحاتها الجميلة لا تختلف عن تطوان. اكتشفت أن قرطبة في أيام ازدهار الأندلس كانت مدينة العلم والعلماء التي سطع نورها على أوروبا وساهم بشكل كبير في تقدمها وتنميتها وتطويرها تنويرها وازدهارها.

لا أخفيكم أحبتي أنه رغم تأقلمي في قرطبة ووجود صديقتي “ماريا أنخليس” بجانبي، إلا أنني لم أستطع التخلص من ما وقع لي بجنان بريشة ومن الرعب الذي تعرضت له وفي كثير من الليالي كنت أستيقظ وأنا أصرخ بصوت عال مفزوعة وخائفة وتمر ساعات طوال وأنا متوترة وأتنفس بصعوبة وفي كثير من الأحيان كنت أفقد السيطرة على أعصابي ومع الوقت اختل توازني النفسي وأخذتني “ماريا أنخليس” إلى طبيبة نفسانية ونصحتني أن لا أعود في القريب إلى تطوان كي لا تعود الذكريات المرعبة فقررت أنأبقى بقرطبة إلى حين. لكن تبين لي في ما بعد أن ما وقعلي من اعتقال وتعذيبوتهجيرليسبمحنة بل منحة منحني الله إياها بحيث أعيش الآن حلما كنت أتمناه منذ زمن بعيد، وما كان ليتحقق لولا اعتقالي من طرف ذلك الاسباني المجرم ولولا المصائب التي تعرضت لها في جنان بريشة. أنا الآن بين ملايين الوثائق وآلاف المخطوطات الأندلسية النفيسة الأصلية، والكتب العريقة. كنت دائما أبحث عن أسماء نساء عالمات بزغن في علوم مختلفة ولم أكن أجد من المراجع ما يشفي غليلي لكن هنا بقرطبة عثرت على أسماء عديد من العالمات التي ضلت أسماؤهن مطمورة بين ثنايا الإهمال لا يشير إليها أحد. لم نكن نعلم أن المرأة المسلمة في الأندلس أسهمت في انتشار العلم وتألق الحضارة بفضل نبوغها في الطب وعلم الفلك والفيزياء والرياضياتوالفقه والبلاغة والتعليم والأدب والعلوم الإنسانية.كما اكتشفت أن عديدا من العلماء الرجال تتلمذوا على نساء عالمات منذ نعومة أظافرهم كابن حزم الأندلسي وابي بكر عياض الباقي، الذي أخذ العلم عن “أم الفقراء”، وأبي داود سليمان بن الحاج الذي درس العروض على يد إشراق السوداء. وهذا يدل على مهارة تكوين النساء العالمات وقدرتهن على التدريس باحترافية كبيرة.

أنا الآن أشتغل مع جمعية تدعى “إنصاف عالمات الأندلس”، وهي تهتم بمجال ابراز العالمات الأندلسيات المجهولات الاسم، عن طريق مقالات أو محاضرات أو ندوات أو بحوث وتشجع الكُتاب على كتابة مواضيع مرتبطة بالموضوع. كما تهتم بالثقافة والتاريخ الأندلسي والمخطوطات والكتب الأندلسية النفيسة والتراث الأندلسي المادي وغير المادي.

وفعلا شرعت الجمعية في طبع كتب تنافس أمهات كتب الأدب والتاريخ والعلوم المختلفة والتي تتحدث عن النساء العالمات اللواتي كان لهن الأثر الكبير في ازدهار العلوم بالأندلس بأقلام باحثين ومؤرخين مرموقين. كما أنني مع الجمعية أعمل في إطار مشروع ترميم عديد من المكتبات بمدن صغيرة بضواحي قرطبة كالمودوبار ولوسينا وكرمونة وغيرها. وعلى ذكر كرمونة اكتشفت أن جد ابن خلدون استقر في كرمونة عندما أتى أول مرة من اليمن.

كما أن لي مشروعا شخصيا كان من الدوافع التي جعلتني أبقى هنا بعضا من الوقت،وسأحاول به إعادة الاعتبار للتطاونيات، ويتمثلفي جرد أسماء كل العالمات الأندلسيات المجهولات الاسم اللائي استقرت بتطوان وأصبحن تطاونيات عالمات مجهولات الاسم، ولهن الآن أحفاد يحملن أسمائهن وتاريخهن وتقاليدهن وذاكرتهن.

