عودة إلى النموذج التنموي وتغول الفساد - بريس تطوان - أخبار تطوان

عودة إلى النموذج التنموي وتغول الفساد

 لا زال المغاربة يذكرون السؤال الوجيه الذي طرحه الملك محمد السادس 30 يوليوز 2014 بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لعيد العرش : أين الثرة؟  !، وهذا يعني أنه رأى أن المغرب له موارد ومؤهلات اقتصادية واجتماعية مهمة ولا يستفيد منها أغلب المواطنين ، وهذا يعني أيضا أنه كان من المفروض إعادة النظر في السياسة القائمة ومراجعة عملية توزيع هذه الثروات لرفع الحيف عن المحرومين من ثروات بلادهم.

النموذج التنموي الجديد

استمر هذا الظلم والحيف ولم تتغير الأمور ، وخلال افتتاح الدورة التشريعية بالبرلمان في شهر أكتوبر 2017 أعلن الملك عن نهاية صلاحية النموذج التنموي (عمل به المغرب منذ الاستقلال) قائلا ” أن النموذج التنموي الوطني المعمول به أصبح غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية”. وعملا بهذا الخطاب الملكي أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سنة 2019 المخطط التنموي الجديد وكانت الآمال معلقة عليه وأن يسفر عن الحد من الفوارق بين فئات المجتمع والتفاوتات المجالية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

بقيت الأمور أيضا على ما كانت عليه (ونحن في بداية سنة 2025 ) وشهدت بعض مناطق البلاد خروج حراكات شعبية غاضبة بسبب ارتفاع أسعار مختلف المنتجات المعيشية وتراجع القدرة الشرائية ، وهذا يعني استمرار فشل برامج الحكومة كالمخطط الأخضر عملت به منذ أزيد من عشر سنوات ، وكالعمل برؤيتي 2010 و 2020 السياحيتين . والسؤال هو هل تم تفعيل تقرير المخطط الجديد ؟ وإذا كان الجواب بنعم فيعني أنه فشل كما فشل النموذج الذي من قبله وإن كان الجواب بالنفي فلماذا ؟.

أشار مختصون اقتصاديون إلى أن النموذج التنموي الجديد به قصور وعيوب منها السماح لصندوق النقد الدولي

بالمشاركة في عملية إعداده وصياغته، وقال هؤلاء المختصون أن نصائح (تعليمات ) هذا الصندوق كانت وراء

فشل النموذج التنموي السابق الذي طلب الملك توقيف العمل به.

بخصوص السماح لصندوق النقد الدولي المشاركة في عملية إعداد وصياغة هذا النموذج التنموي الجديد أشرت خلال مقالة سابقة (موقع بريس تطوان  2 نوفمبر 2024 ) أن هذا الصندوق اقترح على الحكومة خلال سنة 1965 إعطاء الأولية للسياحة على حساب الصناعة وعلل ذلك بالطفرة التي كان يعرفها هذا القطاع في إسبانيا وإيطاليا وغيرهما بدول جنوب أوروبا القريبة ، وأعلن الصندوق أن الحكومة ستجد دعما من الدول الصديقة للحصول على قروض ومساعدات تقنية للنهوض بالسياحة المغربية .

بعد سنوات قليلة تبين أن الرهان على السياحة كان خطئا بسبب عدم قدرة الحكومة توفير موارد مالية كافية للنهوض بهذا القطاع لإحداث الطرقات والمطارات والموانئ ، وإعداد المناطق السياحية وتوفير الأراضي بها وتجهيزها ، وجلب الاستثمارات وبناء المؤسسات الإيوائية ، وإحداث مرافق التنشيط السياحي ، وتكوين الأطر المدربة الخ. فقد كان المغرب (الحديث عهد بالاستقلال آنذاك) يفتقر إلى هذه الموارد المالية الكافية والأطر والخبرة الضرورية.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن تسويق المنتوج السياحي كان يعرف منافسة قوية من طرف دول جنوب أوروبا  سيما وأن السياحة هو قطاع هش تتحكم فيه الاتفاقات السياسية ومؤسسات التسويق والتوزيع الدولية ، والموسمية ، والحروب ، والكوارث الطبيعية ، والأوبئة الصحية ، وإضرابات النقابات الخ. وكان البديل هو الاستمرار في النهوض بالصناعة التي تم التخلي عنها ( عملا بتعليمات البنك الدولي ) والنهوض بالسياحة الداخلية التي يزاولها  المواطنون داخل بلادهم ليست لها هشاشة مهمة كالسياحة الدولية .

