تحل بنا كل سنة في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول مناسبة ذكرى عيد المولد النبوي الشريف، هذه المناسبة التي تُذَكِّر بميلاد خير رسول بُعِثَ لخير أمة من الأمم، مما يؤكد على ضرورة الشكر لله جل وعز الذي أرسل هذا النبي الأمي رحمة مهداة، قال جل من قائل مخاطبا سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء 106].
ومن هنا يمكن أن نتساءل عن بعض مظاهر احتفاء هذه الأمة بميلاد نبيها عليه الصلاة والسلام؟ ويمكن أن نجمل بعض هذه المظاهر من خلال العناصر الآتية:
أولا: من حيث التأصيل والمشروعية:
فقد ولد عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول؛ كما جزم به ابن إسحاق في سيرته، وتبعه ابن سيد الناس اليعمري وغيره، وقال ابن كثير: “وهو المشهور عند الجمهور” [البداية والنهاية (2/ 320)].
وقال الإمام المحدث أبو القاسم العزفي (ت677 ه) في مولده: “والصحيح الذي عليه السلف، وهو الذي يقوله من يعتمد عليه من الخلف، أنه r ولد يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فعلى ذلك يعتمد، وعليه المعول” [الدر المنظم في مولد النبي المعظم 2/71-72].
ويقول القسطلاني متحدثا عن خصوصية مولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول: “وإنما كان مولده في هذا الشهر، ولم يكن في الأشهر الحرم، ولا في رمضان، إشارة إلى أنه r لا يتشرف بالزمان، بل الزمان هو الذي يتشرف به كالأماكن”. [المواهب اللدنية (1/ 86)].
ويقول الشيخ جموع الفاسي -وهو من علماء السيرة النبوية-: “ومن لازم ذلك أيضا أن تكون شريعته أعدل الشرائع، كما أن الربيع أعدل الفصول، …وإنما كان فصل الربيع أعدل الفصول؛ لأن ليله ونهاره معتدلان بين الحر والبرد، ونسيمه معتدل بين اليبوسة والرطوبة، وشمسه معتدلة في العلو والهبوط، وقمره معتدل في أول درجة من الليالي البيض، فلذلك كان r أعدل الناس خَلْقًا وَخُلُقًا، وكانت شريعته أعدل الشرائع وأسمحها طرقا.
ولقد أجاد من نظم هذا المعنى وقال وأحسن المقال:
يَقُولُ لَنَا لِسَانُ الْحالِ مِنْهُ | وَقَوْلُ الْحَقِّ يَعْذُبُ لِلسَّمِيعِ | |
فَوَجْهِي وَالزَّمانُ وَشَهْرُ وَضْعِي | رَبِيعٌ فِي رَبِيعٍ فِي رَبِيعِ |
ثم استرسل العلامة جموع الفاسي في بيان أن أفضل أيام العام كلها ليلة مولده r حتى من ليلة القدر، وأورد في ذلك إجماع الإمام عبد الله بن علي بن طاهر الحسني، وكذلك ذكر نص صاحب المعيار على أنها أفضل من ليلة القدر بنيف وعشرين وجها.
قال العلامة جموع الفاسي: “وإنما لم يجعل الله تعالى في يوم مولده r من التكليف بالعبادات، كما جعل ذلك في يوم الجمعة المخلوق فيه آدم عليه السلام، إكراما لنبينا محمد r بالتخفيف عن أمته بسبب عناية وجوده، قال تعالى: ] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [[الأنبياء 106]، ومن جملة ذلك عدم التكليف، وينبغي للمسلم أن يسر بمولده، ويبذل ما تصل القدرة إليه بمحبته، ويعتني بوقت مولده الشريف”.
وقد استخرج له الحافظ ابن حجر أصلا من السنة، وكذلك الحافظ الجلال السيوطي . [الدرة المضيئة من خبر سيد البريئة ص: 83، وما بعدها].
وقد كتب الباحثون حول التأصيل للمولد وبيان مشروعيته، ومن أشهرها في زماننا بحث بعنوان: “أصول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف” للدكتور الحسين أكروم، وقد طبع ضمن منشورات المجلس العلمي المحلي لاشتوكة آيت باها.
ثانيا: التصنيف في المولد المنيف:
قد صنف العلماء في مولد النبي صلى الله عليه وسلم مؤلفات مفردة؛ كمصنف الحافظ أبي الخطاب ابن دحية «التنوير بمولد البشير النذير»، ومصنف العزفي « الدر المنظم في مولد النبي المعظم ».
كما تعرض جل من كتب في السيرة النبوية لبيان مولده وما حدث فيه؛ ومنهم: ابن إسحاق وابن هشام وابن سيد الناس والصالحي والقاضي عياض والسهيلي، وغيرهم.
