تطوان الحاضرة الأندلسية المغربية... أصل المدينة - بريس تطوان - أخبار تطوان

تطوان الحاضرة الأندلسية المغربية… أصل المدينة

بريس تطوان

ليس هناك راحل لم يعرب عن بهجته وهو يكتشف تطوان، فالصور تتدفق بغزارة في مخيلة مشاهد المدينة البيضاء وهو يتأملها في زينتها الجبلية لأول مرة. فها هي “جالسة بارتخاء على ضفاف وادي مرتين المزهرة، غير بعيد عن البحر الأبيض المتوسط، وقبالة الأندلس التي صنعت رخاءها”، “متراخية في سريرها وقد افترشت الزهور وأوراق الشجر”، “تلك هي جوهرة المغرب، تلك الحضية”، صامتة مجهولة حالمة وبرئس الرسول الأبيض على الرأس”.

وهذه الصورة الأولى التي تتردد أو يعاد نقلها، والتي تصور خمولا يوحي بالراحة واللذة في نفس الوقت، تتعارض دائما مع الأزقة المعتمة الضيقة القذرة، تعارضا يبرزه أسلوب تناقضي، فخارج المدينة هناك بهجة الحدائق وشهرة البساتين، وداخلها فقر الأزقة ومسكنة الديار. وتهكس هذه الصور أفكارا مبتذلة ترمز إلى أندلس الأحلام وإلى حاضر “المغارب المظلم”، وهي أفكار تتجلى فيها تناقضات ثابتة، بين الجنان المضيئة والغبش، وحر السماء وعذوبة الماء، وبياض الحيطان الخالية من الزخرف والتنميقات المعقدة القائمة على الفسيفساء المتعددة الألوان. وفيما وراء كل هذه التنميقات، تنميقات الطبيعة والحذقة، يستشف الغرض المقصود. وثمة طراز معماري مسور يستوقف النظر، فالقصور والمباني الدينية المنغلقة على نفسها خفيت في أغلب الأحيان على الراحلين.

وهذا التلاعب بالألفاظ القائم على القضايا ونقائضها الأدبية، وإن كان مصطنعا في حد ذاته، يذكر بحق بالطابعين المتضتدين اللذين ستكشفهما عملية الايتقصاء التاريخي والهندسي للمدينة، فهي منفتحة ومتغلقة على نفيها في ذات الوقت، منفتحة بعلاقاتها التجارية الهامة ودورها الريفية، ومنطوية على نفسها إذ نجدها مغلقة ترعى تقاليدها، متمردة ومحافظة.

وهي تظهر كالمهد والملاذ، وأرض البدأة والمحافظة، ولابد للوصول إلى قلبها من اجتياز كل الأطواق التي تحميها: مدرج الجبال، وحزام الغوطات والبساتين والجنان، ثم الأسوار، وتذكر هذه القشور المتعاقبة بالمدينة الأم، غرناطة، كما تذكر بفاكهة الرمان التي تغنى بها الشاعر أو بانيل (Théidore Aubanel) “رمانة داخل الأسوار”. وعلى المرء أن يكتشف بتبصر، فيما وراء الغلف، ثمار لب هذه الفاكهة المتشابهة فيما بينها والمختلفة عن بعضها في نفس الوقت، مذاقها واحد لكن نكهة كل واحدة منها خاصة ومتميزة.

هي ذي تطوان، حاضرة أندلسية في الأرض المغربية، محفوظة بشكل يثير الإعجاب داخل المدينة الحديثة.

ومن المدن ما عرفت عملية تأسيسها جلالا وكأنها تنبيء منذ البداية بمصير عظيم، وأخرى لاتصل أخبارها إلا عبر ضباب الأساطير أو عتمة القرون العابرة قبل أن يقذف بها التاريخ على مسرح الأحداث. وهكذا فإن تاريخ تطوان مرتبط أشد ما يكون الارتباط بالعصر الأندلسي، ببذخه ومآسيه.

صحيح أنه ابتداء من سنة 710 وخلال القرون اللاحقة، كانت قد ظهرت من حين لآخر في النصوص العربية والأوربية مدينة صغيرة مسماة بتطوان. وبعض هذه النصوص يؤكد قدسيتها التي تشهد بها أضرحة القرنين الثاني عشر والثالث عشر التي ما لبثت أن أصبحت مصليات ومزارات؛ والبعض الآخر، من جنوة وبيزة أو أمالفي (Amalfi)، بل حتى من مرسيليا، يثبت بعض المدينة البحرية. ولكن مرفأ سبتة بل وحتى مرفأ القصر الصغير غطيا على البلدة الصغيرة.

هذا وإذا كانت تمودة الرومانية تقع في السهل، فإن تطوان الجديدة تنتصب فوق منحدر جبل درسة، بعيدة شيئا ما عن البحر. وبعد توطيدها في بداية القرن الرابع عشر، فإن المدينة الصغيرة خربت ربما في 1399/1400، أو في 1437، وربما لم تخرب البتة وإنما اضمحلت بعد ضعفها فقط، وكأنها خنقت من لدن منافساتها. وإنه على كل حال قرن النسيان.

