ظلت الثقافة العلمية التي تتمثل في العلوم الطبيعية والعلوم البحتة وبعض العلوم الاجتماعية، ظلت دوما تعتبر جزءا لا يتجزأ من الثقافة الإنسانية بمعناها الشامل. إلا أن الخمسينيات الأولى من القرن الماضي، قد شهدت جدلا عنيفا حول الانفصام بين الثقافتين، وصل لحد اعتبار ذوي الثقافة العلمية البحتة خلقا غريبا تنقصه الأحاسيس الإنسانية والعواطف البشرية التي يتحلى بها ذوو الثقافة التقليدية. وفي يقيني أن مصدر هذا الصراع ليس هو أن العلوم الطبيعية بالضرورة علوم غير إنسانية، وإنما هو في حقيقته، رد فعل للتطور التكنولوجي العظيم الذي حدث في العقدين الأخيرين والذي بدا معه الإنسان قزما لا حول له ولا طول.
والحديث عن الانفصام بين الثقافتين يقودنا للتساؤل عن ماهية الثقافة ؟ فالثقافة كلمة تحتمل عديد المعاني، وهي تحمل دوما نفس المعنى، حتى عند الذين يتجادلون حول ماهيتها ووظيفتها. وقد كتب ت.س.اليوت في هذا الشأن في كتيّبه ” مذكرات حول تعريف الثقافة “.
يقول : ” إن تعريف الكلمات المتداولة مثل كلمة الثقافة يصبح ضرورة عندما يساء فهم تلك الكلمات تماما، كما أن شرح العقيدة الدينية يصبح ضرورة عند بروز ظاهرة الزندقة “.
ومهما يكن من أمر فإن للثقافة معنيين: معنى شامل ومعنى محدود. ففي معناها الانتروبولوجي الشامل، يمكن تعريف الثقافة بأنها السمات المميزة لمجتمع إنساني معين، يعيش في ظرف زمني معين، ويشترك في نفس القيم والافتراضات والتطلعات… أما في معناها المحدود فالثقافة تعني الوسائل التي نعبر بها عن مطامحنا، ووجداننا، وأهدافنا وخيالاتنا… أو بعبارة أخرى على حد قول الشاعر الإنجليزي ” صمويل كوليردج “، هي التنمية المتناسقة لطاقاتنا الفكرية والروحية… والذي يعنينا في هذا الحديث هو المعنى الثاني… المعنى المحدود. وعندما يتحدث المتحدثون عن الانفصام بين الثقافتين يلمس المرء اتجاهين … اتجاه العلماء الطبيعيين الذين ينادون بضرورة ممارسة التفكير العلمي وتبني القيم العليمة وانتهاج الأسلوب العلمي في التحليل والاستنتاج والحكم… وغرس هذه القيم والأساليب في ثقافاتنا التقليدية وهي ثقافات إقليمية تفتقر بحكم تكوينها ونموها إلى الشمول والعالمية التي تتميز بها العلوم الطبيعية والبحتة.
واتجاه أنصار الثقافة التقليدية الذين يرون في التقنية والعلوم الطبيعية خطرا داهما على الثقافة الإنسانية، وهدم لإنسانية الإنسان، لأنها تجعل من الفرد كائنا آليا سليب الإرادة. والخطأ في هذا الفهم للثقافة العلمية ناجم عن الافتراض بأن العلوم الطبيعية والبحث العلمي والتطوير التقني إنما هي وسائل – أو نهاية في حد ذاتها… ولكن الحقيقة هي أن الكشف العلمي في جوهره، إنما هو تفاعل بين الإنسان المكتشف والحقائق الموضوعية من حوله… وهذا التفاعل الذي يقود إلى الكشف العلمي يشبه إلى حد كبير، الانفعال الوجداني الذي يقود إلى الخلق الفني عند الأديب أو الفنان.
بيد أن بعض الكتاب قد حاول أن يجد تفسيرا لما وصف بالانفصام بين الثقافتين … يجد هذا التفسير في العقم الروحي الذي تعاني منه المجتمعات الصناعية المتقدمة. ومن بين هؤلاء الأستاذ عباس محمود العقاد الذي كتب في عام 1960 يعلق على محاضرة العالم الإنجليري س.ب. سنو حول الثقافتين بقلوه : وإن سنو مصيب كإنسان غربي عاش على الدوام في ميدانين متقابلين من عالم الثقافة – ميدان الروح وميدان الجسد… أو ميدان ملكوت السماء، وميدان ملكوت الأرض. وكان الانفصال بين الميدانين بعيد الأمد يكاد ينتهي على عالمين متناقضين أحدهما ملعون منبوذ، هو هذا العالم المشهود، والآخر مقدس مطلوب ولكنه غائب وراء الحواس بل وراء العقول التي تعترف في الأمور الدنيوية “.
وهكذا يصبح السؤال ليس هو إن كان هناك انفصام بين الثقافتين بل كيف يمكن لنا في عصر العلم والتقنية أن نطبع الثقافة والعلوم الإنسانية بطابع علمي، وكيف يمكن لنا أن نجعل التطور العلمي أو التطور التقني على وجه الدقة، يأخذ بعين الاعتبار المجتمع الإنساني الذي يحيط به… هذه هي القضية التي تشغل بال المفكرين اليوم قضية طبع الثقافة بطابع علمي وطبع العلوم بطابع ثقافي أو ما يسمونه بالإنجليزية:
” Scientification of culture and ” acculturation of science “.
فالمشكلة الكبرى التي تعاني منها الثقافة العلمية هي أنه بالرغم من أن الحقائق العلمية حقائق عالمية وثابتة ومعروفة إلا أن التفكير العلمي لم يجد طريقه بعد، إلى الكثير من المجتمعات الإنسانية. ولذا فإن الخطوة الأولى، يجب أن تكون هي إعادة النظر في البرامج التعليمية، بهدف غرس التفكير العلمي، والأسلوب العلمي، والاتجاه العلمي لدى الطلاب. إذ أن هذه ضرورة لكيما يتمكن الإنسان الجديد، من مجابهة تحديات عصر التقنية. وتلي هذه الخطوة خطوة ثانية تهدف إلى إبراز الجوانب الإنسانية والفلسفية وراء الكشف العلمي، مثل تدريس العلوم في الإطار التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي ولدت فيه … فالعلوم ليست بآلات صماء ولا نظريات تجريدية، فوراء تلك الآلات والنظريات جوانب فلسفية مهمة لابد أن تبرز للطالب.
إن العلم، جزء لا يتجزأ من الثفافة الإنسانية فمن لم يلم بمبادئه ويتعرف على نموه وتطوره وينتهج أسلوبه، يصبح رجلا ناقص الثقافة في مجتمع هذا العصر.
والله الموفق
28/08/2008