تطوان.. العصر الغامض من تاريخ المدينة - بريس تطوان - أخبار تطوان

تطوان.. العصر الغامض من تاريخ المدينة

بريس تطوان

استفاد المهاجرين من قرب شبه الجزيرة الإيبيرية من المغرب، وهو القرب الذي كان يسهل فرارهم، ولكنه أيضا قرب كان من شأنه أن يعرضهم للخطر في حالة امتداد الغزو المسيحي في الأراضي المغربية، فتطوان لا تبعد عن سبتة إلا بأربعين كيلومترا، وكل المدن الساحلية في شمال غرب المغرب كانت واقعة تحت السيطرة البرتغالية أو الإسبانية، وهكذا كانت المدينة تبنى في جو سادته روح المقاومة؛ فالخطر الخارجي كان مسيطرا على النفوس، لكنه لم يكن وحيدا با لازمته المخاوف التي ولدها عداء الأرياف المجاورة، ولهذه الاعتبارات الاستراتيجية تم اختيار موضع المدينة.

ولقد بنيت تطوان فوق مجموعة من العيون حتى تضمن اكتفاءها الذاتي من الماء، ومن هذا الاسم استمد حي العيون داخل أسوار المدينة اسمه. وتبرز الخصائص الأندلسية بوضوح في هندسة البناء العسكري للمدينة التي صممت على شكل قلعة منذ تأسيسها، وتعتبر أسوار المدينة التي لا زالت بقاياها قائمة أحسن دليل على ذلك، وتتميز هذه الأسوار بكبر حجمها وسموكها واتساع عرضها وانتظام أبراجها الصغيرة، وتطوان مرئية من خارج الأسوار، ما هي إلا قلعة كان هدفها الأصلي حماية المهاجرين الأندلسيين الذين أسسوها، غير أن داخل المدينة يعكس تطوار البناء المدني الأندلسي في أوجه.

ولا زالت المدينة العتيقة في تطوان تحتفظ دائما بالملامح الرئيسية للمدينة التي أسسها سيدي المنظري الغرناطي، وما ينبغي معاينته على الأخص، هو ذلك التمازج بين الخصائص الهندسية العسكرية والحضرية، وتهكس همدسة بناء المدينة إرادة خلق حياة حضرية جد متمدنة، والدفاع عن أصحابها بفعالية في نفس الوقت.

وكانت سلطة آل المنظري تتوطد، فبعد وفاة سيدي المنظري سنة 1511، خلفه حفيده الذي تزوج بالست الحرة (بنت أبي الحسن علي بن موسى بن راشد قائد الشاون)، والتي حكمت بدورها المدينة من سنة 1537 إلأى سنة 1542. هاهي وقد حددت في ظرف بضعة عقود، بعض السمات التي ستسيطر على تاريخ تطوان والتي ستجعل منها إنشاء أصيلا بقيت خصائصه على حالها إلى اليوم. وإلى السمات التي ميزت هذا التاريخ كتأثير الحضارة الأندلسية السائد في المدينة، والعلاقات الملتبسة التي ربطتها بأوربا المجاورة والتي تداخل فيها العداء والحنين إلى الوطن، وضعف الروابط مع السلطة المركزية، يضاف الدور الحاسم الذي لعبته “العائلات الحاكمة” التي جعلت من المدينة الدولة استثناء سياسيا. فبعد آل المنظري حكمتها عائلات النقسيس والريفي وأشعاش، وستفرض كل عائلة من هذه العائلات الحاكمة شبه المستقلة نفسها خلال جيلين أو ثلاثة أجيال، وستطبع المدينة بطابعها.

