“محورية المسجد الأقصى في المجاهدة الصوفية والمعرفة النفسية” (أبو حامد الغزالي نموذجا)
أولا : الجهاد والمجاهدة تكامل نفسي وميداني
هناك خيط رفيع قد يربط بين الجهاد والمجاهدة ، بحيث في كلتيهما تترسخ نزعة المقاومة والتحدي وركوب الصعاب والقتال المادي والمعنوي لإزاحة العدو والأذى من الطريق .غير أن المجاهدة قد تسبق الجهاد من حيث تحديد الهدف والثبات على المبادئ حتى نهاية المطاف..
وتركيز الصوفية الحقيقيين والعمليين التربويين على موضوع المجاهدة خاصة كأداة لتحقيق الإمكان المعرفي في المجال النفسي قد يعتبر المسلك الأقوم والمدرسي الذي من خلاله ستتحدد عناصر البحث النفسي بصورها الموضوعية ، وذلك لأنها بالدرجة الأولى قد تعتمد على التجربة الذاتية الميدانية والهادفة.
ومن خلال هذه التجربة فقد يدرك الصوفي مراحل تطور النفس وقدراتها على التحمل والتقبل وأوجه مراوغاتها وحيلها وما إلى ذلك. كما من خلال هذا الإدراك سيتحقق المعراج الصوفي على سلم المعرفة نحو الحضور الكلي الذي لا تشوبه شائبة بالزمان أو المكان في سدرة منتهى العرفان، اقتداء بالمعراج النبوي في صورته الكاملة جسدا وروحا. بينما قد يبقى المعراج الصوفي تطلعا روحيا معنويا فحسب كحد أقصى . وبهذا فقد”كان أهل التصوف السباقين في الاستفادة من قصة المعراج ومغازيها الروحية . فإطار المعراج ومراميه يكاد يكون لنا مرآة تعكس نظام الطريق الصوفي ومساره ومعتقداته “[1]. وهذا ما يؤكده الغزالي من خلال عنونته لكاتبه “معارج القدس في مدارج معرفة النفس” وكذلك باستعماله لألفاظ مقامات المعراج النبوي مجازا في عدة تعابير وفقرات من الكتاب، كما نجد في خطبته . حيث يقول “وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. فكلما سنح لهم شيء – أي الأولياء وهم الصوفية – في مسارح النظر ومجاري الفكر عاجوا منه إلى جناب القدس ، حتى يتصلوا بمن هو شديد القوى ذو مرة فاستوى لم تغيره الأحوال ، بل علومه وكمالاته حاصلة بالفعل وهو بالأفق الأعلى. وإذا سنح لهم العروج فلا يزالون في دنو وقرب حتى يبلغوا الغاية القصوى فيفيض عليهم حقائق العلوم وأسرار المعارف وغرائب الآيات في ملكوت الأرض والسموات . وإذا بلغوا هذا المنتهى فهو السدرة المنتهى فلا يلتفتون إلى شيء من عالم الزور … ونحن نعرج في هذا الكتاب من مدارج معرفة النفس إلى معرفة الحق جل جلاله”[2].
وللتذكير فإن أبا حامد الغزالي قد كان أول محط رحاله ورحلته الروحية عند بيت المقدس“الأقصى” ثم أتم رحلته إلى مكة كما يحكي في كتابه “المنقذ من الضلال“:”ثم رحلت منها ،أي دمشق، إلى بيت المقدس أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها على نفسي ثم ترحركت في داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة قبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم)“[1].
إذ الملاحظ لدى الصوفية السالكين كثرة استعمال مصطلح “القدس” إلى جانب” المعراج” والانتقال من مقام إلى مقام ، وذلك كدلالة على ارتباطهم الروحي الوثيق وتعلقهم الكبير والمحوري بالمسجد الأقصى الذي كان مسرح حضور الأنبياء ومسرى الرسول وخاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم :” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”.
وبهذا المعراج المعرفي النفسي فقد يسمى الصوفي صوفيا بمعنى :”أنه يصفى من التكدر بالخليقة والبريات وإن شئت سميته بدلا من الأبدال وعينا من الأعيان عارفا بنفسه وربه الذي هو محيي الأموات ،المخرج أوليائه من ظلمات النفوس والطباع والأهواء والضلالات إلى ساحة الذكر والمعارف والعلوم والأسرار ونور القربة ثم إلى نوره عز وجل “الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة “،” الله ولي الذين أمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور “ فالله تعالى تولى إخراجهم من الظلمات إلى النور،وهو عز وجل أطلعهم على ما أضمرت قلوب العباد وانطوت عليه النيات “[3]حسب تعريف الشيخ عبد القادر الجيلاني.
