حضارات بلاد الشام وقيمه الثقافية موضع أبحاث شيقة وشاقة، فيها من عريق التراث ما يرجع إلى الجوهر الإنساني يستشف ماضيه، ومن عمق الجذور ما يتصل بالبشرية الأولى يستجلي معانيها.
هذه الحضارات المتوغلة في القدم جعلت الباحثين والمحققين في ملاحقة دائمة لسبر أعماقها واستطلاع جذورها، حتى انبثقت من أعمالهم معطيات جديدة جاءت تسهم في إنارة جوانب مشعة من معالم الفكر الشامي القديم.
في هذه المعطيات تبلورت أمامنا ثروة علمية وثقافية نفيسة دلت على النشاط البشري المرموق الذي تألق به الشامي منذ الألف الثاني قبل الميلاد. وقد لوحظ أن هذا النشاط، على الرغم من أن قسما كبيرا من فعالياته ما زال في غياب عنا، يحمل في ثناياه مؤشرات الرياضة الشامية القديمة التي امتزجت بطقوس العبادة، وذلك منذ أيام الفنيقيين، سكان الشام الأوائل، الذين اشتهروا بالتقوى والتعبد والكفاح من أجل تحسين حياتهم وترقية البشرية.
هذا الشعب الذي كان له العالم ميدانا لعمله لم يتأخر عن إعداد جسمه للأعمال التي كانت تتطلبها منه حياته اليومية، فمارس نشاطات بدنية متنوعة، واهتم بالرياضة في احتفالاته الدينية، لما لها من علاقة بطقوس العبادة عنده، فبنى الملاعب المختلفة (من ستادات، وميادين خيل، وحلبات مصارعة، وساحات تمرين) وأتقن إنشاءها.
ويدعم هذا الرأي وجود آثار واضحة لملاعب رياضية في فينيقيا مرتبطة بالمعابد، ولاسيما في صور وعمريت وغيرها. وهي تؤكد بما لا يقبل الشك انتشار الرياضة فيها خلال العهدين الهلاني والروماني، وترجع نشؤها إلى أواسط الألف الثاني قبل الميلاد.
وقد انطلقت هذه الدراسة، التي تسلط الأضواء على جوانب مفقودة من تاريخ الرياضة والنشاط البدني في الشام القديم، من مواقف تاريخية ثابتة، وشواهد حسية أكيدة، فواجهت – بعفوية – موضوع الألعاب الأولمبية القديمة وما ينسب إلى الإغريق من أنهم أول من أسس هذه المهرجانات الرياضية في العالم. فالرأي السائد، منذ اكتشاف المعالم الرياضية في أولمبيا، التي جاءت تساند النصوص التاريخية عن قصص الألعاب، أن الإغريق هم الذين ابتكروا تنظيم الألعاب الرياضية قبل سواهم. بيد أن علامات الاستفهام ما برحت في ارتسام حول مصدر هذه الألعاب وشخصية مؤسسها. ولم تتحقق البحوث بعد مما إذا كانت ألعاب مماثلة لها قد جرت قبلا في منطقة أخرى من العالم، وفي هذه الحال، في بلد متحضر كفينيقيا، باعتبار أن الرياضة هي مظهر حضاري. وقد تسبب فقدان أكثر مصادر الاحتفالات الدينية والرياضية عند الشعوب التي سبقت الإغريق في ابتعاد الباحثين عن دخول هذا الموضوع العسير، فبقيت المعلومات الأولية عن أولمبيا وألعابها على حالها.
نقل الفينيقيون معهم في أسفارهم إلى بلاد العالم واستيطانهم فيها، آلهتهم ومعتقداتهم وتقاليدهم التي منحوها المقام الرفيع. ويؤكد المؤرخ ” أوزيبيوس ” (265-340 للميلاد) أن تعدد الآلهة ابتدأ عند الفينيقيين والمصريين، وانتشر عن طريقهم إلى الشعوب الأخرى حتى وصل إلى اليونان.
وقد دخلت الآلهة ” الفنيقية – الكنعانية ” بلاد الإغريق مرورا بجزر البحر المتوسط ولاسيما ” كريت “التي عثر فيها على تماثيل من البرونز للآلهة الفينيقية ترقى إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد.
