مظاهر الوفاء والكفاح من أجل تحقيق الأمن والاستقرار من خلال ذكرى انطلاق عمليات جيش التحرير بشمال المملكة
الحمد لله على الدوام، والصلاة والسلام على سيد الأنام؛ محمد بن عبد الله الرسول الخاتم، وعلى آله وصحبه النجوم، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقب الملوان.
هذه كلمة موجزة ألقيتها في الندوة الفكرية التي نظمت بفضاء الذاكرة التاريخية بمراكش، وموضوعها:
انطلاق العمليات الأولى لجيش التحرير بشمال المملكة: منعطف تاريخي حاسم ونقلة نوعية من الكفاح الوطني ضد الاستعمار الإسباني.
وقد اختصرت الحديث عن كلمتي من خلال محورين:
أحدهما: حول أهمية إحياء الذكريات والمناسبات الدينية والوطنية
وثانيهما: حول مظاهر الوفاء والكفاح من خلال هذه الذكرى وأثرها في تحقيق الأمن والاستقرار.
المحور الأول: أهمية إحياء الذكريات والمناسبات الدينية والوطنية
إن كلمة “الوطن” بمجموع ما تحمله من دلالات عميقة، تجسد عمق ارتباط الفرد بأصله ومنشئه، وكذلك علاقته بأفراد مجتمعه الذي هو من مكونات الوطن، ومن هنا نستخلص معنى “الوطنية” التي تطلق على ألسنة كثير من المتحدثين، وتأتي في سياقات متنوعة ومختلفة؛ لتبرز في الأخير قوة العلاقة المتلازمة بين الفرد ووطنه.
وترتبط بهذه الوطنية أحداث ووقائع في كل وقت وحين، مما يبرز من خلالها نشوء أجيال من الوطنيين الصادقين والغيورين على حماية وطنهم وتقديم الغالي والنفيس من أجل استقراره وازدهاره والحفاظ على أمنه الوطني والروحي؛ كما قال الحق سبحانه: “رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر” [الأحزاب].
وإن المتأمل في المصادر التاريخية بالإضافة إلى كتب التراجم والطبقات يلمس من خلال سيرة أعلام في مختلف المجالات والتخصصات ذلك النبوغ المغربي والخصوصية المغربية الفريدة التي تنبثق عن ضمير واع بقيمة الوطن، وعن حس متشبع بحب البذل والعطاء، إلى جانب التفاني بالنفس والمال من أجل المحافظة على ثوابت المملكة المغربية الدينية والوطنية، وعلى رأسها إمارة المومنين الحامية للملة والدين.
وليس ببعيد عنا وقد احتفلنا سابقا بذكرى انتفاضة المشور وذكرى ثورة الملك والشعب، وذكرى عيد العرش المجيد، ما سطره التاريخ من مواقف صادقة تجاه الوطن، وتجاه إمارة المومنين التي هي متجذرة في قلوب المغاربة وهم متمسكون بالبيعة الشرعية لأمراء المومنين.
فقد رأينا مواقف لأبطال امتنعوا عن البيعة للأمير المزعوم “ابن عرفة”، وكيف تصدى الوطنيون لذلك، إلى جانب الاستنكار العام لعموم المواطنين والمواطنات الذين تمسكوا بالبيعة الشرعية لمولانا محمد الخامس طيب الله ثراه.
ومن هؤلاء الأعلام الذين ارتحلوا قريبا العلامة محمد البراوي رئيس المجلس العلمي المحلي سابقا “الذي أبعد عن العمل سنة 1953م ضمن جماعة العلماء الأحرار الذين امتنعوا عن بيعة ابن عرفة، ولما رجع جلالة المغفور له السلطان سيدي محمد الخامس من منفاه، وفي يديه الكريمتين وثيقة الاستقلال رجع إلى العمل ضمن العلماء المبعدين لأفكارهم السياسية فأسندت إليه مراقبة الدروس بكلية ابن يوسف، ثم في سنة 1959 عين مفتشا للدروس، ثم عين ناظرا عاما لثانوية ابن يوسف إلى سنة 1971” [ينظر بتصرف المجلس العلمي لمراكش تاريخ وأعلام ص: 177-178].
ومنهم أيضا “الأستاذ المهدي حاتم الذي كان يعمل بجد وإخلاص نية إلى أن أبعد عن الدراسة عقب ترحيل الملك المجاهد المغفور له سيدنا محمد الخامس طيب الله ثراه عن عرشه وشعبه ضمن المجموعة المبعدة من كلية ابن يوسف، وغير خاف ما أصاب هذه المجموعة من المحن والنكبات عقب الترحيل المذكور.
ولما انفرجت الغمة عن هذه الأمة ورجع المجاهد العظيم منتصرا على خصومه حاملا الحرية والاستقلال عاد إلى العمل ضمن المجموعة المبعدة لأفكارها الوطنية وعدم مبايعتها لابن عرفة، بصفته عضوا في المجلس العلمي ثم جددت هذه العضوية بناء على القرار الذي اتخذه صاحب الجلالة الحسن الثاني طيب الله ثراه، كما برسالة معالي وزير التعليم تحت عدد : 2033، وحين صدر الظهير الشريف المؤسس لجامعة القرويين جمع له بين العضوية في المجلس العلمي والتدريس بكلية اللغة العربية، وفي سنة 1973 أنعم عليه مولانا المنصور بالله بوسام الرضى من الدرجة الممتازة”[ينظر بتصرف المجلس العلمي لمراكش تاريخ وأعلام ص: 147-148].
