تشتكي فئة عريضة من المواطنين حاليا من صعوبة أحوالها المعيشية بسبب ارتفاع أسعار موارد قوتهم اليومية كالخضر والأسماك واللحوم الخ. مقابل ذلك تدعي مؤسسات رسمية أن الأمور بخير وأنها تعمل بجد لتحسين الأوضاع المعيشية وببرامج تنموية كالمخطط الأخضر الذي يوفر الخضر واللحوم والأسماك الخ . بأثمان في متناول جميع الفئات الاجتماعية .
تجدر الإشارة إلى أن هذا المخطط الأخضر تعمل به الحكومة منذ أزيد من عشر سنوات وأنه حاليا لم يحقق الاكتفاء الذاتي للمنتجات الفلاحية بل إن من نتائجه أن زادت أسعار هذه المنتجات عما كانت عليه من قبل حيث أصبحنا نستورد العديد من حاجياتنا من الأسواق الدولية كالحبوب والأبقار والأغنام والزيوت والقطنيات الخ . مقابل ذلك نرى زيادة في محاصيل الفراولة والفواكه والأفوكادو (ويمكن الاستغناء عن الكثير منها ) بدل تحقيق الاكتفاء الذاتي في المنتجات المعيشية الأساسية .
يجمل التذكير بأن المغرب يحتضن مؤهلات طبيعية قل نظيرها : موقع ممتاز يربط بين أمريكا وأوروبا وأفريقيا ، وسلاسل جبال الأطلس وجبال الريف ذواتا وديان ومناظر جميلة تقع بسفوحها غابات وتنبع منها أنهار تسقي السهول شمال البلاد ووسطها وغربها وتنبت أشجار وفواكه وخضروات ، وتحتضن بلادنا مراعي وخيرات تلبي حاجات المواشي والمواطنين ، وتحف البلاد شواطئ شمالا وغربا تمتد على طول أزيد من 3500 الكيلومترات تعطي للمواطنين ثروة سمكية كبيرة ، وتحتضن البلاد أيضا ثروات معدنية مهمة كأكبر مخزون عالمي من الفوسفات وأيضا ثروات معدنية مهمة كالحديد والذهب والفضة والزنك … واكتشفت أخيرا حقول مهمة من الغاز ستلبي حاجيات البلاد ، هذا بالإضافة إلى التطور الصناعي الذي يعرفه المغرب وخصوصا في مجال السيارات يتم تصديرها إلى مختلف دول العالم تدر على الدولة عشرات الملايير من الدراهم وعشرات الملايير الأخرى يبعث بها المغاربة المقيمون بالخارج . إن هذه الخيرات التي أنعم الله سبحانه علينا لا تستفيد منها إلا فئة قليلة من السكان بسبب سوء توزيع الثروات وضعف سياسة الحكومات وتفشي ظاهرة الفساد واستحواذ فئة قليلة على جل خيرات البلاد .
إن هذه الأوضاع الحالية كانت من أسباب ما شهدناه من حراكات اجتماعية شعبية غاضبة تطالب بتحسين الأوضاع المتأزمة منها “حراك الحسيمة في الريف” سنة 2016 وما تلته من حراكات مماثلة في جرادة وإيمزرون وأوطاط الحاج وزاكورة وغيرها من المدن كانت بسبب تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية .هذه الغضبات الشعبية قمعها بنجاح الجهاز الأمني والقضائي ونال بعض من قام بها عقوبة حبسية وصلت إلى حوالي عشرين عاما وكأننا عدنا من جديد إلى حقبة الجمر و الرصاص .
إن هذه الحراكات تدل على فشل الحكومات المتعاقبة على كراسي الحكم منذ الاستقلال وزيادة نسب البطالة والفقر والأمية الخ. وتدعي الحكومات مع ذلك بتحسين العديد من القطاعات المرافق الاقتصادية والاجتماعية وزيادة مداخيل الصادرات .
ونظرا لاستمرار تردي الأوضاع والحراكات الشعبية وفشل النموذج التنموي الذي نهجته الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال تساءل ملك البلاد في خطاب عيد العرش لسنة 2014 قائلا ” أين هي الثروة ( !) ” ثم أمرت السلطة العليا بالعمل بنموذج تنموي جديد خلال خطابها بالبرلمان شهر اكتوبر 2018 جاء فيه “إذا كان المغرب حقق تقدما ملموسا، يشهد به العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية”. ثم تم تكليف لجنة خاصة، مهمتها إعداد مشروع النموذج التنموي الجديد وقام المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، كمؤسسة دستورية ببلورة نموذج تنموي جديد والمصادقة عليه خلال سنة 2019 ورفعته إلى السلة العليا بالبلاد .