ونظرا لفشل السياسة السياحية وضعف برامجها وتسويقها وتدهور ميزانيات الدولة وزيادة المديونية تم التراجع عن دعم السياحة وخصخصة المنشآت الإيوائية عملا بتعليمات البنك الدولي بإعادة هيكلة مالية الدولة والعمل بسياسة التقشف ( كتاب إسماعيل عمران ” التنمية السياحية بالمغرب : واقع وأبعاد ورهانات اكتوبر 2004) . ثم عاد صندوق النقد ليقترح الرهان على السياحة والعمل برؤية 2010 لإخراج البلاد من التخلف، واقترح ( ) إحداث محطات شاطئية شمال وغرب البلاد واستعداده المساهمة في توفير الخبرات التقنية وتشجيع الاستمارات الأجنبية بها.

فشلت هذه الرؤية في تحقيق أهدافها ( كتاب إسماعيل عمران ” السياسة السياحية بالمغرب : إشكاليات وتداعيات وبدائل “. يناير 2018 ) واقتصرت  نتائجها على جلب أقل من خمسة ملايين من السياح الأجانب بدل عشرة المتوقعة ، و نسبة أقل من أربعين في المائة من مداخيل العملة الصعبة ، و نفس النسبة من المشاريع الإيوائية ، واقتصر الأمر على فتح محطة سياحية واحدة بالسعيدية ( بها ثلاثة  أو أربع وحدات إيوائية فقط ) بدل أزيد من عشر  محطات  بالعرائش وموكادور والشاطئ الأبيض وثمودا باي وغيرها لم تفتح إلى الآن ، والسؤال  المهم هو عن

مصير آلاف  الهكتارات  التي  خصصت لإحداث هذه المحطات ومن استحوذ عليها .

تغول الفساد

رجوعا إلى انتقادات المختصين الاقتصاديين حول تقرير النموذج التنموي الجديد الذي أعلن عنه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سنة 2019 طرح بعضهم تساؤلات تهم إعداد ومضامين هذا النموذج التنموي وانعكاساته وفائدته مستقبلا بسبب غض الطرف عن عمل المفسدين وتزايد منذ الاستقلال نتيجة غياب سياسة عقابية قوية تستأصل عمل المفسدين وتعطل الوسائل والأدوات التشريعية والمؤسساتية التي يتحصنون بها ، وذكروا أن عمل المفسدين شيء خطير يتسبب في نهب الثروات وحرمان المواطنين من خيرات بلادهم ومن إحداث المدارس والمستشفيات والبنيات التحتية بها إلخ  .

وفسر هؤلاء المختصون خطر هذا الفساد باحتكار وحشي لمصادر وموارد الثروة والاستحواذ الفظيع من طرف طبقة معينة على رخص التصدير والاستيراد والإنتاج والبيع والمأذونات والصفقات الخ . مما نتج عنه تمركز الثروة في أيادي فئة معينة وحال دون استفادة سائر المواطنين منها وكذا من تطور الاقتصاد المغربي  لعدم وجود آليات زجرية حقيقية  ، وتساءل بعضهم : هل ذهبت الثروات وتكدست في أبناك سويسرا وبنما وخزائن شركات وطنية وأجنبية عملاقة  استغلت عرق وكد أبناء هذا الشعب المستضعف ؟.

أوضح تقرير الهيئة الوطنية للنزاهة من جانبه  أن المغرب بحصوله على 38 نقطة من 100 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2023 يكون قد تراجع 5 نقاط خلال السنوات الخمس الأخيرة، فقد انتقل المغرب من الرتبة 73 ضمن 180 دولة لعام 2018، إلى الرتبة 97 في 2023، وأن مجموعة الدول التي وضعت الوقاية من الفساد ومكافحته على رأس أولوياتها الوطنية استطاعت أن ترقى بترتيبها إلى مستويات متقدمة جدا. وأشار هذا التقرير أيضا إلى خطر آفة تغول الفساد وانعكاساته السلبية الاقتصادية والاجتماعية تكلف المغرب سنويا من 3,5 إلى 6 في المئة من ناتجه الداخلي الخام، أي ما يمثل 50 مليار درهم.

وقالت  هذه الهيئة الوطنية (استنادا إلى دراسة حديثة) أن رخص ومأذونات النقل التراخيص والتوظيف هي المجالات الأكثر عرضة للفساد بالمغرب وينتشر فيها بنسبة 57 في المئة ، وأضافت أن  68 في المئة من الشركات التي شملتها الدراسة ترى أن الفساد  منتشر في المغرب وأن غياب فعالية  تقديم الشكايات  والاستهانة بالفساد والخوف من عواقبه السلبية على الشركة هي من أسباب ضعف شكايات وتبليغات الشركات التي تم استطلاع آرائها ، وأن نسبة  75 في المئة  من الشركات لم تبلغ  عن الفساد  تعرضت له وأنه يتم  اللجوء  للرشوة  لتسريع  الإجراءات و

الاستفادة من معاملة تفضيلية لإنجاز إجراء إداري أو تجاوزه للحصول على قرار أو حكم إيجابي.

