على هامش صدور "الرحلة الحجازية" لأبي العباس أحمد الرهوني التطواني - بريس تطوان - أخبار تطوان

على هامش صدور “الرحلة الحجازية” لأبي العباس أحمد الرهوني التطواني

كان الفقيه القاضي والوزير أحمد الرهوني التطواني (ت. 1953) قد شارف على العقد السادس من عمره، ومعلق القلب بقضاء فريضة حج بيت الله الحرام، حينما علِم –فجأة وهو يستمع إلى المدياغ بجنانه ضواحي تطوان ليلة 18-19 دجنبر 1936م -أنه اختير ليكون رئيسا للوفد الخليفي المتوجه لأداء مناسك الحج لسنة 1937. وأن “فخامة الخنراليسيمو فرنكو قد هيأ باخرة جميلة لركوب الحجاج المغاربة من سبتة إلى جدة، وأن الحجاج المذكورين سيكونون تحت رئاسة العلامة سيدي أحمد الرهوني”، فكاد عقله يطير فرحا من هذا الترشيح لهذا المنصب الفخيم الذي صدر من الخليفة السلطاني الحسن بن المهدي العلوي.

ثم استقبله في اليوم الموالي المقيمُ العام الإسباني (بيكبيدير) Beigbeder فأبلغه بهذا الترشيح، وأن فرنكو «أنعم بالمركب المذكور على الحجاج المغاربة بمناسبة إخلاصهم في مساعدته على الانتصارات الباهرة التي نالها على أعدائه»، تم أعلمه بترشيحه أولا قبل السفر للحج “للطواف على مستشفيات إسبانيا، وزيارة مجاريح المغاربة الذين بها وتسليتهم، وشكرهم نيابة عن سيدنا الخليفة وفخامة الرئيس فرنكو على ما قاموا به من الأعمال الشريفة الجليلة…”.

ترتبط الرحلة، التي قام بها الرهوني إلى البقاع المقدسة سنة 1937م إذاً، بظروف سياسية أملتها مصالح إسبانيا آنذاك، للتقرب إلى مغاربة الشمال خاصة، والعالم الإسلامي عامة، بعد سلسلة من الانتصارات التي حققها الجنرال فرانكو ضد أعدائه الجمهوريين. فقد أعلن فرانكو، في 18 يوليوز 1936 م، عن تمرّده العسكري وقيام الحركة الوطنية الإسبانية، فانحازت لجانبه كل من ألمانيا وإيطاليا، مقابل انحياز روسيا لجانب الحاكمين اليساريين، لتندلع حرب أهلية إسبانية طاحنة بين الطرفين، جُنّد فيها عدد كبير من المغاربة إلى جانب قوات فرانكو. وكان هذا الأخير يعتقد أن أمر الحرب سرعان ما ينتهي، ولكنها طالت ثلاث سنوات، ولم تضع أوزارها إلا بعد اندحار القوات الجمهورية، ودخول جيش فرانكو مدينة مدريد، في شهر غشت 1939.

لقد تمت رحلة الفقيه الرهوني إلى الديار الحجازية في ظرفية تاريخية مطبوعة إذا بالحرب الأهلية الإسبانية، ومع حملة إسبانية عارمة لتجنيد عدد هائل من المغاربة للقتال في جيش فرانكو المتمرد في الحرب الأهلية الإسبانية التي كان قد مرّ على اندلاعها ستّة أشهر. فقد تحوّل الانقلاب الفرنكاوي إلى حرب أهلية دامية وطويلة مفتوحة مستنزفة للرجال على امتداد التراب الإسباني، كلفت الطرفين خسائر بشرية فادحة، حيث صار العنصر البشري من العوامل الأساسية للقدرة على مواصلة الحرب وتحمل خسائرها. ففي هذا السياق لجأ فرانكو إلى تجنيد كثيف للمقاتلين المغاربة، واتخذت عملية تجنيد المغاربة بمنطقة الحماية الإسبانية صبغة حملة واسعة ومكثّفة استهدفت كل المداشر والقرى، واستُعملت خلالها كل الوسائل: من ترغيب وترهيب، بل وحتى إجبار الناس واختطافهم من أجل الزج بهم في الحرب. وقد تكلف بتنفيذ هذه التعبئة بمنطقة الحماية الجنرال )أوركاث(Orgaz  الذي خلف فرانكو على رأس الإقامة العامة… حيث كلف بضمان تدفق مستمر للرجال نحو جبهات القتال داخل إسبانيا.