وفي وسط اليونان اشتهرت طيبة، مدينة “قدموس” وحاضرة “بيوسيا” كمركز رئيسي للعبادة، حيث كان الإغريق يربطون آلهتهم بعائلة “قدموس”، ويعتبرون ” بيوسيا ” قاعدة انتشار الديانات في بلادهم، وذلك قبل انتقال الزعامة الروحية من “طيبة” إلى ” أولمبيا “. وبلغت الديانات الفينيقية من الشدة في هذه المنطقة من اليونان حتى أطلق عليها اسم “إيليس” أي ” أرض ايل “، الإله الفينيقي الأعظم.
وكان الإغريق يرجعون إلى فينيقيا للتعرّف إلى أصل آلهتهم وينظرون إلى مدينة ” صور ” كما لو كانت بيت مقدسهم. وقد أشار إلى هذه الناحية مؤرخو اليونان أنفسهم ، وعلى رأسهم ” هيرودوت ” (الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد) و ” بوزانياس ” (الذي عاش في القرن الثاني للميلاد). وكان ” هيرودوث ” يجد دائما في الديانة الفينيقية أصلا لديانته اليونّية. وقد زار معبد” ملقرت ” في صور مستطلعا ألوهية ” هيراقلس ” وطقوس عبادته. ومما كتبه في هذا الصدد :
“… وإن كنت أشتهي أن أجد أحدا يعلمني شيئا بهذا الخصوص (يعني العبادات)، سافرت إلى صور إحدى مدن فينيقيا، حيث كنت علمت بوجود معبد لهيراقلس (أي ملقرت) يحترمونه كثيرا… “.
ويطالعنا ” هيرودوت ” أيضا أن الفينيقيين الذين انتقلوا من صور، فأسسوا جزيرة ” تاسوس ” (ابن آغنور، ملك صور) في القرن السادس عشر قبل الميلاد، بنوا فيها هيكلا لـ ” ملقرت ” قبل مولد هيراقلس (ابن أمفتريون) في اليونان بخمسة أجيال. ويدل كلام ” هيرودوت ” هذا على أن ” ملقرت “، إله صور، سبق في وجوده هيراقلس، إله اليونان، بعدة قرون. كما أن تسمية هيرودوت لمعبد ” ملقرت ” في صور بمعبد هيراقلس هو من الأدلة الواضحة على نظرة الإغريق إلى انبثاق هيراقلس عن ملقرت.
ويتأكد انبثاق آلهة الإغريق كافة عن آلهة الفينيقيين من خلال سلالة الآلهة ” الكنعانية – الفينيقية ” التي نقلت واتبعت بحذافيرها في بلاد اليونان، إذ نجد في نصوص ” أوغاريت ” (في فينيقيا الشمالية) أن أيل ولد بعل، وموت، ويمّ، وعناة، وعشتار. وبالمقابل نجد عند الإغريق (في الألياذة) أن كونوس ولد زفس، وهادس، وبوزيدون، وديمتر. ومن مراجعة تقاليد هذه السلالة وعاداتها وطقوسها يتضح أنها مأخوذة روحا وممارسة عن سابقتها آلهة فينيقيا.
وجد المؤرخون الكلاسيكيون منهم والمعاصرون ما يثبت أن الإغريق اعتمدوا فعلا في أولمبيا عبادة إله صور “بعل شميم ” وأطلقوا عليه اسم ” زفس الأولمبي “، وهو الإله الذي أعاد حيرام، ملك صور، بناء هيكله سنة 970 قبل الميلاد.
ولعل أبرز الذين كشفوا هذا الانتقال والمماثلة بين ” زفس الأولمبي ” و ” بعل شميم ” هو فيلون الجبيلي (الذي عاش في القرن الأول للميلاد). وقد نقل المؤرخ ” أوزيبيوس ” عنه قوله أن ” زفس الأولمبي ” هو امتداد لمعتقد فينيقي قديم جاء على لسان ” سانخون يتن ” الفيلسوف الشامي الذي عاش في بيروت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وقد جاء في تعريف ” فيلون الجبيلي ” قوله : ” ويسمونه بعل شميم الذي تفسيره سيد السماء عند الفينيقيين، وزفس عند اليونانيين “.