ثم يؤكد على منهج معرفة النفس في جانبها المعلول ، مبينا أوجه العلل التي تتمظهر بها وطرق الوقاية منها، مع التركيز على نقطة أساسية وضامنة لحفظ التوازن في ضبط النفس وتجنب الإفراط أو التفريط في معالجتها وذلك عند قوله :”وأما معرفة النفس الأمارة بالسوء فيضعها حيث وضعها الله عز وجل ويصفها بما وصفها الله تعالى،ويقوم عليها بما أمره الله عز وجل.
فهذا هو القاعدة الأساسية في نجاح التجربة الصوفية وصحة استنتاجاتها ألا وهو التزام النص الشرعي وتوجيهاته بدقة في معالجة النفس بالمساعدة أو المخالفة، لأن كل شيء منها غرور وليس لها فعل محمود “[4].ولهذا فضبطها بالخطاب الشرعي حكما وتوجيها هو الطريق الوحيد لتفادي تغريرها.
ثانيا:المجاهدة وإشكالية تعميم السلبية على حال النفس
وفي خضم هذا التركيز الصوفي العام على إمكانية معرفة النفس في صورتها المذمومة وهي ” المعلول من أوصاف العبد ” واتفاق الجميع على أن النفس ينبغي أن تكون دائما محل مجاهدة ومراقبة مستمرة ، لأنها كتعريف مضبوط و قار لها: ” أمارة بالسوء ” سنجد موقفا لابن عربي قد يخفف من حدة هذا الحكم عليها ،مخالفا هذا الوصف الذي أصبح عالقا بها رسميا عند جل الباحثين ،وخاصة عند أغلب الصوفية، والذي هو ليس قطعي الدلالة من حيث الاستنباط الشرعي، إذ يرى أن قول الله تعالى :” إن النفس لأمارة بالسوء ” فما هو حكم الله عليها بذلك، وإنما الله حكى ما قالته امرأة العزيز في مجلس العزيز. وهل أصابت في هذه الإضافة أو لم تصب؟ هذا حكم آخر مسكوت عنه، بل الذي هو لها أنها لوامة نفسها إذا قبلت من الشيطان ما يأمرها به . فهذا الإخبار عن النفس أنها أمارة بالسوء ما هو حكم الله عليها ولا من قول يوسف عليه السلام. فبطل التمسك بهذه الآية لما دل عليه الظاهر والدليل إذا دخله الاحتمال سقط الاحتجاج به”[5].
وهذا الموقف من ابن عربي له اعتماد تفسيري يرجح أن المتحدث في هذه الآية بوصف النفس بالأمارة بالسوء كما حكاه القرآن هو امرأة العزيز وليس سيدنا يوسف عليه السلام . بمعنى أنه لا يرى الاحتمال في اعتبار من المتحدث والواصف للنفس بهذا النعت . غير أن أغلب المفسرين ومن بينهم الصوفية كالغزالي مثلا يرون الاحتمال .وحيث إنه من الممكن أن يكون النبي يوسف عليه السلام هو الواصف للنفس الأمارة بالسوء، فإن وصفه هذا حق وعليه المعول عند التعريف، خاصة وأن القرآن لم يعترض على هذا الوصف في آية أخرى أو بقرينة تنص على غيره. فيبقى أن النفس أمارة بالسوء بالحكم القرآني. ولكن مع وجود استثناء يدل على معرفة كبيرة بأحوال النفوس وهو “إلا ما رحم ربي”،مما يجعل الاحتمال يميل إلى أن القائل هنا هو نبي الله سيدنا يوسف عليه السلام الذي كان عارفا بربه وله عمق عقدي كبير وإيمان بالله راسخ .