ولضمان تأييد الحركة الوطنية المغربية لعملية تجنيد المغاربة في هذه الحرب الأهلية، منح لها فرانكو حريات غير مسبوقة، تضمنت خلق صحافة وطنية ناطقة باللغة العربية، وشرعنة الأحزاب الوطنية المغربية، وترضية أعضاء من النخبة والزعامات المحلية الدينية والمدنية بالمناصب السامية، وقدم المتمردون للخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي “وعودا ضبابية باستقلال المغرب مقابل دعمه لهم في الحرب الأهلية”.

فالرحلة تندرج ضمن حملة إعلامية خطط لها فرانكو لتهدئة القواعد الخلفية للجيوش الإسبانية بشمال المغرب من جهة، وضمن “السياسة الإسلامية” للنظام الفرانكوي التي وضع أسسها وترجمها على أرض الواقع المفوض الإسباني، الكورونيل (خوان بيكبيدير) Juan Beigbeder، الذي يصفه الرهوني بـ ” السيّاسي الكبير”، و”حَبيبُ المسلمين وصديقهم في القديم والحديث”، و بـ “البطل الشهير، الشرقي الكبير، السياسي الخطير”. فقد عرف كيف يستغل الشعور الديني للمغاربة، والاهتمام بكل ما يرتبط بذلك الشعور؛ وكانت تلك السياسة تهدف في مجملها كسب المغاربة واكتساب الشرعية الدولية للنظام الفرنكاوي وعطف العالم الإسلامي وهو يخوض الحرب الأهلية ضد من يصفهم بالشيوعيين الجمهوريين أعداء الكنيسة والإسلام.

وتعتبر “الرحلة الحجازية” للرهوني شهادة فصيحة على جهود فرانكو لتقديم نفسه بأنه صديق العالم الإسلامي، إذ منذ الحرب الأهلية الإسبانية، تبنى نظام فرانكو خطابًا رسميًا يُظهر دعمًا للإسلام كعلامة على الصداقة والقرب من المغرب. وكانت هذه السياسة تخفي هدفا أساسيا يتمثل في انعتاق إسبانيا من العزلة على الساحة الدولية، من خلال كسب تعاطف الدول العربية الإسلامية.

ويفصح الرهوني جليا عن مرامي إرسال فرانكو للوفد الخليفي للديار المقدسة وأهدافه قائلا: “فلا شك أن هذا العمل العظيم سيعود عليه [فرانكو] وعلى أمته بكل خير، وأنه سيرنّ صداه الحسن الجميل في آذان المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، وسيزرع في قلوبهم حبه والدعاء له ولجنوده الأبطال، بكل خير وانتصار”.

كانت “الرحلة الحجية” التي رأس وفدها الفقيه الرهوني سنة 1937، هي الأولى في سلسلة الرحلات الحجية التي نظمتها السلطات الفرنكوية خلال الحرب الأهلية، فقد تلتها رحلتان حجيتان سنتي 1938 و1939، عرفتا إقبالا منقطع النظير من قبل المغاربة المسلمين، قبل أن توقف إسبانيا هذه الرحلات الحجية “نظرًا لتفاقم العروبة والقومية في تلك الجزء من العالم” ومخافة “تعرض الحجاج لأيديولوجيات وحركات سياسية جديدة في المشرق”، خاصة من خلال اتصالاتهم مع أشخاص مثل عبد الكريم الخطابي الذي كان في تلك الفترة لاجئًا في مصر.

***

جهزت السلطات الفرانكوية باخرة “من أجمل طراز وأحدثه، مشتملة على كل المرافق التي يتوقف عليها الحاج في ذهابه وأوبته”، سمّاها (المغرب الأقصى)، أدخلت عليها الإصلاحات والتعديلات الضرورية لتتوافق مع الخصوصيات والعادات الإسلامية للأهالي، ووضعها رهن إشارة الحجاج المغاربة بالشمال، ووضع أثماناً رمزية للسفر، “لا يمكن أقل منها في هذا الزمن، مع التسهيلات التي لا أعلى منها من مأكولات طيّبة، ومشروبات شهيّة، وتيسير أسباب إقامة الدِّين بتخْصيص محلِّ العبادات والقراءات”» حسب تعبير الرهوني، وذلك ليستقطب أكبر عدد من المسافرين.

