للمرة الثانية، وعلى غير المعهود، يتفجر بشكل علني التوتر بين الجزائر وموسكو داخل المنتظم الأممي، فبعد أن وجه ممثل روسيا في مجلس الأمن اتهامات إلى الملاكمة الجزائرية إيمان خليف بكونها رجلا سمح له بالنزال مع النساء من قبل المجموعات الغربية التي تدعم حسبه «مجتمع الميم» وذلك في جلسة إحاطة بمجلس الأمن حول «الحفاظ على الالتزامات لصالح المرأة والأمن في سياق الانسحاب السريع لبعثات السلام» طالب عمار بن جامع ممثل الجزائر في جلسة لمجلس الأمن الدولي، في السابع والعشرين من أغسطس بمحاسبة دولية الأطراف التي نفذت هجوما في قرية شمال مالي بالقرب من الحدود مع الجزائر.
يبدو المؤشر الأول أقل حدة، لأنه يتعلق بقضايا قيمية تم تصريفها داخل حقل الرياضة، إذ كانت روسيا تبحث عن مستندات لمهاجمة أولمبياد باريس، فاستندت إلى واقعة الرياضية إيمان خليف، التي سبق للاتحاد الدولي للملاكمة أن أصدر تقريرا يؤكد فيه أنها لم تنجح في اختبار الجنس، فلم تكن الجزائر في الواقع هي المقصودة، لكنها جاءت في الطريق.
أما المؤشر الثاني، فيبدو أن مستند التوتر قائم، ويعكس اختلافا في التوجهات الاستراتيجية في التعاطي مع مالي، أو يعكس في الدقة، تناقضا بين المصالح الروسية والجزائرية في منطقة الساحل جنوب الصحراء، لاسيما ما يتعلق بدعم الحكومة المالية، وتجسير الامتداد الروسي لمالي.
ثمة أكثر من مؤشر على دخول العلاقة الجزائرية الروسية مربع التوتر، فمع انطلاق الحملة الانتخابية بالجزائر، تحرك الجنرال المتقاعد خليفة حفتر المدعوم روسيا وإماراتيا على الحدود من شرق الجزائر، في خطوة اعتبرتها الخارجية الجزائرية «تهديدا لأمنها القومي».
ومع أن بيان خارجيتها حاول ربط التحشيد العسكري قرب حدودها بمهددات التوافق والمصالحة بين الليبيين، وأن من شأن ذلك أن يقوض مسار الوحدة الوطنية الليبية، فإنه في الواقع، غطى على الخلاف الاستراتيجي العميق بينها وبين روسيا في اللحظة التي كبدت قبائل الأزواد خسائر كبيرة للجيش المالي، وألحقت بميليشيات فاغنر خسائر كبيرة في الأرواح، مما أزعج موسكو من الدور الجزائري الدعم لهذه القبائل.
حيثيات الخلاف الاستراتيجي الروسي الجزائري، تعود إلى قرار الحكومة المالية إنهاء المصالحة التي رعتها الجزائر سنة 2015 بين مالي وقبائل الأزواد، ودخول العلاقات المالية الجزائرية في حالة توتر لا زالت مؤشراته بادية إلى اليوم، إذ تدعم الجزائر قبائل الأزواد، وتنطلق في رؤيتها الاستراتيجية من أن هذه القبائل تعتبر امتدادا للجزائر في مالي، بينما ترى مالي، أن سياسة الجزائر تقوم على دعم الانفصال لتقوية نفوذها خارج مجال ترابها.
بوادر الخلاف الروسي الجزائري، في الواقع، بدأت مبكرا، وتحديدا في اللحظة التي شعرت موسكو بخذلان جزائري لها ولمصالحها في المنطقة، فبعد أن كان وزير الخارجية سيرجي لافروف، يمني نفسه بقدرة الجزائر على ممانعة الضغوط الأمريكية وعدم الانصياع لإرادتها بالانضمام للعقوبات الأمريكية، ويقول إن أمريكا هاجمت الدولة الخطأ (يقصد الجزائر) وذلك عقب رسالة وجهها 27 عضوا من مجلس الشيوخ الأمريكي إلى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يقترحون فيها معاقبة الجزائر طبقا لقانون «كاتسا» فوجئت موسكو بتغيرات في الموقف الجزائري اندرجت في سياق التكيف مع الضغوط الغربية، بدءا بالمناورة، ومرورا بالانحناء للعاصفة، وصولا إلى خيار تقديم امتيازات لدول غربية، بقصد كسب دعمها للتخفف من الضغوط الأمريكية والأوروبية.
في 29 نوفمبر2022، أعلنت الجزائر تأجيل مناورات عسكرية مشتركة مع روسيا، وأعلنت وزارة الدفاع الجزائرية، ردا على ما نشرته نظيرتها الروسية في السابق بشأن تاريخ إجراء هذه المناورات، أنها تمثل المصدر الوحيد المعني بالإعلان عن تاريخ أي تمرين عسكري مشترك مع شركائها.
عدد من المراقبين، ربطوا بلاغ وزارة الدفاع بضغوط من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية لمنع إبرام صفقة عسكرية مع روسيا بقيمة 17 مليار دولار.