++++ ++++ ++++
تناول بعض الخبراء الاقتصاديون وأساتذة جامعيون تحليل ما جاء في مشروع هذا النموذج التنموي الجديد وأشاروا إلى ملاحظات به سلبية تهم طريقة إعداده وأخرى تهم رؤيته لتصحيح الأوضاع المتأزمة. كان من بين هذه الانتقادات حول ما جاء في النموذج التنموي الجديد أنه سمح لصندوق النقد الدولي بالمساهمة في عملية صياغة هذا النموذج التنموي وأوضحوا أن نصائح أو تعليمات هذا الصندوق كانت وراء إفشال النموذج التنموي السابق الذي أشار إليه الملك ، وأن السماح لهذا الصندوق بالمشاركة في صياغة مشروع النموذج التنموي الجديد سيسمح بتكرار الفشل الذي أرسته تعليماته الفاشلة منذ الاستقلال .
وعلى ذكر مساهمة البنك الدولي في صياغة سياسة البلاد التنموية نذكر هنا بأنه عند إعداد المخطط الثلاثي 1965/1967 اقترح ( ) صندوق البنك الدولي الرهان على قطاع السياحة كأولوية عوض قطاع الصناعة وأشار إلى أن السياحة تلعب دورا مهما في تنمية بعض دول جنوب أوربا القريبة مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان وطلب الاقتداء بها .
قامت الحكومة آنذاك بالرهان على السياحة واتخذت تدابير وإجراءات مالية وتشريعية وتنظيمية للنهوض بالسياحة وقالت أنها ” ستجلب الخير العميم لها البلد الأمين ” ، وهكذا قامت الحكومات باللجوء إلى القروض الدولية وإصدار قانون الاستثمارات يمنح المستثمرين 80 في المائة من القروض و20 في المائة كمكافأة التجهيز فضلا عن بقع أرضية مجهزة بأثمان رمزية ، وقامت الدولة هي أيضا عن طريق بعض مؤسساتها كصندوق الإيداع والتدبير والمكتب الوطني المغربي للسياحة والمكتب الوطني للسكك الحديدية وغيرهم بإحداث مؤسسات ومركبات فندقية خصوصا ببعض المدن الشاطئية والنائية بالحسيمة وتطوان وطنجة ( الموسم السياحي بها لا يزيد عن موسم الصيف ) وبأكدير ووارزات الخ. كما قامت الحكومة بنزع ملكيات بعض الأراضي وإعدادها وتفويتها للمستثمرين بأثمان رمزية لاستقبال المشاريع السياحية .
إن عمل الحكومات هذا كان فيه جهل كبير بطبيعة هشاشة القطاع السياحي وأهمية النفقات للنهوض به فقد كان هدف هذه الحكومة هو جلب المزيد من السياح الأجانب لجلب العملة الصعبة . وكان هذا الجهل ليس فقط بأهمية الموسمية التي تبع النشاط السياحي وهشاشته بل وأيضا بأهمية كلفة إحداث بنياته التحتية والفوقية ، كتجهيزات الاتصالات السلكية واللاسلكية ، ومرافق الاستقبال لجلب السياحي ( المطارات والموانئ والطرق ) والفنادق والمركبات السياحية والمخيمات ، وإحداث مراكز ومدارس تكوين الأطر ومرافق التنشيط السياحي كالأندية الليلة وتنظيم المهرجانات ، الخ.
لم يكن المغرب يتوفر على مثل هذه المرافق المناسبة لاستقبال السياح ، ولم تدخل الحكومات في حسابها أهمية كلفة هذه المرافق ، وكان عليها أن تقوم بإعداد دراسة الجدوى للرهان على قطاع السياحة ومقارنته بأهمية مردود قطاعات أخرى كالصناعة مثلا .
وهكذا وبعد سنوات قليلة وخلال مخطط 1978/1980 وبناء على نصيحة البنك الدولي أيضا تخلت الدولة عن الرهان على السياحة بسبب ضعف مردودها وقامت بتفويت منشآتها الفندقية إلى الخواص والعمل بنظام الخصخصة وبالتقشف في النفقات وإعادة هيكلة مالية الدولة لمواجهة تفاقم المديونية الخارجية كما نصح بذلك صندوق البنك الدولي ( كتاب: إسماعيل عمران ” التنمية السياحية بالمغرب :واقع وأبعاد ورهانات 2004 ) .
