أولا:معرفة النفس والتوظيف التنوع لمناهج البحث
إن طرح مسألة العلوم أو المعارف الضرورية إلى جانب الحديث عن المنهج التلقائي والإدراكي في مجال المناهج الفكرية والعقلية عامة ، قد يستنتج منه بأنه من غير المعقول احتكار المناهج سواء على مستوى ما قبل مناهج الفكر الإسلامي أو بعده.لأن المسلمين قد كانوا واعين جدا بمصادر معرفتهم، وهي أساسا المصدر الإلهي ،المنحصر في النص القرآني والحديث النبوي المبين له، والمصدر النفسي المتمثل في إدراك المبادئ العقلية والبديهية التي قد يتفق عليها كل عاقل.
ومن هنا فقد كان تعامل الفكر الإسلامي مع المناهج المستوردة في الماضي،وخاصة اليونانية ، محصنا بالاستظلال بالنص الديني وهديه، وبالوعي النفسي بالتقبل الذاتي ودرجاته . مما جعل المسلمين محصنين ومحوِّرين لكل ما تقع عليه أنظارهم بحثا وتنقيبا، رغم ما قد يبدو عند النظرة السطحية الأولية أنه يوجد تشابه كلي أو تطابق جوهري بين بعض مناهج الفكر الإسلامي ومناهج اليونان، وخاصة عند اقتباس المنطق الأرسطي واعتماده في البحث العلمي بصورة محدودة.
ولهذا فلقد حاول بعض الباحثين الذين درسوا أثر المنطق الأرسطي في العالم الإسلامي أن يثبتوا مشابهة القياس الأصولي للتمثيل الأرسطي. وهذه نظرة غير فاحصة وخاطئة تمام الخطأ منهجيا كما يقول النشار:”حقا إنهما يبدوان كأنهما من طبيعة واحدة، إذ في كليهما انتقال من جزئي إلى جزئي. ولكن في الحقيقة أن هذين الطريقين يختلفان أشد الاختلاف في جوهرهما وفي طريقة علاج أرسطو للتمثيل وعرض المسلمين للقياس بالرغم من هذا التشابه الظاهري السالف الذكر.
ومن الثابت أن المسلمين توصلوا إلى فكرة القياس قبل أن ينقل إليهم المنطق الأرسططاليسي بكثير، قاس فقهاء الصحابة ، وقاس فقهاء التابعين … قبل أن يعرفوا المنطق اليوناني وقبل أن ينتقل إلى التراث الإسلامي، وتوصلوا إلى مبحث العلل …”[1].
وهذا هو نفسه ما صرح به الشهرستاني في صيغة غير مباشرة ،مستشفا من خلالها وجود مناهج عند المسلمين في البحث والاستدلال،حينما قد كان المعتزلة يبدون نوعا ما أكثر التزاما منهجيا من غيرهم، وخاصة الحنابلة،وذلك قبل أن يدخل المنطق اليوناني إلى ساحة الفكر الإسلامي. فنراه يقول : “وكان بين المعتزلة وبين السلف في كل زمان اختلافات في الصفات، وكانت السلف يناظرونهم عليها لا على قانون كلامي، بل على قول إقناعي ويسمون الصفاتية فمن مثبت صفات الباري تعالى معاني قائمة بذاته ،ومن مشبه صفاته بصفات الخلق، وكلهم يتعلقون بظواهر الكتاب والسنة، ويناضلون المعتزلة في قدم الكلام على قول ظاهر…ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام …”.
فمناهج الكلام كانت قبل مناهج الفلاسفة، ومن هنا فالفكر الإسلامي تبقى له الأسبقية في صياغة مناهجه قبل أن يستورد مناهج أخرى على صورة تحوير وكيمياء نظرية كما سبق وقلنا.
ولسنا الآن بصدد التفصيل في موضوع المناهج بصفة عامة ،وخاصة ذات البعد الاستدلالي العقلي المحض، من حيث هي مناهج عقلية استدلالية أو قياسية منطقية محددة. وإنما الذي يهمنا بالأساس هنا هو مناهج الفكر الإسلامي في معرفة النفس أولا، لأن هذه المناهج الأخيرة لا بد وأن تكون مؤسسة على المناهج الأولى، والتي قد يشترك في استعمالها جل الباحثين المسلمين في مجال المعرفة سواء كانت فقهية أو كلامية وغيرها.
ولكن مع هذا ، فلابد من الإشارة إلى خصوصية المناهج داخل الفكر الإسلامي نفسه ، وذلك الاختلاف الظاهري الذي قد يبدو واضحا بين مناهج بعض الفرق الإسلامية المتصدرة للبحث المعرفي، من خلال مواقف الرد والقبول للمنطق اليوناني، باعتباره منهجا عقليا في البحث كما سبق وعرضنا له باختصار.
بيد أن طرق القبول هي أيضا ستمثل منهجية خاصة بأصحابها.إذ القبول لدى المتكلمين والفقهاء لم يكن على نفس الأسلوب الذي تم به لدى الفلاسفة المسلمين[2] باختلاف مستويات التحوير والتوظيف الاصطلاحي والموضوعي للمنطق ، وتوابعه وخلفياته في الفكر اليوناني.
