في حومة الجون عند الخندق الكبير الذي تنتهى إليه جرية لهر عنصر اللوز موضع يسميه الناس غرسة عياض، يذهبون إلى أنها جنة القاضي عياض اليحصبي السبتي التي كان يتردد عليها في بليونش. وقد سألت عنها الفقيه الأستاذ أحمد بنياية البليونشي فأنكر ذلك، وذكر أنه في عشرينات القرن الماضي قدم شخص من الريف يقال له عياد، بالدال المهملة، واتخذ بذلك المحل غرسة له فنسبت إليه، على أن أهلها تارة يقولون: غرسة عياد وتارة كربة عياد ونحو هذا. وكذلك سألت الأستاذ أحمد أوطاح مورخ سبتة، فلم يرتض هذا القول، إضافة إلى أن هذا الموقع يخترقه خندق كبير، لا يصلح أن يتخذ فيه جنة ولا بستان.
ومن المؤكد تاريخيا أن القاضي عياض رحمه الله كانت له في بليونش جنة يتردد عليها للنزهة والاستجمام كغيره من أعيان سبتة، وكان له فيها مسجد وعليه دكان يجلس إليه مستقبلا البحر. وقد ذكر ابنه خبرين متعلقين هذا المسجد.
الخبر الأول: قال: وأخبرني ابن عمي أبو عبد الله الزاهد أبي رحمة الله أنه كان جالسا مع أبي رحمة الله عليه في عشية يوم على دكان مسجده بقرية بليونش إذ أتى بعض طلبته بجزء لا أثبت أنا قدر جرمه فأخذه أبي رضي الله عنه من يده وجعل يستغربه ويورق فيه وينظرتارة ويتحدث معهم تارة فلما حان انصرافهم دفعه لصاحبه فقال له: يا سيدي أمسكه حتى تقضي منه أربك فقال له: لا حاجة لي به فما بيت فيه فائدة إلا أخذتها أو نحو هذا.
الثاني: وأخبرني بعض أصحابنا قال لي دخل علي أبوك وأنا في مسجده وفي يدي سفر فقال لي ما بيمينك فقلت له اليتيمة فقال لي ما تقرأ منها فقلت له شعر محمد بن عبد السلامي فقال لي فما تقرأ منه فقل له قصيده التي يقول فيه:
وقد ضـاق العناق فلو فطنا *** دخلنا في المناطـق والجيوب
فقال لي: لو قال قدرنا. لكان أشعر».
وهذا المسجد كان من مرافق الجنة وكان يجتمع إليه فيه من يؤمه من طلبة العلم وخواص أصحابه. وإذا استحضرنا وصف القاضي عياض لمسالك بليونش ووعروتها بقوله:
بليونش جنة ولكـــــن *** طريقها يقطـع النياطـا
كجنـة الخلـد لا يراه *** إلا الــذي جـــــــاوز الصراطــــــــا
علمنا كثرة تردده إليها وولعه بزيارتها. والطلوع الذي يقطع النياط مناسب أن يكون موضعها حومة الغروس، قرب جنة عبد السلام وجنان ابن هذيل وجنة القاضي عبود وغيرهم ممن كانوا في تلك الفترة قرب نهر عنصر اللوز. وقد اشترى القاضي رحمه الله غرسة أخرى في ربض مالقة، وكان له بسبتة ضياع. والظاهر أن القاضي عياض قد تأنق في بناء هذه الغرسة، لأنه عرف أنه كان مع تواضعه الجم يلبس الملابس الرفيعة، ويركب المراكب الحسنة.
وإذا كانت دار القاضي عياض في سبتة بقيت معروفة عند الناس إلى القرن التاسع الهجري، وسكنها الشيخ محمد العباسي الخطيب بجامع أفراك. وكذلك زقاقه الذي كان يسكن فيه ومسجده ودار ابن الغرديس التي نزل بها القاضي عياض عند مروره بفاس لا زالت معروفة عند الناس إلى اليوم، فغير مستبعد أن يتناقل الناس أمر غرسة عياض، وتبقى الروايات الشفوية دالة على موقعها العام. والله أعلم.
الكتاب: سبتة وبليونش “دراسة في التاريخ والحضارة”
للمؤلف: د. عدنان أجانة
منشورات تطاون أسمير/ الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية
(بريس تطوان)
يتبع…