ولقد استمر تدفق المهاجرين الأندلسيين إلى المغرب، لكنه عرف بعض الفتور أحيانا ونشط أحيانا أخرى نتيجة الإهانات والقرارات الملكية التي اتخدت في إسبانيا، وأتت هذه الكبات بمهاجرين متشابهين ومختلفين عن بعضهم في نفس الوقت، فهم متشابهون بأثلهم الأندلسي ودينهم الإسلامي، ومختلفون من حيث طبقاتهم الإجتماعية والمناطق التي قدموا منها وتاريخ وصولهم بصفة خاصة. ومن بين المراحل الثلاث الأكثر أهمية لهذه الهجرة، كانت الكبة الأخيرة التي ارتبطت بقرار فيليب الثاني القاضي بالطرد النهائي للموريسكيين في بداية القرن السابع عشر، قد ايتهدفت سكانا أقاموا زمنا طويلا في مواطنهم الأصلية التي احتلها المسيحيون. وكان هؤلاء المهاجرون المتأثرون بالمجتمع السائد الذي عاشوا فيه منذ الأسلاف الأوائل قد وجدوا صعوبة أكثر للتكيف مع المجتمع المغربي المسلم. إلا أن هذه الصعوبات كانت أقل في تطوان (كما في الشاون). وكان الإندماج الإجتماعي للمهاجرين سهلا نسبيا نظرا أولا لأواصر القرابة التي كانت تربطهم بالسكان المستقبلين، ونظرا أيضا للتشابهبين الوطن الأصلي وبلد الاستيطان، الشيء الذي لم يتوفر في مناطق أخرى من المغرب (بالنسبة لهورناتشيي الرباط مثلا). وهناك فرق جلي آخر بين المهاجرين الأندلسيين إلى تطوان وأولئك الذين هاجروا نحو البلاد القاصية، فبينما اجتث هؤلاء من ماضيهم الذي لم يعد يحيا إلا في ذاكرتهم، أبى المهاجرون الأندلسيون إلى تطوان والشاون إلا أن يواصلوا جهادهم ضد البرتغاليين والإسبان طوال القرنين السادس عشرو السابع عشر، ونظم المهاجرون إلى المغرب أنفسهم ليس فقط قصد الدفاع، بل ولمهاجمة الإيبيريين، وخاصة في البحر المتوسط. ولقد كانت تطوان مدينة الجهاد البحري، وكان مجاهدوا سلا الذائعي الصيت قد أنسوا مفاخر التطوانيين التي لم تكن أقل أهمية من عمليات السلاويين البحرية، وذلك منذ القرن الخامس عشر. وإن حالة تطوان تطلعنا على الدور الذي قد يكون لعبه المهاجرون الأندلسيون في تطور المجتمع الذي بنوه، محافظين على تقاليدهم، ولكن آخذين كذلك بتقاليد الأوساط التي استقبلتهم.

وإن فقر المصادر المكتوبة وضعف الروايات الشفوية المتأثرة جدا بالبعد الأسطوري، وصعوبة الوصول إلى الوثائق الخاصة أو ذخائر المكتبات العامة غير المحصية، وتقصير الأبحاث الأثرية، وقلة الاعتناء الذي أولي حتى أيامنا هذه للنشاط الاقتصادي والبحري، كل ذلك يجعل حتى الآن من أحداث القرن السادس عشر وبداية السابع عشر أحداثا لم تٌسْتَجْلَ بعدٌ غوامضها. وحتى لحمة الأحداث تتوارى أحيانا في روايات غامضة ومتناقضة. بيد أن هناك بعض الأحداث الأساسية التي تبرز في هذا التاريخ، كازدهار الجهاد البحري ما بين 1550 و 1570، والهجمات الإسبانية (1565)، والعلاقات العسيرة مع القبائل (1570-1580). إلا أنه توجد بعض الآثار الهامة التي ترجع إلى هذا العصر الغامض من تاريخ المدينة.

العنوان: تطوان الحاضرة الأندلسية المغربية

المؤلفين: جون لوي مييج/امحمد بن عبود/نادية الرزيني

منشورات جمعية تطاون أسمير

(بريس تطوان)

يتبع…


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.