ومن الأبحاث العمدة في التعرف على مصنفات المغاربة في السيرة النبوية بحث فضيلة العلامة الدكتور سيدي محمد يسف حفظه الله، الموسوم: “المصنفات المغربية في السيرة النبوية ومصنفوها”، وهو من كتاباته القيمة والماتعة، وقد يسر الله تعالى الاحتفاء به ودراسته وإنجاز بحوث ومقالات حوله خلال فترة التكوين بماستر “السيرة النبوية بالغرب الإسلامي: الأعلام ومناهج البحث“ سنة 2014م بجامعة القاضي عياض بمراكش.
ومن الأبحاث التي ينبغي التنويه بها في هذا المقام الدراسة التي صدرت عن الرابطة المحمدية للعلماء في جزأين في موضوع: “منظومات السيرة النبوية”، فقد استفدنا منها كثيرا في الوقوف على إسهامات المغاربة التي هي بالمآت في نظم مباحث السيرة النبوية.
وللإشارة فإن عددا من أعلام القراءات بالمغرب عُرِفوا بتضلعهم أيضا في السيرة النبوية، وفي هذا تأكيد على تعلقهم بالجناب النبوي الشريف من جانب إسناد القراءات من خلال إجازاتهم وأسانيدهم، ثم من جانب التعرف على سيرته العطرة عليه الصلاة والسلام، وأذكر من بينهم جموع الفاسي في كتابيه “الدرة المضيئة ونفائس الدرر”، والميرغتي صاحب العوائد المزرية بالموائد في نظمه لسيرة اليعمري، وعالم مراكش في القراءات محمد بن يوسف المراكشي (ت1048ه)، في نظمه أيضا لسيرة اليعمري، ومما يحسن ذكره لهذا العالم الأخير في سياق حديثه عن مولد البشير النذير من ألفيته الماتعة قوله رحمه الله:
…………………………………………………….. | [43] | لَكِنَّمَا الْأَشْهَرُ عَنْ أَهْلِ الْأَثَرْ |
وَهْوَ الصَّحِيحُ أَنَّ خَيْرَ الرُّسُلِ | [44] | وُلِدَ فِي شَهْرِ رَبِيعِ الْأَوَّلِ |
وَكَانَ ذَاكَ مِنْهُ فِي الثَّانِي عَشَرْ | [45] | فِي يَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَهَذَا الْمُشْتَهَرْ |
إلى أن قال رحمه الله:
وُلِدَ سَيِّدُ الْوَرَى مَعْذُورَا | [56] | مُطَهَّرًا مُطَيَّبًا مَسْرُورَا |
فَانْكَشَفَتْ بِنُورِهِ الدَّيَاجِي | [57] | وَذَاكَ فِي دَارِ أَخِي الْحَجَّاجِ |
مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقفِي | [58] | وَقِيلَ غَيْرُ ذَا وَالاَوَّلُ اقْتُفِي |
وَاضْطَرَبَ الْإِيوَانُ لَمَّا وُضِعَا | [59] | وَصَوْتُهُ مِنَ ارْتِجَاسٍ سُمِعَا |
وَسَقَطَتْ مِنْ فَوْقِهِ شُرْفَاتُ | [60] | أَرْبَعُ عَشْرَةٍ حَكَى الرُّوَاةُ |
وَخَمَدَتْ نَارٌ لِفَارِسٍ وَمَا | [61] | خُمُودُهَا مِنْ قَبْلِ ذَاكَ عُلِمَا |
بِنَحْوِ أَلْفِ سَنَةٍ فِيمَا ذُكِرْ | [62] | حَتَّى بَدَا هَذَا النَّبِيُّ الْمُشْتَهرْ |
وَغَاضَ مَاءُ سَاوَةٍ وَمَا جَرَى | [63] | نَهْرُ السَّماوَةِ بِهَا لِمَا جَرَى |
ثالثا: ختم كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، وكتاب الشمائل المحمدية للحافظ الترمذي، وهما من أهم ما صنف في السيرة النبوية، وقد جاوزت شروحهما بالغرب الإسلامي مائة شرح، بالإضافة إلى المختصرات التي وضعت عليهما، ومن بينها مختصر الشمائل المحمدية للعلامة الكرسيفي، والذي سينشر إن شاء الله قريبا بتحقيق الدكتور محمد أزناك خريج جامعة القاضي عياض بمراكش، فقد أكمله وكانت بيننا نقاشات حول نسخه الخطية بالخزائن المغربية؛ كالخزانة العامة بالرباط وخزانة وزان، وكذلك بعض الأمور الأخرى كتحبيسه على جامع ابن يوسف بمراكش، وخط النسخة المعتمدة وبعض الكلمات غير المقروءة، وذلك قبل ثلاث سنوات، فنسأل الله تعالى له التوفيق لإخراجه والاستفادة منه.
وقد جرت العادة أن يختم كتاب الشفا والشمائل المحمدية في مولده الشريف عليه الصلاة والسلام بمختلف المساجد والزوايا والمدارس العتيقة وغيرها، بل إن من نَظَرَ في تراثنا الإسلامي سيجد مصنفات كتبها العلماء في ختم هذه الكتب، وقد طبع بعضها.