نجاح الجزائر في سياسة البقاء في مربع الحياد تجاه الدول الغربية، وعدم مسايرة الطموحات الروسية، وفي الآن ذاته، دعم قبائل الأزواد لتأمين الامتداد الجزائري في مالي، يعني مزيدا من التوتر مع موسكو، ومراجعة هذه السياسة التقليدية يعني تعريض سيادتها للخطر
ثم برزت مؤشرات أخرى على الانصياع الجزائري للضغوط الغربية، إذ قدمت في سياق مناكفتها للمغرب، تنازلات مهمة، وذلك لتأمين مساعدة باريس لها على التخفف من الضغط الأمريكي والأوروبي، وقُرِئت سياستها الطاقية تجاه باريس وروما، على أساس أنها إضعاف للاستراتيجية الروسية في مواجهتها للدول الغربية، فقد صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الجزائر مباشرة عقب الإعلان عن « شراكة استثنائية» بين البلدين أن فرنسا لن تعاني مشكلة طاقة في الشتاء، وأن مصادر الطاقة الجزائرية ستساعد من زيادة واردات أوروبا من الغاز، وستقلل من ارتهانها للغاز الروسي.
روسيا انزعجت كثيرا من إقدام الجزائر في 22 يناير من العام الماضي على هامش زيارة قامت بها رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، على إنشاء أنبوب جديد لإمداد إيطاليا بالغاز، وتحويل روما إلى قاعدة إمداد رئيسية للغاز إلى أوروبا.
الرد الروسي، لم يتأخر، فبعد شهور من مراقبة الموقف الجزائري، رفضت مجموعة «البريكس» قبول عضوية الجزائر في التحالف، وجاء تعليل وزير الخارجية الروسي واضحا، فتوسيع مجموعة «البركيس» يخضع لمعايير تتضمن وزن الدولة، وهيبتها ومواقفها في الساحة الدولية.
في السابق، كان الخلاف الجزائري الروسي منصبا حول نقطتين: قدرة الجزائر على ممانعة الضغوط الأمريكية وعدم الانصياع إلى سياستها في إضعاف الاستراتيجية الروسية في المنطقة، ثم تلكؤ الجزائر في تقديم دعم لوجستي لموسكو للتمدد في منطقة الساحل.
موسكو اختبرت الجزائر في النقطة الأولى، وتبين لها أنها تخدم مصالحها السيادية بدرجة أولى، ولا تعتبر التحالف مع روسيا موجبا لأي تحول في سياستها، حتى ولو كانت هذه السياسة تضر عمليا باستراتيجية روسيا في المنطقة، ولذلك جاء الجواب الروسي واضحا من خلال رفض عضوية الجزائر في مجموعة «البريكس».
وفي النقطة الثانية، تأكدت موسكو أن الجزائر لن تغامر بمساعدة روسيا لوجستيا بدعم تمددها الجيوستراتيجي في منطقة الساحل، لأن ذلك يضعها بشكل مباشر تحت طائلة التهديد الغربي الجدي، بل تأكدت أكثر بأن حسابات الأمن القومي الجزائري في منطقة الساحل تقع على النقيض من مصالح روسيا، فالجزائر، تدعم قبائل الأزواد، وتعتبرها امتدادا لها في مالي، بينما تعتبر موسكو هذه القبائل حجرة في حذائها تمنعها من تعميق وجودها ونفوذها في مالي، وهذا ما يفسر سياسة الكر والفر بين موسكو والجزائر، فبعد أن كبدت قبائل الأزواد المدعومة جزائريا خسائر كبيرة لميليشيات فاغنر، جاء الدور على هذه الميليشيات المدعومة روسيا من القيام بهجمات قاتلة على مواقع هذه القبائل قرب الحدود الجزائرية، مما أزعج السلطات الجزائرية.
المشكلة، أن الأمر لم يعد يقتصر فقط على الصراع في جنوب الحدود الجزائرية، فالأمن القومي الجزائري، بسبب التوتر مع روسيا، صار مهددا من جهة الشرق أيضا، فالجزائر تقرأ التحشيدات العسكرية للجنرال المتقاعد خلفية حفتر بمثابة إرادة روسية للامتداد في العمق المالي، واستعمال الأراضي الجزائرية لإيصال السلاح إلى الحكومة المالية، وذلك لتقوية النفود الروسي في منطقة الساحل، وهو ما يشكل تهديدا جديا للأمن القومي الجزائري.
خيارات الجزائر التقليدية في الاختبار، فنجاح الجزائر في سياسة البقاء في مربع الحياد تجاه الدول الغربية، وعدم مسايرة الطموحات الروسية، وفي الآن ذاته، دعم قبائل الأزواد لتأمين الامتداد الجزائري في مالي، يعني مزيدا من التوتر مع موسكو، ومراجعة هذه السياسة التقليدية يعني تعريض سيادتها وأمنها القومي للخطر، فهي بذلك بين خيارين، خيار تفكيك تحالفها مع روسيا، أو الإضرار بسيادتها وأمنها القومي.