قبل الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها في فرنسا طرح سؤال خلفيات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الإعلان عن هذا القرار، ومال أكثر المراقبين والمحللين السياسيين والإعلاميين إلى أن القرار كان فيه مغامرة كبيرة، وأنه ربما يقدم هدية لليمين المتطرف لم يكن أبدا يحلم بها. وعند الإعلان عن نتائج الدور الأول، وتصدر اليمين المتطرف للمشهد السياسي، ترسخت القناعة بسوء تقدير الرئيس الفرنسي.
لكن مع الدور الثاني، وبعد إخفاق اليمين المتطرف في الحفاظ على مكتسبات الدور الأول، بدأ يتسرب نوع من الشك حول خلفيات هذا القرار، وما إذا كان الرئيس الفرنسي يتوقع هذه النتائج، خاصة وأن هناك حكمة أضحت سائرة في وعي ومزاج الفرنسيين، أنهم يصوتون في الدور الأول على من يختارون، ثم يصوتون في الدور الثاني ضد من يخافون.
المشكلة التي ربما لم تكن متوقعة بنسبة كبيرة هي صعود يسار الجبهة الشعبية، وما يترتب عنه من مواجهة تحديات تمس السياسة الخارجية الفرنسية، لاسيما ما يتعلق بموقفها من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
ربما كان تقدير الرئيس الفرنسي أن الدور الثاني، أو ما يسمى بدور «التصويت ضد من نخاف» سيؤدي إلى إعلاء أسهم تحالف الماكرونيين، وفي الآن ذاته منع سيناريو تصدر اليمين المتطرف للدور الثاني للانتخابات التشريعية، حتى يتم ترتيب المانع السياسي ضد تعيين رئيس وزراء من حزب مارين لوبين، لكن، في كل تقدير، لا بد من توقع سيناريو المخاطر، أي سؤال ما العمل في حال فوز اليمين المتطرف؟ وما العمل في حال فوز يسار الجبهة الشعبية؟ وهوما حصل.
دستوريا لا شيء يلزم الرئيس الفرنسي بتعيين رئيس وزراء من تحالف الجبهة الشعبية، لكن، من الناحية السياسية، سيكون من الصعب إن تمكن الجبهة الشعبية من تأمين تحالف يمكنه من تشكيل الأغلبية المطلقة ألا يعين رئيس الوزراء منها.
الوضع لحد الآن جد معقد، فالمشهد يضم ثلاث كتل، لا تحظى أي واحدة منها بأغلبية مطلقة، وتوجد عوائق سياسية تعقد عملية التحالف بينها، فيسار الجبهة الشعبية لن يقبل بأقل من تعيين رئيس الوزراء منه، وفرض مواقف سواء على المستوى السياسي الداخلي أو الخارجي، ثم هو صرح أنه أبدا لن يتحالف مع اليمين المتطرف، الذي بدوره، صرح زعيمه أنه في حالة فوزه في الدور الثاني، فلن يقبل أي تحالف حكومي ما لم يكن رئيس الوزراء منه.
في الأيام القليلة التي أعقبت الإعلان عن نتائج الدور الثاني من الانتخابات، تم تسجيل مؤشرين دالين، الأول، وهو دعوة الرئيس الفرنسي رئيس الوزراء إلى الاستمرار في قيادة الحكومة ريثما تستبين الصورة، وذلك حتى لا يقع أي فراغ سياسي في البلاد، ثم فتح باب المشاورات السياسية، وهو ما يعني أن الرئيس الفرنسي الذي رفض قبول استقالة رئيس الوزراء بتأكيده على خيار الاستمرارية يضع في الحسبان إمكان فشل التفاوض لتشكيل الحكومة. وأما المؤشر الثاني، وهو ما نشرته صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية من تسريبات تتعلق بلقاء سري بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقادة اليمين المتطرف بشأن إمكان تشكيل تحالف لتشكيل الحكومة.
السيناريو الأقل كلفة بالنسبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يتجه في خيار ترويض اليمين المتطرف، ومحاولة إدخاله إلى الحكومة
لحد الآن، لا وجود لمعطيات تبين الأثر السياسي الذي يمكن أن يعقب مثل هذه الحوارات السرية، لكن، على الأقل، ينبغي أن نقرأ أولا الدلالة الرمزية لبعث الرئيس الفرنسي رسالة للفرنسيين من قمة الحلف الأطلسي بواشنطن، ونقرأ ثانيا مضمونها، خاصة ما يتعلق بدعوته الفرقاء السياسيين إلى بناء أغلبية صلبة تكون بالضرورة تعددية، مؤكدا أن ذلك سيحصل فقط إذا تبنت القوى السياسية «تسويات».