كما أشار مؤرخ آخر معاصر لفيلون الجبيلي هو ” جوزيفوس فلافيوس ” إلى انتقال عبادة بعل صور إلى أولمبيا، وإطلاق اسم ” زفس الأولمبي ” عليه، وهو الإله الذي أقيمت على شرفه الألعاب الأولمبية. وعلى مرّ العصور لازم طابع الألوهية والقداسة مدينة صور. ودعيت ” المقدسة ” لأن الآلهة سكنتها وبنت فيها معابدها، ولأن أكبر الأعياد والاحتفالات الدينية كانت تعقد فيها لتكريم ” البعل ” وعندما زارها هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد ذكر أن معبد ” ملقرت ” موجود فيها منذ قيامها سنة 2750 قبل الميلاد.
هكذا، إذن ، استمدت أولمبيا طابع قداستها من قداسة صور، واعتبر زفس (بعل صور) الههو. ويبدو أن هذه المنطقة من اليونان تعرفت إلى بعل صور كما تعرفت المناطق اليونانية الأخرى إلى سواه من الآلهة ” الكنعانية – الفينيقية ” عندما انتقل إليها الفينيقيون ورفعوا في ساحاتها العامة شعائرهم الدينية، وفي مقدمتها تماثيل الآلهة. يقول ” بوزانياس ” (في القرن الثاني) :
” إن سكان تاسوس من نسل فينيقي، أبحروا من صور ومن فينيقيا عموما مع تاسوس ابن أغينور بحثا عن أوروبا. وقد نصبوا في أولمبيا تمثالا لهيراقلس (أي ملقرت) قاعدته من البرونز… وقالوا أن في تاسوس أنهم يعبدون هناك هيراقلس الذي يعبده الصوريون أيضا “.
هذا النص هو إقرار دامغ لمؤرخ الألعاب الأولمبية على أن أولمبيا كانت من أهم مراكز العبادة للفينيقيين في بلاد الإغريق، وأن تاسوس، أمير صور، ذهب أولا مع أتباعه إلى أولمبيا في القرن السادس عشر قبل الميلاد، فنصب تمثالا من البرونز لملقرت، ثم تابع سيره حيث استوطن الجزيرة التي حملت اسمه.
هذا مما يعزز أن الألعاب الأولمبية هي فينيقية الفكرة والمنشأ اكتشاف وثائق وعاديات فينيقية تمثل آلهة ومروضيّ خيول ومحاربين تم العثور عليها والتعرف إليها خلال حفريات بعثة ألمانية، بإدارة ” أرنست كورثيوس “. وقد نشر القسم الأول منها في تقرير تلك البعثة سنة 1890. وهذه المجموعة من التحف أطلق عليها الباحثون الألمان اسم ” قادة خيول “. وتبيّن ” فيلهلم دوربفيلد ” الذي شارك في أعمال التنقيب في أولمبيا مجموعة ثانية من البرونز الفينيقي. كما كشفت بعثة ألمانية أخرى في ألمبيا، بإشراف ” إميل كونتسه “، مجموعة مماثلة لهذه التماثيل الفينيقية تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، أي إلى عصر تأسيس الألعاب الأولمبية. من هذه التماثيل ما نشر في تقارير البعثة سنة 1960 و 1967.
وفي جميع هذه التماثيل يبدو ” قائد الخيل ” في وضعية التأهب، معتمرا خوذة، رافعا ذراعه اليمنى التي كان يحمل بها الرمح حتى مستوى الأذن، بينما الذراع اليسرى مثنية إلى أسفل، والقبضة في محاذاة الوسط ممسكة بما اعتبره ” كونتسه ” لجام الجواد.
وهذا النوع من التماثيل معروف جدا في الفن الفينيقي، ويسميه ” فالنتين موللر” نموذج المحاربين. وقد جمع عنه 16 نموذجا، بينها ما اكتشف في الشام. ويقول ” موللر ” أن هذه المنحوتات البرونزية المتشابهة يراوح عصرها بين القرن الخامس عشر والثامن عشر قبل الميلاد. ومن الملاحظ أن هذه التماثيل التي تظهر فيها الذراع اليمنى مرفوعة واليسرى مثنية إلى أسفل، إنما تمثل البعل الفينيقي في وقفته المعروفة منذ العام 2000 قبل الميلاد على الأقل، ونقلت إلى الحضارة الأيجيّة في عصر مينوس – ابن أوربا، أميرة صور – قبل أن تصل إلى اليونان. وعند المحققين في علم الآثار شبه إجماع على أن الفن الفينيقي كان المعلم الأول للفن الإغريقي. ورأى بعضهم أن هذا التأثير اشتد بصورة خاصة في القرن الثامن قبل الميلاد بسبب اتساع التجارة الفينيقية في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
في دراسة أركيولوجية وتاريخية بدأتها في سنة 1971 وأثبت نتائجها في أطروحة الدكتوراه الذي قدمه د. لبيب بطرس في ألمانيا عن الرياضة الشامية، تبين له أن في مناطق الآثار الفينيقية، ولاسيما عمريت وصور، مدلولات أركيولوجية عن وجود الرياضة في العصر الفينيقي.