أرسلت الباخرة إلى ميناء سبتة، القريب من تطوان، لتكون انطلاقتها من هناك نحو الحجاز. ورافق ذلك حملة دعائية كبيرة بالأسواق والبرامج الإذاعية والصحافة المحلية والفرانكوية، والمنشورات الدعائية والإعلانات والملصقات، وعلى المنابر، “فأكبَّ الناس على تقطيع الورقات من كل صوب وجانب، ووقعت الكتابة لمدن وقبائل المنطقة بالإذن للمُراقبين في قطع الأوراق لما تحت مراقبتهم”.

سمح للساكنة بزيارة تلك السفينة “فصار [المركب] كالكعبة يقصده الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً من كل فجٍّ عميق، فيطوفون به، ثم يدخلونه ويطوفون بجميع غُرفه، ووقع عليه ازدحام عظيم حتى كاد الناس يقتل بعضهم بعضاً من شدة الازْدحام، والمكلَّفون به ساكنون ساكتون لا يتكلّمون، لِما عندهم من الوصايا من قبل الْخِنِراليسْمُو فْرَنْكُو”.

وأشاد الرهوني بهذا المركب أيما إشادة، “فهو مركب شَهِد العارفون له في بُورْسَعيد وفي جدَّة بأنه لم يحمل الحُجَّاج نظيره في الحُسن والجمال والنظافة، وحتى قال أهل جدَّة أنه لم يرِدْ إليها مركبٌ حاملٌ للحجاج مثله، وكان يسمى في المياه المصرية والحجازية والحبشية “مرْكب فْرَنْكُو“، وفاق في نظافته وجودة مرافقه السفن الفرنسية التي كانت تحمل حجاج المنطقة الخليفية”.

وللمزيد من كسب التأييد لنظام فرانكو نُظمت للرهوني زيارة باسم وفد الخليفة السلطاني بتطوان، إلى مستشفيات إسبانيا الأندلسية التي يرقد بها المرضى والجرحى المغاربة الذين أصيبوا في الحرب الأهلية، في كل من إشبيلية وقادس وقرطبة، وغيرها من المدن، كما أمر بتخصيص استقبالات شعبية منقطعة النظير للفقيه الرهوني، كانت في بعض الأحيان تصل إلى حشود ملأت كل الأزقة والساحات. ولم يفت فرنكو أن يستقبل شخصيا الفقيه الرهوني يوم 19 يناير 1937، ويعقد معه جلسة لتبادل الكلمات، وتبليغ رسالة المحبة والاحترام إلى جلالة الملك عبد العزيز، مع هدية عبارة عن سيارة فخمة كعربون للعلاقة بين إسبانيا والمملكة العربية السعودية.

وحدث أن تعرضت الباخرة وهي بميناء سبتة لوابل من قنابل الطائرات الحربية الجمهورية، يوم 20 يناير 1937، على إثرها “مات أناس، وتهدّمت ديار وأسواق”. واستغلت السلطات الفرانكوية ذلك الحدث بشكل كبير لتأليب الرأي العام ضد الجمهوريين، ونظمت مظاهرة كبيرة ضدهم بمدينة تطوان تأييدا لفرانكو وتنديدا بالجمهوريين “أعداء الدين”. وقد صور لنا الرهوني في رحلته الجمهوريين بمظهر المعتدي على حرمات المسلمين وشعائرهم، وكيف استغل فرانكو هذا الحدث على المستوى الإعلامي  الدولي، فقال عقب وصفه لقصف السفينة: “ثم قامت مظاهرةٌ عظيمةٌ في جميع المنطقة السعيدة، وخصوصاً بتطوان، ضد الحركة العدائية المتخذة ضد الإسلام والدّين على عادتهم في معاداة الأديان، واجتمع الناس بتطوان، عامّتهم وخاصّتهم في الجامع الأعظم، وذكروا اسم الله اللطيف، ثم خرجوا متظاهرين محتجِّين على هذه الفِعْلة الشنيعة التي أثارها الشيوعيون ضد الإسلام وأهله، وتوجّهوا للقصر العامر وللمقيميّة العامّة، وكتبوا رسائلَ الاحتجاج.

***

مما يلفت النظر في هذه “الرحلة الحجية” هو ذلك التماهي التام لمؤلفها مع الخطاب الدعائي الفرنكوي، ذلك أن القوة البلاغية لنص رحلة الرهوني تتجلى في أنه يترجم الخطاب الفرانكاوي إلى اللسان العربي والإسلامي. ولم يكن الفقيه الرهوني يجهل الأهداف الدعائية للرحلة، بل يخال لنا أنه كان بمثابة الناطق الرسمي الذي ترجم تلك الأهداف الدعاية الفرنكوية في الأقطار العربية التي زارها خلال رحلته الحجية، وعمل على إبراز مميزات السياسة الإسلامية للسلطات الإسبانية في أوساط الحجاج المسلمين. واستغل لقاءاته بكبار الشخصيات ورؤساء الوفود الحجية وتصريحاته الصحفية ليشيد بالجنرال فرانكو وحسن معاملته للمسلمين في المنطقة الخليفية، ملمّعا صورة الديكتاتور الإسباني في العالم الإسلامي، ومساهما في “تدويل الحرب الأهلية الإسبانية”. وذلك ما كان يهدف إليه (بيغبيدر)، مهندس” السياسة الإسلامية” الإسبانية بالمنطقة الخليفية، وهو يخطب في جموع حجاج وفد 1938، خطبة جاء فيها: “إن معز الدولة الخنرالسمو فرانكو قد هيأ لكم أيها المسلمون هذه الباخرة لحجكم، فتنبهوا لفعله الجميل لكم وإعانته على دينكم، وقصوا ذلك على إخوانكم المسلمين بالحجاز وغيره“.

وقد تحقق ذلك المبتغى، إذ “كان الحجاج المغاربة ينشرون المدائح في حق فرانكو على طول الطريق. وحسب الرهوني فإن المركب كان يعرف في موانئ مصر والمملكة العربية السعودية باسم ” مركب فرانكو”، وكل من رآه يشهد “بأنه لم يحمل الحجاج نظيره في الحسن والجمال والنظافة”. وفي طرابلس أبدى الليبيون “من السرور والإعجاب بهذا المركب ومن عليه من الحُجَّاج… وأثنوْا على… الخِنرال فْرَنْكُو وشجاعته وإقدامه وحسن سياسته الداخلية والخارجية، الثناء العَاطِر، وتمنّوا أن يروْا كل عام مثل هذا المركب الوحيد في شكله وجماله، أمثاله حاملة لإخوانهم الحُجَّاج، قائلين إن هذا أوّل ما رأينا وسمعنا من المراكب التي تنقل الحُجَّاج على هيئة إسلامية صِرفة، مع ما اشتملَ عليه من المرافق الإسلامية، من المساجد العمومية للصلاة وإقامة الدروس الدِّينِيَّة، والأحزاب والأذكار، وغير ذلك. ثم سألونا عن حالتنا السياسية والاقتصادية، فأجبناهم بأنها متجسِّمة في هذا المركب بقواعد إسلامنا قائمة بحريّة تامة، كما تروْنها في هذا المركب، والحالة الاقتصادية كذلك. فنحن نحمد الله ونشكره على ما أوْلانا من نِعَمِه المتوالية، وعلى أن وفق الخِنرال فْرَنْكُو ورجال دولته للاتِّحاد معنا على ما فيه صلاحنا الديني والدنيوي”. فمركب الحجاج بالنسبة للرهوني “ليس وسيلة نقل من المغرب إلى المملكة العربية السعودية فقط، بل هو أيضا رمز لصحة الإسلام المغربي تحت الاستعمار الإسباني”.