رغم هذه التجربة السلبية ستقوم الحكومة بعد ذلك بالرهان على السياحة بدعم من صندوق البنك الدولي مرة أخرى حيث قامت ثلة من أصحاب الفنادق بإعداد مشروع ” رؤية 2010 ” واعتبروا أن الرهان على السياحة هو الحل الوحيد لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد والخروج من التخلف وذلك عن طريق إحداث محطات شاطئية بشمال وغرب البلاد وجلب عشر ملايين من السياح ، وكان غرض هذه الثلة هو الاستفادة كما يبدو هو إعادة الاستفادة من المزايا التي حظي بها المستثمرون والمهنيون السياحيون خلال فترة العمل بالمخطط الثلاثي السابق الذكر .
هذه الرؤية كانت نسخة مشوهة لمثيلاتها بفرنسا وكان بها اختلالات كثيرة يطول المجال هنا لذكرها وأسفرت عن جلب 4.5 مليون من السياح الأجانب فقط بدل عشرة ملايين المتوقعة وإحداث حوالي 4500 سرير بدل 160 ألف سرير المتوقعة الخ. أما عن آلاف الهكتارات من الأراضي التي تم نزع ملكيتها بالسعيدية وتطوان والعرائش وطنجة والصويرة وتغازوت وأكدير لاحتضان المحطات الشاطئية فلم تنجز بها إلا مشاريع فندقية قليلة وتم تفويت الجزء الأكبر منها إلى إحداث فيلات وأحياء سكنية استفاد منها الملأ الأعلى بالمجتمع ( كتاب إسماعيل عمران : التنمية السياحية بالمغرب : تطلعات وتحديات ومفارقات 2009 ) .
رغم النتائج السلبية لرؤية 2010 السياحية فقد راهنت الحكومة مرة أخرى على السياحة عن طريق ” رؤية 2020 ” وكانت نتائجها هي أيضا سلبية كسابقاتها ليس بخصوص جلب السياح والعملة الصعبة وإحداث مناصب الشغل الخ . بل وأيضا على مستوى الجوانب البيئية والثقافية والأخلاقية وغيرها ( كتاب إسماعيل عمران ” السياسة السياحية بالمغرب 1956/2000:إشكاليات وتداعيات وبدائل ) .
++++ ++++ ++++
كان من بين الانتقادات حول النموذج التنموي الجديد هو فشل الحكومات السابقة في برامجها بسبب تغول الفساد في البلاد الذي يتمثل في اقتصاد الريع ، والإفلات من العقاب اتجاه ناهبي المال العام، وانتشار الرشوة والفساد المالي في مختلف مناحي الحياة، وتشجيع التهريب وغياب المراقبة الفعلية واحتكار كمشة من المنتفعين لمختلف المجالات الاقتصادية والاستحواذ على الثروات الوطنية والاستفادة منها عبر الاغتناء غير المشروع دون حسيب ولا رقيب ، ومن ثم فقد خلص منتقدو هذا النموذج التنموي الجديد إلى أنه لا نجاح لأي برامج تنموية دون محاربة مختلف أوجه الفساد واقتلاع جذوره .
حسب برنامج الأمم المتحدة في تقريره لسنة 2019، فإن نسبة مهمة المغاربة فقراء ويعانون من الحرمان الشديد ، وأن 13 في المائة منهم معرضون للفقر المتعدد الأبعاد.، وان حوالي 15% من السكان توجد تحت ظروف الفقر، ويعيش 60% من نسبة الفقراء بالعالم القروي ، و25% من إجمالي السكان مهددين بالفقر في أية لحظة، وحصة المواطن المغربي من الناتج الداخلي ضعيفا للغاية لا يتجاوز 4550 دولار في السنة والمعدل العربي يفوق 6700 دولار للفرد سنويا والمعدل العالمي إلى أزيد من 9540 دولار ، ونسبة السكان الذين يعيشون تحت عتبة الفقر المطلق بالمغرب انتقلت من 6،6 بالمائة إلى 11،7 بالمائة ، و عدد الأسر المعوزة انتقل بدوره من 56،8 بالمائة إلى 60،5 بالمائة، و المعدل الإجمالي للفقر على المستوى الوطني انتقل هو الآخر من 13،6 بالمائة إلى 22،1 بالمائة .
لا شك أن سبب تغول الفساد في بلادنا وتزايده شيئا فشيئا منذ الاستقلال هو غياب سياسة عقابية قوية تقضي على المفسدين والأدوات التشريعية والمؤسساتية التي يتحصنون بها . إن عمل المفسدين شيء خطير ينهبون ثروات البلاد ويحرمون المواطنين من حقوقهم من إحداث المدارس والمستشفيات والبنيات التحتية وتفقيرهم وعلينا أن نعلم كمسلمين أن الله القوي العزيز لا يحب المفسدين وتوعدهم بنار جهنم يوم الحساب وبالعذاب الأليم في الدنيا ( سورة المائدة الآية 33 ) . صدق الله العظيم والحمد لله رب العالمين .