رابعا: قراءة القصائد:
ومن أشهر هذه القصائد قصيدة “البردة” للعلامة البوصيري رحمه الله، وكذلك قصيدته “الهمزية”، وللعلامة الكبير فضيلة الدكتور سيدي مصطفى بنحمزة رئيس المجلس العلمي الجهوي بجهة الشرق –حفظه الله وبارك لنا في عمره- كلام ماتع في التعريف بالبردة وموضوعاتها وأهميتها في درس له مسجل ومتاح على شبكة الأنترنت، ينبغي الاستماع له لأهميته وقيمته العلمية والتاريخية.
فقد كُتب لهذه القصائد القبول؛ على غرار غيرها من الأنظام والقصائد في مختلف العلوم، ومنها قصيدة ولي الله الشاطبي الرعيني المسماة “حرز الأماني ووجه التهاني”، ومن أجما ما يقول فيها رحمه الله:
وقد كسيت منها المعاني عناية كما عريت عن كل عوراء مفصلا
وتمت بحمد الله في الخلق سهلة منزهة عن منطق الهجر مقولا
ولكنها تبغي من الناس كفؤها أخا ثقة يعفو ويغضي تجملا
وليس لها إلا ذنوب وليها فيا طيب الأنفاس أحسن تأولا
وكذلك نظم الدرر اللوامع في أصل مقرإ نافع لابن بري التي يقول فيها:
نظمته محتسبا لله غير مفاخر ومباه
ويقول المراكشي في خاتمة ألفيته في السيرة النبوية:
جَهدْتُ جَهْدِي فَرَصَنْتُ قَصْدِي | وَمُلْهِمِي أَخُصُّهُ بِالْحَمْدِ |
وهذه من الأمور التي تستوقف الناظرين والمتأملين لإخلاص هؤلاء العلماء وحرصهم على نفع الأمة، ولذلك جعل الله تعالى لهم القبول والبركة في أعمالهم، وأعظم من ذلك أن الله خَلَّدَ أسماءهم في تاريخ الإنسانية، فما من جيل ولا عصر ولا قرن إلا وتجد أمما يترحمون عليهم ويدعون لهم برفعة المقام والقدر عند الله، فيبقى سؤالنا نحن: ماذا قدمنا لديننا ولوطننا، ولثوابتنا الدينية والوطنية؟
ومن هذا المنطلق رأيت الإسهام في خدمة تراث علمائنا، خصوصا بمدينة مراكش وأحوازها، وقد وفق الله الكريم بمنه لإنجاز أعمال مباركة؛ سواء ما تعلق منها بالتاريخ والتراجم، أو ما تعلق بالثوابت الدينية والوطنية، أو ما تعلق بتحقيق التراث، وهناك إنجازات أخرى ستصدر قريبا إن شاء الله نسأل الله تمامها.
خامسا: عقد سلاطين وملوك المغرب حفلات بمناسبة عيد المولد:
فقد دأب أمراء المومنين على عقد هذه الحفلات منذ قرون طويلة، ومما ذَكَّرَ به العلامة جموع الفاسي في هذا السياق وهو متوفى سنة 1119ه بفاس، قوله: “وعمل المولد على المنهج الذي سلكه ذوو القدر المنيف من قراءة القرآن، والإنشاد للمدائح النبوية والزهدية، وإطعام الطعام، والصدقات السنية، فيثاب على ذلك الثواب الجزيل بقصده الجميل”. [الدرة المضيئة ص: 90].
ومن ذلك عناية مولانا أمير المومنين محمد السادس أعزه الله بالحديث الشريف والسيرة النبوية، ففي كل سنة يقام حفل بمناسبة ذكرى عيد المولد النبوي الشريف بحضور جلالته أعزه الله.
وأذكر هنا أنه تجسيدا لرعاية أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله للمساجد، تم تنظيم «يوم المساجد» سنة 2007 في اليوم السابع الموالي لذكرى المولد النبوي الشريف من كل سنة، وقد ترأس حفظه الله الاحتفال الأول بهذه التظاهرة، يوم فاتح أبريل 2007 بجامع الكتبية بمراكش الحمراء حرسها الله.
فأسأل الله تعالى في الختام أن ينفع بهذه الكلمات، وأن يجعل هذا العمل وغيره في رضاه، وأن يكتب لنا شرف الانتماء لهذا الدين، وخدمة علومه.
وما الغاية من وراء ما نقدمه، إلا أن نسهم بوضع لبنات نافعة في صرح هذا البلد العظيم، الذي يرعاه مولانا أمير المومنين، وحامي حمى الملة والدين، جلالة الملك محمد السادس أدام الله عزه ونصره، وحفظه في ولي عهده مولاي الحسن، وفي صنوه السعيد مولاي رشيد، وفي كافة أسرته الملكية الشريفة، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.