لقد ملأ الرهوني رحلته بعبارات تمتح من القاموس الدعائي للجنرال فرانكو،  فأضفى عليه من عبارات التزلف والتبجيل والمديح والإطراء الشيء الكثير، فهو  “البطل الحلاحل و“بطل إسْبانْيَا ومنقذها من براثن الشيوعية”، وهو: “صاحب الشهامة والزّعامة والجلالة والفخامة، ذاك البطل الأكبر الشجاع الأشْهر الذي برهنَ على استحقاق رئاسته بكمال حُسْن سياسته، ذاك الرئيس المحبوب من جميع القلوب، رئيس دولة إسْبانْيَا، الحامية لمنطقتنا المغربية، رئيس رؤساء إسْبانْيَا الفَخيمة، وحامي حِمى الوطنية من تلاعُب أيْدي الشُّيوعيين اللّادينيّين الذين لا يرْقبون فيمن خالفهم إلاَ ولا ذمّة، ذلك حامي حِمى الوطنية، الْخِنِراليسْمُو السيد فرنسيسكو فْرَنْكُو، حبيب المسلمين في جميع الأقطار وبجميع الكرام الذين أخذوا على عَواتقهم لُزومَ طاعته ونُصرته، والقيام بإعانته الماديّة والأدبية، حتى تعود إسْبانْيَا إلى عُلاء مَجْدها الشّامخ، فإنه – أعانه الله- قد تفَضَّل بكل مساعدة ماديّة وأدبيّة في هذا المشروع الجليل، وهو تيسير  مَرْكب إسباني يحمل حُجَّاج بيت الله إلى الأصقاع المباركة بكل سهولة”.

***

من ركائز الإيديولوجيا الفرانكوية التي نجد صداها في رحلة الرهوني: هناك:

1) تصوير الحرب الأهلية الإسبانية كأنها حرب صليبية يقودها فرانكو دفاعا عن الدين التوحيدي ضد سطوة الشيوعييين اللّادينيّين، “أعداء الإنسانية”، الذين يرومون تدمير الإسلام. ألم يعلن بيغبيدر، وهو يدشن مسجد مولاي الحسن بسبتة سنة 1938 بأن “نصر فرانكو هو أيضا نصر للإسلام على الإلحاد”؟

2) الترويج لشعار “الأخوة المغربية-الإسبانية”، وأن “المحبّة القلبيّة هي قديمة العهد بينهم [الإسبان] وبين العرب”، فجذور هذه الأخوة تعود إلى التاريخ المشترك الذي تجسده القرون الثمانية للوجود المغربي والإسلامي بالأندلس، وأن السلطات الفرانكوية كانت تعمل على إعادة إحياء ذلك الإرث الأندلسي المشترك. وصاحب الرحلة يقدم لنا فرانكو بصفته مدافعا عن الإسلام وعن الإرث الثقافي للأندلس المتمثل في الثقافة العربية -الإسبانية المشتركة بين المغرب وإسبانيا باعتبارها ثمرة للتعايش الثقافي بين البلدين، وهو ما يوحد الإسبان والمغاربة في القرن العشرين. لذا، قدمت الإيديولوجية الفرانكوية الحماية الإسبانية باعتبارها جسرا زمنيا يربط بين الماضي الأندلسي والحاضر المغربي، وبأنها لا تشبه المشاريع الاستعمارية الأوربية الأخرى التي تسعى إلى استغلال موارد البلد وخيراته، وإنما هي حماية عاطفية El Protectorado sentimental “لا تبحث عن استغلال المواد الأولية والبشرية، وإنما تتوخى ما هو أسمى، وهو إنهاض الثقافة والعاطفة والآداب العربية وتجديد جزء لا يتجزأ من إسبانيا نفسها”.

كما يقدم لنا الرهوني الفرانكويين باعتبارهم دعاة للتعايش والتسامح الديني، ودعاة إلى “الأخوة بين المسيحية والإسلام”. ذلك ما يستشف من هذا النص: ” ثم دخلنا مسجد قرطبة العظيم، ومعنا الخِنِرال، ومعية الأعيان، وصليتُ أنا ورفيقي الظُّهرَ والعصر جمعا في محرابها وهم ينظرون إلينا نظرَ إعْجابٍ واحترام للطقوس الدِّينِيَّة الإسلامية، ويستغربون كثرة ركوعنا وسجودنا؛ ثم خرجنا إليهم وطُفْنا المسجد كله، ودخلنا الكنيسة التي هناك، وشاهدنا من كنوزها الثمينة ما يعدُّ بالملايين، وهناك تذاكرتُ معهم في إمكان التخلّي عن قسمٍ من المسجد لإقامة الطقوس الإسلامية، فوجدتُ منهم قبولاً حسناً لذلك”.