وبعد المصاعب التي عرفتها، وبعد هجر مملكة غرناطة التي تم الاستيلاء عليها سنة 1492، ستنبعث حاضرة تطوان وستبدأ حياتها الرغيدة، وستكون مدينة بكل شيء تقريبا، في بدايتها الجديدة وخلال عقودها الأولى، للفردوس الأندلسي المفقود. فهي بنت غرناطة وأختها الفاترة، وهي بالنظر إلى ما توارثته من إراث حقيقي وأسطوري، القدس الصغرى وأخت فاس، كما ستصبح تطوان قلب الموريسكيين والمدجنين واليهود السفرديين والأندلسيين المغاربة وحنينهم إلى الوطن.

وهكذا ففي أعماق الأرض المغربية، عرف موضع تطوان، هذا المغرس الخارق الحظ الذي غرزت فيه الحضارة الأندلسية، صدمات وكسرات واستمرار تاريخ ملؤه الصخب والغيظ، وكذا الكياسة والظرف والأصالة الراسخة، وهو أيضا تاريخ يعكس تأثيرات مختلفة.

ومن الصعب تقديم مجمل لتاريخ مدينة غنية ومعقدة ومتناقضة إلى هذا القدر، وبدلا من الحديث عن روح هذا المكان ينبغي التكلم عن أرواح مواضعه؛ فلقد وجدت عدة أرواح مواضع في تطوان، كما اتخذت نفس الأحاسيس فيها أشكالا مختلفة خلال نفس الفترة التاريخية، وأحيانا عوضت هذه الأحاسيس بإحساسات أخرى. ويبقى بعث مواضع تطوان من خلال تاريخها عملا مشوقا حقا. ويعتبر غنى المدينة الأثري وجمال موضعها ونواحيها، وسحر تاريخها السياسي، وكثافة أنشطتها الاقتصادية، وأصالة مساهمتها في ميدان الثقافة والفكر، وانفتاحها واتصالها بتقاليد وثقافات مختلفة، كلها عوامل تضافرت لتشكيل سماتها الأساسية. غير أن عنصرها البشري، على صعيد الفرد والجماعة، هو الذي ينفخ من روحه في تاريخ تطوان. ويبقى هذا التاريخ أساسا تاريخ التطواني.

ويمثل المجتمع التطواني كيانا اجتماعيا تمكن من الحفاظ على سماته الأساسية، مغنيا إياها باتصالاته مع العالم الخارجي. ومن الممكن أن يعيش المرء في تطوان خمسة قرون من التاريخ في اليوم الواحد. وهكذا يمكن بفضل صغر مساحة المدينة، زيارة قصبة سيدي المنظري التي ترجع إلى نهاية القرن الخامس عشر، وعدة مساجد ترجع إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر، وقصورا ودورا تقليدية ترجع إلى القرنين الثامن عشر والتسع عشر. ويمكننا كذلك زيارة الأحياء الأكثر قدما كحي العيون (بداية القرن السادس عشر). وأحياء أخرى ترجع إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر أو إلى القرن التاسع عشر. وهناك علاقة بين توزيع الأحياء والمكانة الاجتماعية. فابتداء من القرن التسع عشر مثلا، أصبح حي العيون حيا شعبيا، بينما اعتبرت حومة جامع الكبير من بين الحومات الأكثر رقيا.  وحافظت أحياء أخرى كحي المطامر على مكانتها بالرغم من قدمها. ولازال تعدد الثقافات التي ساهمت بها مكونات المجتمع التطواني حيا في المدينة العتيقة، وخاصة في الحياة اليومية لبعض العائلات التقليدية التي لازال بعضها يعيش في دور أجداده.

وإنما خمسة قرون من التاريخ، بدأت في نهاية القرن الخامس عشر بإعادة تعمير سيدي المنظري وثلة من المهاجرين الغرناطيين للمدينة، خمسة قرون صيغت خلالها رموز المدينة المادية والنفسانية والروحية، وظلت محفورة في أعماق الذاكرة الجماعية لسكانها، وتأثيرها في المجتمع التطواني الحديث لازال عميقا. وبعض الأجانب لا يتفهمون التطوانيين لأنهم يجهلون ماضيهم وماضي مدينتهم وهويتهم. ولذلك يبقى التاريخ أساسيا ليس لفهم ماضي التطوانيين فحسب، بل ولفهم حاضرهم وبالتالي مستقبلهم؛ ذلك أن روح المدينة، بل أرواحها، لا تزال حية.

العنوان: تطوان الحاضرة الأندلسية المغربية

المؤلفين: جون لوي مييج/امحمد بن عبود/نادية الرزيني

منشورات جمعية تطاون أسمير

(بريس تطوان)

يتبع…


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.