أولا :تقدير نسبة الخطأ في العقل والحس
إن التحديد المنهجي في الفكر الإسلامي ،للشروع في التحصيل المعرفي، يبقى رهينا بتقدير مستوى الأدوات التي ستكون حاضرة عند هذا المذهب أو ذاك ، من حيث قوتها أو ضعفها ، سرعتها أو بطؤها. رغم أن العلوم الضرورية يكاد يتفق عليها جل الباحثين في هذا المجال. ومع هذا فسيطرق الخلاف حول: أي البديهيات ذات الأولويات في البحث العلمي، هل هي العقلية، أم الحسية أم الحدسية والوجدانية والتي هي شعور النفس بذاتها، دون وسائط أو مقدمات ؟.
وهذا الخلاف سيتشعب إلى تقدير نسبة الصواب والخطأ الذي يمكن أن تقع فيه هذه الأداة أو تلك ، بحسب تعلقها بمعلومها. بحيث إن أغلب النقاش قد دار حول الحواس والعقل بالدرجة الأولى، كطريقين بسيطين ومعقدين في آن واحد للتحصيل المعرفي. ولحل الإشكال بينهما فقد يحتاج إلى طرح موضوع دقيق يمكن أن نصطلح عليه بعلم نفس المعرفة ، أو نفسية المعرفة في الفكر الإسلامي.
وكنموذج من هذه الاختلافات ،حول معطيات الحس أو العقل المعرفية ومدى صمودها أمام التشكيك والتخطيء ،سنجد الغزالي يشكك في قيمة الحواس كأداة ضامنة للمعرفة اليقينية ، باعتبارها من حيث الدرجة دون أداة فوقها، تكون هي الحاكمة عليها، كما يقول : “فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات،وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا. وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول : من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ؟ ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة ، بل على التدريج ذرة ذرة ، حتى لم تكن له حالة وقوف . وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار الدينار ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته. فقلت :قد بطلت الثقة بالمحسوسات” .
وإذا كان الغزالي هنا قد نسب خطأ الحكم إلى الحس فسنجد رأيا صوفيا آخر معارضا له في الموضوع . ليس على سبيل المناقضة ، وإنما على اعتبار أن الحكم لا يكون إلا للعقل ،الذي هو ميزان الوعي عند الإنسان والعنصر الأساسي في بنائه النفسي.
أما الحس فهو آلة حيوية غير واعية لا تعطي إلا ما في طاقتها وقدرتها الاستيعابية على مستوى الانعكاس بين الأثر والمؤثر. وفي هذا يقول محيي الدين بن عربي: “وقد غلط في هذا جماعة من العقلاء، ونسبوا الغلط للحس ، وليس كذلك وإنما الغلط للحاكم . وأما إدراك العقل للمعقولات فهو على قسمين : منه ضروري على سائر الإدراكات ، ومنه ما ليس بضروري، بل يفتقر في علمه إلى أدوات سمت ، منها الحواس الخمس .. ومنها القوة المفكرة . ولا يخلو معلوم يصح أن يعلمه مخلوق أن يكون مدركا بأحد هذه الإدراكات . وإنما قلنا إن جماعة غلطت في إدراك الحواس ، فنسبت الأغاليط ،وذلك أنهم رأوا إذا كانوا في سفينة تجري بهم مع الساحل ، رأوا الساحل يجري بجري السفينة . فقد أعطاهم البصر ما ليس بحقيقة ولا معلوم إنهم عالمون علما ضروريا أن الساحل لم يتحرك من مكانه . ولا يقدرون على إنكار ما شاهدوه من التحرك . وكذلك إذا طعموا سكرا وعسلا فوجدوه مرا وهو حلو. فعلموا ضرورة أن حاسة الطعم غلطت عندهم ونقلت ما ليس بصحيح . والأمر عندنا ليس كذلك ، ولكن القصور والغلط وقع من الحاكم الذي هو العقل لا من الحواس . فإن الحواس إدراكها لما تعطيه حقيقتها ضروري، كما أن العقل فيما يدركه بالضرورة لا يخطئ، وفيما يدركه بالحواس أو الفكر قد يغلط ، فما غلط حس قط . ولا ما هو إدراكه ضروري فلا شك أن الحس رأى تحركا بلا شك ووجد طعما مرا بلا شك . فأدرك البصر التحرك بذاته ، وأدرك الطعم قوة المرارة بذاته . وجاء عقل وحكم أن الساحل متحرك ، وأن السكر مر. وجاء عقل آخر وقال إن الخلط الصفراوي قام بمحل الطعم فأدرك المرارة ، وحال ذلك الخلط بين قوة الطعم وبين السكر. فإذن فما ذاق الطعم إلا مرارة الصفراء. فقد أجمع العقلاء من الشخصين على أنه أدرك المرارة بلا شك . واختلف العقلان فيما هو المدرك للطعم . فبان أن العقل غلط لا الحس، فلا ينسب الغلط أبدا في الحقيقة إلا للحاكم الشاهد.
وعندي في هذه المسألة أمر آخر يخالف ما ادعوه ، وهو أن الحلاوة التي في الحلو وغير ذلك من المطعومات ليس هو في المطعوم ،لأمر إذا بحثت عليه وجدت صحة ما ذهبنا إليه ، وكذا الحكم في سائر الإدراكات . ولو كان في العادة فوق العقل مدرك آخر يحكم على العقل ويأخذ عليه كما يحكم العقل على الحس لغلط أيضا ذلك المدرك الحاكم فيما هو للعقل ضروري، وكان يقول أن العقل غلط فيما هو له ضروري.
