في شفشاون تتخذ الأسطورة بعدا وجوديا، يصعب معه التسليم البديهي بالطبيعة والمعمار، فقد أثثت الحكايات والأساطير وجدان الناس وأسرت الزوار وباتوا يلاحقونها عبر الدروب، وجداول المياه، وفي الغدران، وعبر المرتفعات.
في شفشاون يمكن لك الوقوف على أسرار حنا مسعودة وكهفها الساحر الجاثوم فوق رأس الماء مع طبقات الجيولوجيا البالغة التعقيد، والضاربة في أعماق عصور التكوين، كما يمكنك الوقوف في نفس السفح وبمقربة من نفس الكهف، على رسم عبث به الزمن يخلد حكاية العطاء الغير المحدود في سلوك للا عائشة عدوية.
يمكنك أن تقف مشدوها عند قنوات الماء المسماة ب”المعزل” وكيف حبَّست السيدة الحرة بعض أملاكها لضمان تدفق المياه على مختلف أحياء المدينة، تماما كما تقف عند القنطرة البرتغالية، لتتخيل كيف لفحت نسمات تسملال الباردة أجساد أسرى البحر وهم يسابقون الزمن لإتمام بنائها، وكيف أحرقت جلودهم حرارة الرمضاء في أيام الصيف، وهم صابرون، غايتهم معانقة أبنائهم في العدوة الشمالية لبحر المجاز.
أيضا يمكنك التأكد من سبب إتخاذ حي كامل إسم “الصبانين” ، استعارة من نسوته حيث كانوا يحجون إلى نبع بارد أناء اليالي وأطراف الحرور من أجل تنظيف ملابس أسرهم وأثات بيوتهم.
كذلك يمكنك أن تتلمس تعدد ألوان الطيف الإجتماعي الثري عبر التجول بين أقواس حي “الملاح” وبابه المهملة والتي بات يلهث حولها تجار الآثار، بنفس الإصرار الذي كان يحذوهم قبل إختلاسهم تماثيل الضفاضع البرونزية من “الخصة” ، تاج الحي الكولونيالي، والذي تهمل الآن إحدى آخر بناياته لكي تندثر ويقام على أنقاضها قفص إسمنتي بلا روح ولا نبض.
يمكنك أيضا اكتشاف المقبرة المسيحية وكيف تحولت إلى قفر ترتع فيه الأفاعي والعقاب، بعد أن كانت حديقة يعمها السكون بأشجارها الباسقة وتماثيلها الفنية المبدعة، وبابها الحديدي الكبير، تماما كما حدث لمقابر يهود شفشاون التي شقتها طريق للعابرين إلى حي لوبار دونما اكتراث لحرمتها ولا لقيمتها التاريخية.
وعند وقوفك أمام ضريح المؤسس، مولاي على بن راشد، ستلاحظ بجلاء كيف أصبحت المقبرة المحيطة به عنوانا لتهميش إنسان شفشاون ميتا بعد أن همش حيا، وهي المقبرة التي يمكن جعلها حديقة بقليل من الغراسة والعناية، سيما وأنها تعانق الشريان الجميل لمساءات المدينة، وفضاءاتها الجميلة.
أما وطاء الحمام وباب السوق والهوتة والمدقة والقنيطرة وريف اندلس، وسيدي السبع والحجارة المذبوحة والجامع الحويلة وبيت الشبار وكهف عاشر، وغير ذلك كثير من الفضاءات التي لا يمكن الحديث عن ما تختزن من الحكايات في هذا الفضاء إلا عبر حلقات قد تستغرق ما تبقى من العمر إن كانت بقيته بمثل ما مضى فيه من الأيام.
هذه الشذرات من إرث المدينة المقدسة ذات السر كما كان يسميها كباس، الكولونيل الإسباني الذي نجح في اقتحام المدينة، مرت أمام عيني مسرعة، في لحظة تأمل وأنا أقف فوق رابية جامع بوزعفر، الذي أمر صاحبنا كباس ببناءه مباشرة بعد إستتباب الأمر له. كنت مستمتعا بغروب خلاب، يلاعب جداران المدينة، ذات الجدائل الزرقاء والبيضاء، كحالمة قدت فستانها من قلب أهلها ومن السماء أيضا، وتلحفت به قبل أن تستريح في لياليها الوديعة.
كلما اعتليت رابية جامع بوزعفر إلا وتناسلت الأفكار مسرعة في رأسي عن الحكايات المرتبطة بالمكان، كنت أقاومها علني أظفر بلحظة شعر، أو أترك قريحتي على سجيتها، أتأمل المقابر والحدائق والمشاة، واستمع للغات الزوار العجيبة، أو أترك مخيلتي للرقص على أنغام قيثارة أو مزمار، أو أردد سرا مع المبتهجين أغانيهم.
لكن هذه المرة وعلى غير عادتي، توقفت متأملا حال هذا الموقع الذي سيفتح البناء الأثري الموجود فيه كمسجد للصلاة.
بداية لا يمكن لي أو لأي أحد أن يمانع في ذلك، فالأرض كلها صالحة للصلاة، ولجميع الناس، ولا يمكن لمتزن عاقل أن يصادر حق أصيل للإنسان في العيادة، وقد خبرت البشرية مصير من فعل ذلك.
لكني وددت لو تم تحويل الرابية المحيطة بهذا البناء وبالتزامن مع فتحه مسجدا إلى حديقة، على شكل مدرج، ولتسمى حديقة شفشاون المعلقة، أو حديقة بوزعافر، وبذلك يمكن أن نحافظ على الجاذبية السياحية للمكان والتي لا يمكن أن تنتقص منها الطبيعة الدينية للمسجد، بدليل التجارب المقارنة لمساجد يرتادها السواح إلى جانب المصليين في أمكان يسمح فيها المذهب المنتشر بذلك، مثل تركيا. هذا التمني تفرضه الموازنة بين الأراء المتضاربة والمتداولة في شفشاون هذه الأيام، ومن أجل ضمان حرمة مكان العبادة أيضا، لذلك يجب خلق فضاء موازي يستصحب طبيعة المزار السياحي، مع ما سيصبح عليه من مكان للعبادة، وهو ما سيجنبنا التشويش والمزايدات، وبذلك يمكن الحسم في هذا التجاذب الحاد بين مؤيد ومعارض في الشارع الشفشاوني.
ولا يمكن أن نفوت المناسبة لنقرع بشدة جدران خزان الصمت حتى يتردد الصدى عند القييمين على المأثر التاريخية والمواقع الطبيعية، وحتى يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه.