قانون جانط - بريس تطوان - أخبار تطوان

قانون جانط

ثمة قانون يدعى “قانون جانط” La loi de Jante  (نسبة إلى مدينة دانماركية صغيرة تحمل نفس الاسم) و قد تمت الإشارة إليه أول مرة سنة 1933 من طرف الكاتب الاسكندنافي  أكسيل ساندموس في روايته “لاجئ يتخطى الحدود”، كما ذكره الروائي البرازيلي باولو كويليو في روايته Le Zahir  “الظاهر” مبرزا أن الأنظمة، على اختلافها، تسعى من خلال هذا القانون إلى ترسيخ فكرة أساسية لدى المواطن: “أنك لا تساوي شيئا، لا أحدَ يَحفلُ بما تفكر فيه أو تقوم به و أن أحسن خيار لك هو أن تظل مغمورا وضيعا حتى لا تتعرض لأية مشاكل في حياتك و ترضى عليك الأنظمة وتترقى في سلالم الحياة”.

هذا يعني أن المجتمعات في الأصل ليست محافظة في طبعها بل أن الأنظمة (كانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية) تريد منا أن نظل نحاكي العقارب في إصرارها على نبذ التطور وإضاعة الزمن، أن نبقى حبيسي الماضي، أسماكا عالقة في الشِباك والشُّصوص.

وإذا لم يرقكم الحال، تقول لنا الأنظمة، كل الأنظمة، فكروا في أبناءكم، في جيرانكم، تظاهروا بالسعادة، تفرجوا في التلفاز، قوموا بنزهة يوم الأحد وكلوا بعض اللحم المشوي والبطاطس المقلية، اضحكوا لَمَّا يتم التقاطُ صورٍ لكم وضعوها في صالونات بيوتكم ليراها كل زواركم، ولا تنسوا أن هذه القواعد قد وُضعت منذ زمان وعليكم احترامها. وحين نتساءل عمَّن وضعها يقال لنا: هذا لا يهم، بل لا تطرحوا أصلا مثل هذا النوع من الأسئلة لأن هذه القوانين ستظل صالحة في كل زمان ومكان حتى لو لم تتفقوا معها، وكل من حاول الخروج عن شفرة الأموات هاته اتُّهِم بالمروق وتوجَّب عقابه بشكل أو بآخر.

إن المسافة التي تفصل بين سكتي القطار (143.5 سنتمتر) قد حُدِّدت أيام الرومان، لما كانت العربات التي تُستعمل في الحروب تُجر من طرف خيلين إذا وضعناهما جنبا إلى جنب كان عرضُهما كذلك. قد يبدو هذا عاديا في زمن الرومان الغابر لكن أن تظل المسافة هي عينُها بعد آلاف السنين فكأنَّه لا فرق بين الخيول ومحركات البخار بل بين الدواب والقطارات الفائقة السرعة.

إن البلاء كما يقال، مُوكَّل بالمنطق

ربما تكون الوضاعة والبلادة مُريحتين للفرد لكن إلى إشعار آخر فقط، إلى أن تطرُق المأساة بابَنا فنتساءل آنذاك: كيف حصل هذا؟ ولماذا لم يُنبهنا أحد ولو أن الكُلَّ كان يعرف أن ما سيقع مجرد تحصيل حاصل؟ نعم، لا أحد نبَّههم – ولن يُنبههم- لِما سيحدث لأنهم بدورِهم لم يقولوا شيئا و لم يُنبهوا أحدا بما سيقع.

لهذا، لا بد من الخروج عن قانون جانط، يقول كويليو، وأوَّلُه أن نعتقد جازمين بأن قيمتنا أكبرُ بكثير مما نعتقد وبأنَّ عملنا ومبادراتنا في هذه الأرض في غاية الأهمية، ورُبَّ بعوضة أدمَت مقلة الأسد كما يقال.

قلب المعادلة هذا قد يعرضنا للمشاكل لأننا سنخرج عن النمطية لكن يجب علينا ألا نجزع من المجهول ونُحسن تدبير الشكوك ونستمر في الحياة بدون خوف أو مركب نقص حتى لا نكون كظالِع الكلاب (أي أضعَفَها) يُمني النفس بأكل بعض ما ستتركه الكلابُ القوية حتى ينام من شِدَّة المخمصة.