فإذا تقرر هذا وعرفت كيف رتب المدركات والإدراكات، وأن ذلك الارتباط أمر عادي فاعلم أن لله عبادا آخرين خرق لهم العادة في إدراكهم العلوم . فمنهم من جعل له إدراك ما يدرك بجميع القوى من المعقولات والمحسوسات بقوة البصر خاصة ، وآخر بقوة السمع ، وهكذا بجميع القوى. ثم بأمور عرضية خلاف القوى من ضرب وحركة وسكون وغير ذلك “[1].
ثانيا:مبدأ التناسب بين الحاكم والمحكوم عليه معرفيا
وهذا النص المطول نسبيا سيمثل منحى جديدا وجمليا في مجال نظرية المعرفة وتحديد الأوليات في مناهج البحث ، وخاصة النفسي. سواء كان على مستوى تجريدي أم على مستوى حسي واستقرائي. وذلك أنه قد أقصى فكرة الغلط إقصاء موضوعيا عن الحس . في حين فقد كان أغلب البحاث والمفكرين من المسلمين وغيرهم – وما زال البعض لحد الآن – يرون أن الحس قد يغلط[2]، بينما الحقيقة الموضوعية ليست كذلك . وإنما الغلط هو النفس في حكمها على الأشياء، وخاصة حينما تكون من غير جنسها بنية ووظيفة . والحواس ليست من جنس الفكر- كما سنرى عند تعريفها- ولهذا فإسقاط الحكم على العنصر المنفصل جنسا يكون غير بديهي، لأنه ليس ذاتيا. وقد أشار ابن عربي إلى هذا المستوى البديهي وأثاره على الحكم الصحيح من مستوى العقل نفسه . وهنا تطرح مسألة جوهرية أثارها وهو: مبدأ التناسب الحكمي بين الحاكم والمحكوم عليه على المستوى المعرفي ،ويعني: أن كل أداة لها خصوصياتها وحدودها في الإدراك والحكم . فالحس لا يمكن اعتباره حاكما بقدر ما هو دال على الحكم ، أما الحاكم الحقيقي نسبيا فهو العقل . والعقل لا يمكن أن يحكم حكما مطلقا على الحس ، لأنه بالنسبة إليه ليس بديهيا أو ذاتيا، وإنما هو خارجي. ومن هنا يقع له الغلط ، بينما يكون حكم العقل بديهيا إذا حكم على نفسه، وذلك بما يسمى بالعلم الضروري، أي ” العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات “.و هو ما يراه الغزالي أيضا فيما بعد التشكيك كما سبق وعرضنا.
هذا الاعتبار المعطى للعقل قد يتفق عليه جميع المفكرين المسلمين سواء كانوا متكلمين أو صوفية ، أو فقهاء حنابلة ، كابن تيمية أو ابن القيم الجوزية بل حتى الفلاسفة وغيرهم .
بحيث نجد تطابقا نظريا حول تغليط الحواس بين الغزالي وابن تيمية ، إذ يرى هذا الأخير أن “الأسباب العارضة لغلط الحس ،الباطن أو الظاهر، والعقل بمنزلة المرض العارض لحركة البدن والنفس. والأصل هو الصحة في الإدراك وفي الحركة . فإن الله خلق عباده على الفطرة ، وهذه الأمور يعلم الغلط منها بأسبابها الخاصة ، كالمرة الصفراء العارضة للطعم، وكالحول في العين ونحو ذلك . وإلا فمن حاسب نفسه على ما يجزم وجد أكثر الناس ، الذين يجزمون بما لا يجزم به ، إنما جزمهم لنوع من الهوى، كما قال تعالى: “وإن كثيرا ليضلون أهوائهم بغير علم” وقال : ” ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله”…”[3].
فالخلاف القائم إذن هو حول الحواس : هل تعتبر حاكما أم ليست بحاكم ؟ لا أن الحواس قد تمرض أو تصح ، لأنها -حسب رأي ابن عربي- إذا مرضت فقد تعطي بحسب مرضها، وهي صادقة . وإذا صحت فقد تعطي بحسب صحتها ،وهي صادقة أيضا. كما أن ابن تيمية يشير في نصه هذا إلى مسألة غلط العقل أيضا، وينسبه إلى المرض العارض ، وإلا فالأصل هو الصحة . لكنه لا يفصل ،حسب ما يحكي ابن عربي، بين العقل البديهي والعقل الكسبي، وإن قد يوجد لديه تفصيل في مكان آخر.
ونسبة الغلط إلى العقل سنجد له رفضا من طرف ابن حزم ، وهو بهذا يكون أقرب إلى رأي ابن عربي، ولكن في حدود الأداتين ، وهما: العقل والحس. إذ يرى بأن العقل والحس لا يغلطان في حكمهما ،فلا ” طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين: أحدهما ما أوجبته بديهة العقل والحس ، والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس“[4]. كما سيذهب إلى اعتبار الحكم العقلي حكما قطعيا لا يختلف فيه اثنان ، وأنه بديهي ومؤسس عند الإنسان منذ الصبا كما بينا.
[1] ابن عربي:الفتوحات المكية ج1 ص213-214
[2] جميل صليبا: علم النفس ص375
[3] ابن تيمية :كتاب مفصل الاعتقاد 4 ص 30
[4] ابن حزم :الإحكام في أصول الأحكام ،دار الفكر العربي ،القاهرة 1978 ج1 ص66