الفرنسيون يتحدثون عن الغموض والمجهول الذي يدخله المشهد السياسي الفرنسي، لكن قراءة مجمل مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ابتداء من قرار إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها إلى بعث الرسالة من واشنطن والحديث عن الأغلبية الصلبة التعددية والتسويات فضلا عن الحديث عن أسس التحالف المحتمل، أي ضرورة أن تبنى هذه الأغلبية على القيم الجمهورية الواضحة والمشتركة ومشروع عملي يمكن فهمه بسهولة، كل ذلك يرجح أن هناك سياسة رئاسية بيداغوجية مدروسة.
من الواضح أن الفرنسيين فهموا الرسالة بوضوح، واعتبروا أن التأكيد على قواعد التحالف، أي احترام قيم الجمهورية وتبني مشروع عملي، بمثابة دعوة إلى الاستمرار في محاصرة اليمين المتطرف ومنعه من الوصول إلى المربع الحكومي، لكن، الحديث عن التعددية والتسويات، يصعب فهمها فقط بالإحالة إلى ما بين يسار الجبهة الشعبية وتحالف الماكرونيين (الوسط) من مسافة إيديولوجية وسياسية، بل يمكن أن يكون القصد منها بالذات الإشارة إلى صعوبة أن تتجه فرنسا في هذه الظروف الحساسة إلى حكومة يقودها زعيم اليسار جون لوك ميلونشون، وأنها لن تتحمل التداعيات التي يمكن أن ترتب عن ذلك لاسيما ما يتعلق بسياسة فرنسا الشرق أوسطية، وسياستها نحو حلفائها.
أقل إشارة يمكن أن تلتقط من رسالة ماكرون أنه قد كسب الرهان، لأنه يريد مجتمعا سياسيا فسيفسائيا، لا يملك فيه أي حزب أو تكتل أحزبية مطلقة، وأن التسرع بالإعلان عن شروط التحالف من بعض القوى، وبالضبط شرع عدم قبول الدخول في أي تحالف حكومي ما لم يتم تعيين رئيس الوزراء منه، يجعل عملية التسويات أمرا مستحيلا، وفي الآن ذاته، يجعل مسعى تشكيل الحكومة مؤسسا على مبدأ المغالبة، أي وجود حزب قوي من البدء لا يقبل بأن يضع قناعاته جانيا، لمصلحة بناء تحالف تعددي هجين، يستطيع الرئيس الفرنسي التحكم فيه وإدارة تناقضاته.
مضمون هذه الرسالة أن الرئيس الفرنسي يريد حكومة تعددية لا يستطيع أي تكتل سياسي داخلها منازعته سياسيا، سواء على مستوى القرار السياسي الداخلي، أو الخارجي، ومن ثمة، فلا خيار لتشكيل الحكومة سوى بترويض أحد التكتلين الإيديولوجيين، يسار الجبهة الشعبية، أو اليمين المتطرف.
في تقديري، سيكون التفاوض مع اليمين المتطرف أسهل بكثير من التحالف مع زعيم فرنسا الأبية، لسبب بسيط، أن اليمين المتطرف انكسر بسبب عدم محافظته على زخمه الانتخابي بين الدورين، بينما خرج يسار الجبهة الشعبية منتصرا، ولن يرضى بأقل من فرض شروطه.
المشهد السياسي الغامض والماضي نحو المجهول هو ورقة مشتركة بيد الجميع، ولا يستطيع أحد أن يحتكروها لنفسه، لكن، ربما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحده، قادرا على إدارة اللعبة، لأنه دائما يملك خيار الاستمرارية (حكومة تصريف أعمال) أو الدعوة لانتخابات تشريعية أخرى في حال الفشل في تشكيل الحكومة، أو خيار ترويض أحد الحزبين، حتى يقبل الدخول في حكومة يتحكم فيها ويستطيع أن يدير تناقضاتها بسهولة.
تقديري، أن السيناريو الأقل كلفة بالنسبة للرئيس الفرنسي أن يتجه في خيار ترويض اليمين المتطرف، ومحاولة إدخاله إلى الحكومة، فيحقق بذلك هدفين، هو إضعافه في الاستحقاقات الرئاسية المقبلة، إذ لا يستلزم دخول الحكومة تقديم ثمن سياسي، وسيعمل الرئيس الفرنسي على تحميل هذا اليمين مسؤوليته في الإخفاق التدبيري من موقع الحكومة في الانتخابات المقبلة، وأما الهدف الثاني، وهو تجنيب فرنسا الإحراج الذي يمكن أن تواجهه من طرف حلفائها (الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل) في حال صعود زعيم فرنسا الأبية وتشكيل حكومته، ومضيها نحو الاعتراف بدولة فلسطين وإدانة السياسات العدوانية.
كاتب وباحث مغربي بلال التليدي