وعلى الجملة فحدود الإمكان المعرفي في مجال معرفة النفس عند الصوفية يأخذ طابعا نظريا من جهة وطابعا تجريبيا من جهة أخرى. وهذان المسلكان قد يعطيان لمعرفة النفس بعدها في معرفة الجوهر ومعرفة الأحوال و الأعراض أو بلغة العصر معرفة الظواهر ولكن على مستوى تتعاضد فيه الملاحظة الذاتية والتشخيص الخارجي في علاقة الشيخ الخبير بالمريد الصادق النبيه في تنبيهه على ضبط أحوال نفسه وخواطرها …
غير أن المعرفة الخاصة بالجوهر النفسي هي التي ستعرف نوعا من الردود والحذر المعرفي داخل الوسط الصوفي نفسه، ليس من باب الحكم باستحالة معرفة النفس أو الروح حسب الترادف من هذا الجانب ولكن من باب صعوبة هذه المعرفة من جهة ، ثم من باب صعوبة التعبير عن حقيقة هذه المعرفة من جهة أخرى. كما سبق وعرضنا لبعض المواقف الصوفية كالقشيري والجنيد وغيرهما الذين يرون الإمساك عن الخوض في تعريف النفس من حيث هي روح. وهذا ما استشهد به الشعراني في مبحث خاص عنونه “في بيان أن الأرواح مخلوقة وأنها من أمر الله تعالى كما ورد وكل من خاض في معرفة كنهها بعقله فليس هو على يقين من ذلك وإنما هو حدس بالظن”. ثم يذكر في بدايته كدليل على موقفه بأنه “لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم تكلم على حقيقتها مع أنه سئل عنها،فنمسك عنها أدبا ولا يعبر عنها بأكثر من موجود كما قاله أبو القاسم الجنيد وغيره ، وعبارة الجنيد رحمه الله :”الروح شيء استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فلا يجوز لأحد البحث عنه بأكثر من موجود” وإليه ذهب أكثر المفسرين كالثعلبي وابن عطية “[6]. ثم يبين موقفه من حدود الإمكان المعرفي بقوله:”والذي ظهر لي أن العبد بتقدير أنه يطلع على كنه الروح لا يستطيع أن يعبر عنها بعبارة تؤدي السامع إلى معرفة كنهها لأن الحق تعالى جعلها رتبة تعجيز لنا ليقول أحدنا لنفسه: إذا كنا نعجز عن معرفة حقيقة ذاتنا فنحن بذاته تعالى أعجز وأعجز حتى لا نخوض بالفكر في الذات. فإننا إذا كنا نعجز عن معرفة روحنا مع كونها مخلوقة ومن أقرب الأشياء إلينا فكيف نعرف خالقنا فافهم. وفي كلام الإمام علي رضي الله عنه : “من عرف نفسه عرف ربه“. قال بعضهم أي أنه لا يمكن أحد معرفة نفسه قط،لأن الحق تعالى جعل النفس رتبة تعجيز لنا بيننا وبين معرفة ذاته – كأنه تعالى يقول : إذا عجز الإنسان عن معرفة نفسه مع كونها مخلوقة ومن أقرب الأشياء إليه فكيف بمعرفة من لا شبيه له ولا نظير ولا يجتمع مع عباده في حد ولا حقيقة”[7].
وهذا الموقف له ثلاث صور أو عناصر وهي: القول بالاحتمال الذهني في الإمكان المعرفي،وهو فرضي لا غير ،ثم الاستحالة التعبيرية عن المحصلات المعرفية في المجال النفسي، ثم تغليب جانب التعجيز على جانب الإمكان من الناحية الواقعية وذلك من خلال تفسير الأثر “من عرف نفسه عرف ربه ” على وجه المخالفة .ورؤية امتناع إمكان معرفة النفس كما ينبغي. على عكس ما ذهب إليه أو يميل إليه كثير من البحاث الذين يرون أن الإمكان وارد ذهنيا وواقعيا من خلال منطوق النصوص ودلالته وخاصة عند هذا النص “من عرف نفسه عرف ربه ” الذي قد يعتبره البعض حديثا نبويا -كما مر بنا- ويعتبره الشعراني أثرا من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، بحسب تقدير الرواة وخلفيات هذه النسبة .
لكن الذي يبدو في موقف الشعراني أنه يقلد في رأيه هذا الشيخ محيي الدين بن عربي،خاصة وهو ينقل عنه قوله “من أراد الدخول إلى فهم غوامض الشريعة وحل مشكلات علوم التوحيد فليترك كل ما يحكم به عقله ورأيه ويقدم بين يديه شرع ربه ويقول لعقله إن نازعه إنما أنت عبد مثلي. فكيف أترك ما نسبه الحق تعالى إلى نفسه من آيات الصفات مثلا لعجزك أنت عن تعلقه مع أنك قاصر عن معرفة نفسك فكيف بمعرفة ربك”[8].
ولكن العجز هنا عجز العقل الذي هو تصرف ذاتي في تحصيل المعرفة التي هي فوق طاقته . أما اعتبار أداة أخرى غير العقل فهي كفيلة بتحقيق هذه المعرفة وإعطائها بعدا أوسع وإمكانا أفسح . وهذا ما سنبينه في موضوع نفسية المعرفة وطرق تحصيلها بصفة عامة، وخاصة عند الصوفية .
[1] نذير العظمة:المعراج والرمز الصوفي ،دار الباحث ط1-1982-1402ص40
[2] الغزالي :معارج القدس في مدارج معرفة النفس ص5-6
[3] عبد القادر الجيلاني:الغنية لطالبي طريق الحق،دار الفكر ج2ص161
[4] نفس ج1ص287
[5] ابن عربي :الفتوحات المكية ج1ص287
[6] الشعراني:اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر ج2ص122
[7] نفس ج2ص122
[8] نفس ج2ص23
[1][1][1] أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضلال ،مكتبة الجندي ص49