وحذرت منظمة الشفافية الدولية  في المغرب من “رشوة نسقية  ومعممة تهدد الاستقرار الاجتماعي ” في البلاد،

معلنة عن تراجع المملكة إلى المرتبة 97 في تصنيفها السنوي لمؤشر الفساد في العالم العام الماضي، وجددت المطالبة بتبني قانون تجريم الإثراء غير المشروع طرحته الحكومة عام 2015 وسحبته الحكومة الحالية عام سنة 2021.

وخلص بعض المختصين من جانبهم إلى أن تقرير النموذج التنموي الجديد لا جديد فيه سوى الإلهاء والتلهية ما لم يتم إسقاط الفساد الذي يمثل ركنا أساسيا من أركان الدولة ، وأن “الفساد لا يقوم إلا بتنمية الفساد” وأعطوا الأمثلة عما يُمارس من فساد في استغلال وتوزيع الثروات الطبيعية، وشراء الذمم والولاءات، وإفساد الحياة السياسية ، دون أن ننسى تأكيد الوزير الأول السابق يوم كان يترأس الحكومة خطورة عمل ” التماسيح والعفاريت “.

إن هذا يعني أن تقرير النموذج التنموي ليس به قصورات وعيوب تهم فقط إعداده ومضامينه وأهمية مؤهلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأوضاعها الحقيقية ، بل وأيضا تهم عدم تقييم وإعطاء هذا النموذج التنموي دورا مهما لمرجعية الهوية المغربية لتفعيل وتخليق الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين ؛ هذه الهوية (العربية الامازيغية ) تستمد ثقافتها وأعرافها من موروثها الحضاري المشرق ومن مبادئ العقيدة التي عاش عليها المغاربة طيلة قرون كانت سببا في قوتهم وتماسكهم  .

إن التقليل من أهمية دور الهوية المغربية (العربية الأمازيغية ) ومرجعيتها الإسلامية في تقرير النموذج التنموي لتخليق الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد يعني استمرار العمل بثقافة المستعمر ونظمه الذي عمل بها على إضعاف البلاد وطمس هويتها ومحاولته خلق فئتين من المغاربة (عرب وأمازيع ) ومجالين (مغرب نافع وأخر غير نافع) ، ويعني أيضا محاولة استبدال موروث وحضارة المغاربة بثقافة ونظم مستوردة دخيلة علينا ، ويعني استمرار الحكومات المتعاقبة العمل بلغة المستعمر ونظمه في تدبير مؤسساتنا جعل الكثير منا يتباها ويتمطى بلغة المستعمر وانتمائه إلى الحداثة والديمقراطية والاشتراكية والليبرالية وحقوق الإنسان (كل حزب بما لديهم فرحون !) .

إن الرجوع إلى العمل بقيم مبادئنا الإسلامية الخالدة ولغتنا وموروثنا الحضاري كفيل بتحقيق الاستقلال الحقيقي وعدم التبعية لثقافة ونظم الاستعمار المستوردة وكفيلة باستئصال جميع أنواع الفساد وعدم استحواذ طبقة من المستغلين لخيرات البلاد وسرقة أرزاق المواطنين المستضعفين وتحقيق العدالة الاجتماعية والطمأنينة للمغاربة.

منذ استقلال البلاد فشلت العديد من برامج الحكومات نتيجة ضعفها أو عدم العمل بها ، ورأينا كيف أن  مؤسسات خارجية تتدخل في صياغة سياساتنا الاقتصادية والاجتماعية ، ونرى قوة وتناسل لوبيات تحتكر مصادر وتصريف موارد عيش المواطنين وتنهب ثرواتهم ، ونرى دور الوسطاء بين منتجي ومستهلكي السلع والبضائع  ، ونرى غياب قوانين زجرية لتخليق المعاملات والمعاييش ، كل هذا أسفر عن تغول  الفساد والمفسدين ، فلم تجد نفعا الحراكات الشعبية وتدمر الذين يستغيثون من سياسة البلاد ناقصي التربية كما وصفهم  مسؤول حكومي! .

نحن المغاربة لسنا في حاجة إلى تدخلات مؤسسات خارجية ولا إلى إعادة تربيتنا فقد نشأنا على مبادئ عقيدتنا الخالدة علمتنا الجهر بالحق ونكران الباطل وشجعتنا على أن نقوم بالقضاء على عمل المفسدين ونشر العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع فئات المجتمع وأن يكون من نستعملهم أقوياء بمبادئ عقيدتهم وأمناء ومخلصين عند القيام بمهامهم عملا بمبدأ ( إن خير من استأجر القوي الأمين ) وعملا بقول ربنا الرحمن الرحيم ( وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنا لِّكُلِّ شَيۡء وَهُدى وَرَحۡمَة وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ) صدق الله العظيم والحمد لله رب العالمين .


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.