قلب المعادلة هذا يحيلنا أيضا إلى شخصية “المحارب من أجل الضوء”، بطل رواية أخرى لكويليو، الذي لا ينفكُّ من إعمال معاول الهدم في هذا الواقع البئيس وإعادة بناءه، لأنه هناك دائما “وقت للفتق ووقت للرتق” حتى نستعيد الحق في الضوء والهواء المنعش.

من أجل ذلك، لا مناص من التحرك باستمرار، مثل شعب التنغريTengri  الذي يعيش في فيافي منغوليا جاعِلا بيتَه صهوةَ جواده، أي أن لا نكف و لا نمُلَّ من التجريب و الإبداع و الهدم و إعادة البناء حتى يكون كل يوم مختلفا عن سابقه و لاحقه.

حين يصل البدو الرُّحَّل إلى المدن ويرون حال أهلها تسمعُهم يقولون في شفقة: ما أتعس هؤلاء الناس! لكن سكان المدن الفرحين بروتينيتهم المُخلِقة للديباجة وبربطات عنقهم الرخيصة التي تخنق ما تبقى فيهم من كرامة يجيبونهم: ونحن أيضا نشفق عليكم لأنكم لا تملكون مكانا قارا تعيشون فيه، وينسى هؤلاء الفاقدون لظلهم بأن الرُّحل كما الغجر يعيشون الفرح المستمر لأنهم أناس لا ماضي لهم، فرسان لا يملكون إلا الحاضر وهنا يكمن سر شغفهم المستديم بالحرية وبلاغتهم في إعادة تشكيل العالم.

إننا وإن لم نستطع السفر باستمرار على المستوى المادي فهذا لا يمنع من السفر روحيا، أي الذهاب إلى أبعد ما يمكن من أجل الخروج من تاريخنا الشخصي، مِما وجدنا عليه آباءنا، أي الانعتاق مِما تمَّت برمجتنا عليه لنعيد إنتاج أفكار وسلوكات من سبقونا. لكن قبل ذلك، لا بد أولا من أن نمتلك الرغبة من الخروج من هذا التاريخ الشخصي -لأنه قبل الشيء هناك الرغبة في الشيء-، والمجهول ليس أبدا مرادفا للخوف كما تُسوق لذلك الأنظمة حتى تضمن إذعان القطيع.

أكيد أن للحرية ثمن وضريبة، لكنها أقدس شيء عند جميع الكائنات الحية والقوتُ المفضل لكل طائر غِرٍّيد، أما الدجاج الرومي الذي رضي بالذل فلا يرجى منه الغناء.

ثم بالله عليكم، هل سمعتم عن وضيع بليد مسَّه الغبن؟  وحدهم الأنبياء وكبار الفلاسفة والشعراء من يتعرضون للمحن نيابة عن أممهم وشعوبهم حتى لا تنطفئ جذوة المقتبس.

-فأن لا تفقد ظلك تعني فيما تعني أن تستديم فيك المشاكسة، لا تُقعدك البلادة وتعميك رتابة المشاهد و المجالس.

-ألا تفقد ظلك معناه كذلك أن تزهد في الدسم وأنت جائع، أن تهرب من الشائع، وتستمر في البحث عن نغم رائع وربما ضائع.

-ألا تفقد ظلك إعلانُ حُب لظلك كي لا يرحل عنك فتعود بلا لون ولا طعم ولا رائحة، مجرد شيئ عابر في زمان عابر.

-ألا تفقد ظلك معناه أنه وحده الضوء المُسلَّط عليك الذي قد يجعل منك قزما أو عملاقا وأنه ثمة سؤال أهم: ماذا أفعل حين يرحل عني الضوء وتصير الظلال أشباحا؟

-ألا تفقد ظلك تعني فيما تعني أن يصاحبك الطفل في جميع مراحل العمر وألا تسجنه في قفص بئيس ليموت من الكدر والغم وتموت أنت خلال ما تبقى لك من الحياة…


شاهد أيضا