أما الرفض فقد كان أيضا على مستويات ، وخاصة لدى الفقهاء الذين ” قاموا بالهجوم على المنطق الأرسططاليسي ونقده،رأينا هذا الهجوم أولا على المنطق الأرسططاليسي في موقف علماء المسلمين تجاه الغزالي، وهو أول من مزج منطق أرسطو بعلوم المسلمين،ثم رأيناه في محاربة علماء المشرق والمغرب لهذا المنطق والمشتغلين به. كما ظهر النقد عند ابن الصلاح في صورة فتوى تحرم الاشتغال به . ثم توجه نقد المنطق نقدا علميا وحاول أن يضع آراء جديدة في المنطق . وانتهى النقد في مدرسة الفقهاء بعد ابن تيمية إلى فريقين من العلماء، فريق تابع ابن تيمية في نقده لأصول منطق أرسطو، وفريق تابع ابن الصلاح في البحث في مسألة التحريم “[3].
وسواء ظهر البحث عند أغلب الفرق الإسلامية بمنهج الاستقراء أو القياس الاستدلالي، فإنه قد يتفق في النهاية على توظيف أداة واحدة وعادية تستند على الضروريات العقلية ، ومعطياتها الحسية .
لكن الذي قد يبدو في بعض الأحيان متميزا بوضوح عن المناهج العادية في البحث العلمي هو ما يوجد عند الصوفية خاصة . بحيث سيتبين للباحث منذ تكوينهم حسب رأي النشار:” البون الشاسع بين منهجهم في المعرفة ومنهج المتكلمين والمناطقة . فبينما كان منهج هؤلاء الأخيرين يستند على العقل ، قدم الصوفية منهجا جديدا أسموه أولا: الاستنباط القرآني، أن يردد الصوفي القرآن مستغرقا فيه حتى تنفتح له المعاني الإلهية، ثم ينتقل إلى معاناة العبادة والخلوة والتردد بين المقامات الصوفية ، والأحوال حتى تنقدح المعرفة الإلهية فيه أو تلقى فيه فيتذوقها. فإذا كان منهج المتكلمين والفلاسفة هو العقل ، فقد انتهى موقف الصوفية إلى الذوق والحدس”[4].
ولقد حاول الغزالي أن يستقرئ المناهج المتعددة في الفكر الإسلامي للتحصيل المعرفي، من خلال تقسيمه لطالبي الحق في نظره ، مما أظهر عنده التمايز المنهجي داخل دائرة الفكر الإسلامي وحدود هذه المناهج في الإيصال إلى المعرفة اليقينية بصورة لا تقبل الشك أو المراجعة والتردد.
فكما يقول في كتابه :”المنقذ من الضلال: “وانحصرت أصناف الطالبين عندي في أربعة فرق : – المتكلمون وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر.
– الباطنية وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم .
– الفلاسفة وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان .
– الصوفية وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة “[5].
فبعدما استعرض كل فرقة على حدة، بتحديد بعدها ومستوى تطلعها المعرفي، سيطرح مزجا ضروريا بين المباحث النظرية والمباحث الذوقية ، وذلك للتداخل الضروري الحاصل بينها. إذ أنه حينما تعرض للمباحث الخلقية والنفسية عند الفلاسفة وأهل المنطق رأى بأن الأصل في هذه المباحث ناتج عن الاقتباس من المنهج الصوفي وأصحابه ،كما سبق وبينا.
وهذا نفسه سنجده لدى بعض البحاث إلى حد ما ، باعتبار تخصص الصوفية في المجال النفسي الوجداني والانفعالي كموازاة للاتجاه العقلي الاستدلالي. وفي هذا يقول حسن حنفي:”وما قيل عن الإشراقيات في الفلسفة يقال هنا أيضا عن العلوم الكشفية في التصوف القديم . فقد نشأت العلوم الكشفية في التصوف كرد فعل على بيئة معينة يسودها العقل كما وضح في الفلسفات العقلية والتيارات الكلامية العقلية . وظهرت الأحوال النفسية في التصوف من قبض وبسط وغيبة وحضور وصحو وسكر وفقه ووجد وهيبة وأنس وبقاء وفناء، كرد فعل على المقولات العقلية من كيف وكم وجهة وإضافة وزمان ومكان وجوهر وعرض وفعل وانفعال وكلي وجزئي وعام وخاص”[6].