في عمريت برز أمامه على الساحل الشمالي، تجاه جزيرة ارواد، ستاد رياضي فات الباحثين التعرف إلى حقيقة وجوده حتى الآن. فعندما زار الجغرافي البريطاني ” رتشارد بوكرك ” منطقة الشرق الأوسط سنة 1745، شاهد هذا الستاد واعتبره ” سيركا ” تقام فيه الألعاب الرياضية. ولما قام عالم الآثار الفرنسي ” ارنست رينان ” باستطلاع آثار فينيقيا سنة 1860، أشار إليه أيضا ووصفه مؤكدا نظرة ” بوكوك ” إليه.
والواقع أن بوكوك ورينان عندما زارا فينيقيا، كانا يجهلان تماما شكل الستاد الرياضي في أولمبيا، إذ أن الحفريات فيها لم تبدأ إلا سنة 1875. وهكذا ظل ستاد عمريت الفينيقي طول هذه المدة على سطور قليلة في كتابين اثنين ينتظر من يحدد شخصيته ويبرز أهميته ويوسع معطياته. ومنذ ذلك الحين (أي سنة 1971) ويستطرد كاتب الأطروحة في كشف النقاب عن تاريخ هذا الستاد، لا بل عن تاريخ كل هذه المدينة الغارقة في الزمن. فوجد أن عمريت ورد ذكرها باسم “عَمْرَت ” في النصوص المصرية الهيروغليفية في قصة حملات تحوطموس الثالث المنقوشة على قبره في الكرنك، في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وفي عصر الاسكندر الكبير (أي القرن الرابع قبل الميلاد) عرفت عمريت باسم يوناني هو “ماراثوس “. وذكر ” ديودوروس الصقلي”، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، أن الارواديين دمّروا مدينة عمريت خلال حكم “الاسكندر الأول بالا ” (بين 150 و 148 ق.م) وعندما زارها ” سترابون ” (بين 58 ق.م و 25 للميلاد)، وجدها مهدّمة وقد تقاسم الارواديون أراضيها. ولم تتحدث المصادر التاريخية عن دور عمريت في المنطقة خلال العهدين اليوناني والروماني، بينما اتجهت النصوص لإبراز أهمية أرواد وطرطوس وغيرهما من معالم فينيقيا الشمالية. وما يؤكد أن عمريت لم تعرف حضارة يوناينة أو رومانية هو خلّوها من المباني ذات الطابع المعروف في زمن العالم اليوناني أو الروماني، بل أن جميع مبانيها فينيقية ولاسيما معبدها.
وتكمن أهمية ستاد عمريت في قدمه ومطابقته لأوصاف أقدم ستادات اليونان. فطوله 225 مترا، وعرضه 30 مترا، وهو محاط بعشرة أدراج محفورة في صخر كلسي على طول الجهة الشمالية، بينما حفر نصف المسافة في الصخر جنوبا وأكمل القسم الآخر بإنشاءات حجرية ما تزال آثارها ظاهرة حتى اليوم. في الجهة الشرقية تستدير المدارج من الجانبين بشكل قوسي، وتنتصب في نهايتهما صخرة ضخمة اقتطعت من الجهتين لتأمين مدخلين لساحة الملعب، عرض كل منهما 3,50 من الأمتار، وخصص مدخل، حُفر تحت مدرج الجهة الجنوبية، للرياضيين.وقُدّر أن مدارج الستاد كانت تستوعب نحو 11,200 نسمة.
ويقوم في جوار الستاد معبد المدينة على مسافة نحو 200 متر. وهو نموذج مميز للمعابد السامية، ينفي عنه الباحثون أي تأثير إغريقي. وفيما يخص الستاد نفسه، فقد أعطت الدراسة الهندسية والتاريخية أنه بني في حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد – أي قبل أولمبيا بنحو 700 سنة على الأقل !
والله الموفق/ 29/10/2008