أيها الإخوة والأخوات، أحبتي الكرام أنا لم ولن أنساكم أبدا، وقريبا ان شاء الله سأعود إليكم وإلى دفئكم وحنانكم الفياض، قريبا سأعود إلى مغربنا الحبيب. أنا هنا لأنني وجدت ما يكفي من الكتب والمكتبات والشخصيات والمراجع الأندلسية التي تتحدث عن نضج وثقافة وشموخ المرأة التطاونية. أعدروني عن هذا التأخر للعودة إليكم وبلغوا سلامي إلى كل الأحبة والأحباب والأقارب، قريبا سنلتقي بتطاون العتيقة والسلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته.

عند انتهاء حليمة من قراءة رسالة أمها، بدأت الدموع تسيل على خديها، سكتت قليلا، ومسحت دموعها ثم نظرت إلى الجمع بابتسامة خفيفة وهي تقول: هذه هي امي فطومة دائما تفيد الآخر وتعمل من أجل حياة أفضل للنساء. وانصرف الجمع على أمل أن يلتقي قريبا بفطومة المناضلة.

مكوث فطومة بقرطبة وعدم عودتها بسرعة إلى تطوان رغم انفراج الوضع والاحساس بالطمأنينة بين ساكنة تطوان، ربما كان راجعا إلى أنها بقرطبة تستنشق هواء الثقافة ممزوجا بالحرية والاحترام، لهذا قررت أن تبقى بعضا من الوقت، وارتأت أنها ستفيد المرأة المغربية وستستفيد هناك أكثر مما ستستفيده في أي مكان خارج قرطبة. كما أنها انخرطت في عديد من الجمعيات الحقوقية ووضعت برامج ملموسة ومفيدة لصالح النساء المهاجرات والدفاع عن حقوقهن فالتقت هناك بعديد من المغربيات اللائي استفدن من برامج متعددة ساعدتهن على العيش بكرامة والتمتع باستقلاليتهن المادية والمعنوية. وكثيرا منهن أصبحن خطاطات ماهرات يكتبن حروف عربية جميلة وبدا عليهن ذكاء خارق وثقافة واسعة استعادت لها بعضا من الثقة لكون أن المغربيات ذكيات ويمكن لهن بسرعة استعادة قدراتهن العلمية ومهاراتهن الفطرية ويعدن لنا فضاء الأندلس من جديد لأن النساء المغربيات هن سر رقي وتقدم الأندلس. كما ساهمت في بروز عدة مبدعات بقرطبة وذاع صيتهن وامتزج القديم بالحديث. فأصبح هذا الوضع يُذَكِرها بنساء مبدعات، منهن امرأة بالأندلس كانت تدعى “قلم” وكانت توصف بجمال الخط إلى جانب ثقافتها الواسعة، حيث كانت أديبة وراوية للشعر والأخبار، و”عائشة بنت أحمد القرطبية” التي يقال إنها كانت لها خزانة علم كبيرة، فقد اشتهرت بنسخ المصاحف والدفاتر والكتب. ومثلها “فاطمة بنت زكريا”، وهي خطاطة ماهرة نسخت مئات من المصادرالضخمة. و”البهاء” التي كانت تنسخ المصاحف وتوقفها أو تحبسها على المساجد. و”مزنة”، وهي كاتبة الخليفة عبدالرحمن الناصر، وتوصف بأنها من أحسن النساء خطا في عصرها.

سنحكي في الكتاب القادم، إن شاء الله، عن مغامرات فطومة بقرطبة واكتشافاتها العجيبة لشخصيات نسوية عبقريات ومبدعات، تركن بصماتهن في تاريخ الإنسانية. وسنحكي عن لقاءاتها المتعددة وحواراتها ونقاشاتها المتكررة مع هؤلاء العالمات الجليلات عبر كتبهن النفيسة ومخطوطاتهن العريقة. كما سنحكي عن الضغوطات التي تعرضت لها هناك وعن عودتها الميمونة إلى الديار التطاونية العتيقة، وكيف استقبلتها ساكنة تطوان استقبال الأبطال، وكيف سطع نورها من جديد وملأت دروب وأزقة وشوارع وساحات ومتاحف تطوان بالعلم والثقافة والمعرفة والسلام.

الكتاب: التطاونيات

للمؤلف: ذ.عبد الوهاب إيد الحاج

منشورات التراث والتنمية والمواطنة

(بريس تطوان)


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.