ثانيا:معرفة النفس بين الفكر النظري والمسلك الوجداني
هذا التمايز والتداخل الموضوعي في نفس الوقت بين المجال الوجداني والعقلي، في تحليل واستكشاف الواقع النفسي،قد يجعل من الصعب فصل مناهج معرفة النفس في الفكر الإسلامي عن بعضها البعض فصلا كليا ،نظرا لأن كل البحاث المسلمين لهم إلمام واعتماد نسبي إما من جهة الوجداني أو العقلي. وخاصة البارزين على ساحة التأليف في المجال النفسي، لأنه كثيرا ما “يند عديد من المفكرين عن التصنيف مثل الغزالي، فهو ليس متكلما فقط ولا أصوليا فقط ، ولا منطقيا فقط ، ولا صوفيا، هو كل ذلك في نفس الوقت . وكأن وحدة الحضارة وعلومها تظهر وحدة الفكر وثقافته ” على رأي حسن حنفي…وكذلك ابن تيمية فهو ليس أصوليا فقط أو فقيها فقط ، بل هو كل ذلك في آن واحد. وكذلك ابن رشد هو فيلسوف أو متكلم أم فقيه أو طبيب ،وابن حزم هل هو متكلم أو فقيه أم منطقى أم عالم نفس وحدة الحضارة ممكنة إذن من خلال وحدة المؤلف”[7].
إن هذه الظاهرة التي تطبع شخصيات المفكرين المسلمين العلمية ستجعل من الصعب جدا تحديد المناهج بحسب المذاهب ، شأنها شأن الأعراض الصحية التي تنطبق على كل الناس الأصحاء. بينما قد يعرفون في نفس الوقت تفاوتات وتمايزات على مستوى تلك الأعراض نفسها من حيث المظهر، بحيث سيوجد التفاوت في السمنة والسحنة ، والطول والقصر، واللون وما إلى ذلك . في حين قد ينطبق مبدأ الصحة على كل الذين توجد لديهم هذه الأعراض.
كذلك شأن الفكر الإسلامي في صوره الصحية الأصلية . إذ التشابه بين إنتاجاته وطرق استدلالاته واضح جدا بل مؤكد، لأنه بكل أوجهه قد يستمد أصوله من النص الديني ،المتمثل في الكتاب والسنة ابتداء وانتهاء.
لهذا فالاختلاف ليس سوى اختلاف في صور المناهج لا في جواهرها، وذلك إما على صورة نظرية محضة أو على صورة عملية أكثر منها نظرية إذ “يمثل التصوف مع الأصول فكرا منهجيا وليس فكرا نظريا كما هو الحال في الكلام والفلسفة ، ويضع نفسه كطريقة عملية وليس كبحث نظري، ومن ثم النظرتان ، فكر نظري في الكلام والفلسفة ، وفكر منهجي في الأصول والتصوف”[8] .
لكننا أمام هذا التقسيم الشكلي لا يسعنا سوى أن نتساءل :كيف تم تحديد الطريقة العملية ،هل على مستوى التلقائية أم على مستوى منهجي معين وإدراكي؟ بحيث إذا نظرنا إلى المنهج الصوفي فسنجده منضبطا إلى حد ما بل مؤديا إلى نتائج ملموسة وواقعية ، ولها آثار نظرية لا مجال لإنكارها لأنها تأخذ طابعها الموضوعي بكل المقاييس النظرية والاستقراءات العلمية الميدانية . وهذا سيوقع في الإشكال السفسطائي -إن صح التعبير- وهو ما الأسبق إلى الوجود: هل البيضة أم الدجاجة ؟.
بحيث إذا نظرنا إلى الدجاجة رأيناها تلد البيضة ، وإذا نظرنا إلى البيضة وجدناها تفقص دجاجة . وهذا الإشكال نفسه قد يطرح حول منهج الصوفية في المباحث العلمية ، وخاصة في معرفة النفس ، لأنه يقال: هل المناهج الصوفية مناقضة للمناهج العقلية المستعملة عند كل من المتكلمين ، والفلاسفة ، وعلماء أصول الفقه ، أو الفقهاء وغيرهم من المتخصصين العلميين في الفكر الإسلامي؟
فلقد أفرد طاش كبرى زاده فصلا في “النسبة بين طريق النظر وطريق التصفية” ، وقرر “أن هناك طريقين : الأول منهما طريق الاستدلال ، والثاني طريق المشاهدة . والأول درجة العلماء والراسخين ، والثاني درجة الصديقين . ثم إن كلا من الطريقين قد ينتهي إلى الآخر فيكون صاحبه مجمعا للبحرين . أي يجمع بين الاستدلال والمشاهدة ، أو العلم والعرفان ، أو الشهادة والغيب . فالسالكون إلى الحق إذن مع كثرة الطرق وتعددها نوعان : أحدهما ما يبتدئ من طريق العلم إلى العرفان ، ومن طريق الشهادة إلى الغيب . وثانيهما ما ينجلي له الحق بالجذبة الإلهية ، فيبتدئ من الغيب ثم ينكشف له عالم الشهادة ، أي يبدأ بالذوق وينتهي إلى الحكمة العقلية”[9].
[1] النشار:مناهج البحث في الفكر الإسلامي،دار المعارف 1978ط4ص90
[2] الشهرستاني:الملل والنحل ج1ص32
[3] النشار:مناهج البحث في الفكر الإسلامي ص227
[4] نفس ص231
[5] الغزالي :المنقذ من الضلال ص12
[6] حسن حنفي:من التراث إلى التجديد ص120
[7] نفس ص ص146-147
[9] طاش كبرى زاده:مفتاح السعادة ص63-64