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه إذا كان الفرد في حياته يحتفي ويحتفل بمحطات من عمره الذي أمضاه، فإن من باب أولى الاحتفاء والاحتفال بالأيام والذكريات التي تهم عموم الأمة، ويكون الهم فيها مشتركا بين الجميع، ثم إن هذه الذكريات تؤكد على صبر السابقين من أجل راحة اللاحقين؛ كالسلسلة المرتبط بعضها ببعض.
وقد جاءت السنة للتأكيد على هذه المبادئ والمقاصد الجليلة حتى في أصعب الأزمنة والأوقات، ونكتفي منها بما ورد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا» . [الأدب المفرد – تحقيق عبد الباقي (ص168)].
ومن فوائد إحياء الذكريات ربط الصلة بين الحاضر والماضي؛ لاستخلاص الدروس والعبر، فقد قال الله عز وجل: “وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور” [إبراهيم].
وكل هذا من أجل مواصلة التنمية في مختلف القطاعات، بما في ذلك التنمية الروحية التي من آثارها تحقيق الوسطية والاعتدال، ولهذا كانت العناية المولوية ظاهرة بالشأن الديني، والتي صدر حولها كتاب بعنوان: ” عشرون سنة من العهد المحمدي الزاهر”.
المحور الثاني: مظاهر الوفاء والكفاح من خلال هذه الذكرى وأثرها في تحقيق الأمن والاستقرار
إن أحداث عمليات جيش التحرير بشمال المملكة التي نخلد هذه السنة ذكراها التاسعة والستين هي من المشاهد الخالدة الطامحة في حرية المغرب واستقلاله، وفي إبعاد الوجود الأجنبي ببلادنا الذي يسعى في القطيعة بين الملك والشعب، والذي انتهك حرمة المغرب الذي ظل لقرون بلدا مستقلا ومستقرا في ظل إمارة المومنين الحامية للملة والدين، فجاءت هذه الذكريات التي تؤكد على التلاحم بين الملك وشعبه، وعن التماسك القوي الذي يمكن اعتبار هذه الذكريات خير شاهد عليه.
فقد تجاوز الاستعمار حدوده عندما استفز الشعور الوطني للمغاربة بنفي السلطان الشرعي للبلاد محمد الخامس ورفيقه في الكفاح والمنفى الحسن الثاني وأسرتهما إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر، وتنصيب سلطان مزيف.
مما كان سببا في انطلاق حملة المقاومة والعمليات الفدائية؛ حيث سارعت كل من إيموزار مرموشة وتازة والحسيمة وأكنول والناظور وتطوان إلى التنظم في إطار “جيش تحرير شمال المغرب“ سنة 1955 بالتنسيق التام بين القيادات العامة والقيادات الميدانية؛ من أجل الدفاع عن ثوابت الأمة؛ وعلى رأسها العرش المجيد، ثم تعجيل نيل الاستقلال.
ويعد المقاومون الوطنيون الصادقون نموذجا حيا من نماذج الوفاء والكفاح في الدفاع عن المقدسات وعن الحرية، واستبعاد كل وجوه الاستغلال والظلم، وقد حقق الله رجاء هؤلاء الصادقين بصدقهم، تحت القيادة الرشيدة لمولانا محمد الخامس ورفيقه في الكفاح مبدع المسيرة الخضراء، طيب الله ثراهما وجعل روحيهما مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
إن المتأمل في هذا الحدث التاريخي ليستشعر مدى المحبة الصادقة للوطن وللملك، والتي ترجمها الميدان في صفوف الرجال، وكذلك المرأة التي كان دورها حاضرا بقوة، لا سيما وأن الأمر الذي أقدم عليه المستعمر في غاية الخطورة؛ إذ أراد الفصل بين الرعية وراعيها، وأقدم على تلك المبادرة الغاشمة الظالمة بنفي السلطان عن بلاده.
وبفضل هذا الكفاح الوطني وهذا الوفاء الصادق حقق الله عز وجل رجاء الشعب المغربي؛ فرد كيد الكائدين ومكر الماكرين؛ فرجع السلطان وتحقق النصر، وأكرم الله الأمة المغربية باستقلالها.
حفظ الله مولانا أمير المومنين، وحامي حمى الملة والدين، جلالة الملك محمد السادس وأدام عزه ونصره، وأدامه لهذا الوطن منارا عاليا وسراجا هاديا، وأبقاه ذخرا وملاذا لهذه الأمة، وأقر عين جلالته بولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير الجليل المولى الحسن، وشد عضده بصنوه السعيد مولاي رشيد، وفي كافة أسرته الملكية الشريفة.
اللهم ارحم الملكين الجليلين؛ مولانا محمدا الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيب ثراهما، وأدخلهما برحمتك في عبادك الصالحين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.