بل إن الرهوني يذهب إلى حد المناداة بوحدة الأديان السماوية وجعلها دينا واحدا. يقول: “فعلينا الدُّعاء إلى الخير، أي توْحيد الأديان وجَعلها ديناً واحداً: […] فنحن المسلمين مؤمنون بالله وبرُسله، ومنهم سيدنا آدم، وسيدنا نوح، وسيدنا إبراهيم، وسيدنا موسـى، وسيدنا عيسى، وسيدنا محمد، عليهم أفضل الصلاة وأزكى  السلام، مؤمنون بأن الله أرسلَ رُسُلاً هؤلاء وغيرهم […] فمعنى قولنا: لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله وحده، ومعنى قولنا: محمد رسول الله، جميع الأنبياء مُرسلون من عند الله لتعليم البشر الآداب التي يلزمهم أن يعاملوا بها الله، عَزَّ وجَلَّ، ويعاملوا بها مخلوقاته كلها، وكل الكتب السماوية ممْلوءة بهذا المعنى، لا فرق بين التّوراة والإنْجيل والزّبور والفُرقان، ولا بين غيرها. والعرب والعَجم، إسرائيلهم وغيرهم، كلهم بشرٌ، أبناء أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدة، وهما: سيدنا آدم، وأمّنا حواء، عليهما السلام […]. فَفيمَ الخلافُ وعَلَامَ الشِّقاقُ”.

المركب: كأنه “كلية إسلامية”

عُين الرهوني رئيسا لوفد الحجاج ” ليقوم بوعْظهم وإرشادهم وتعليمهم ما تتأكَّد عليهم معرفته من أمور دينهم، وآداب معاملتهم، وتصحيح نياتهم في شريف وجهتهم”. وأدمج الرهوني في رحلته صفحات طويلة عن “مناسك الحج والعمرة” تعكس معرفته الجيدة به،  ولم يكن الرهوني وحده من العلماء، وإنما اشتمل  المركب على “عدد من العلماء والشرفاء وأفاضل أهل الإسلام”، ومن بينهم علماء من منطقة الريف،  ذكر منهم صاحب الرحلة: العربي الورياشي قاضي بني سعيد، والفقيه محمد بن حمُّو الشّكري، قاضي قبيلة مزوجة القلعية، والفقيه العلامة أحمد بوعلال التوزاني، قاضي قبيلة أيت عبد الله الورياغلية، والفقيه العلامة الشريف سيدي عبد الله التُّجكاني الغُماري، “وهو رجل عالم حافظ فصيح قادر على التبليغ بالعربية والشَّلْحَة”.

وبما أنه “يتعيّن على كل من كان يعْلم شيئاً من أحْكام الحَجّ أن “يعلِّمه إخوانه بلسانهم الذي يفهمونه حتى يكونوا على بصيرة من أمرِ دينهم”، فقد طلب الفقيه الرهوني من علماء المركب أن يلقوا دروسا دينية على الحجاج خاصة تلك المرتبطة بمناسك الحج، “وأن تكون قراءتهم باللغتين العربية والشلحة الريفية البربرية حتى لا تفوتهم شاذة ولا فاذة من أمرِ ما هُمْ قاصدون إليه”، والتزم نفسه بقراءة مناسك (مختصر خليل) مع مناسك (المرشد المعين)، “بعبارات عامية يفهمُها حتى العجائز، وذلك بين العشاءين»، فصار مسجد الباخرة ” كأنه كُلية علْمية معْمورة بالصلوات والأحزاب والأذكار والدروس العلمية، آناء الليل وأطراف النهار”. كما كانت “تُقام الدروس الفقهية والحديثية والصوفية ليلا ونهارا كأن المركب كلية إسلامية”.

وهكذا يقدم لنا صاحب الرحلة الحجاج على متن الباخرة باعتبارهم متنوعين في اللسان لكن يجمعهم الإيمان بالدين الإسلامي، وأن الحماية الإسبانية  مجال لا تفرق المغاربة على أساس الانتماءات العرقية أو اللغوية  عكس الحماية الفرنسية التي برعت في التخطيط للتفرقة بين المغاربة على تلك الأسس: ” وكنا في الكعبة كعبة القُصّاد من جميع الأجناس الإسلامية، يسألوننا عن حال سفرنا، وما كنا عليه من اجتماع الكلمة على دين الحق، والقيام بقواعد الدين الإسلامي، والإيمان والإحسان، فنجيبهم بالواقع، فيتعجّبون … سيما إخواننا أهل المنطقة الأخرى والجزائريين والتونسيين والسودانيين الذين كانوا عند ما يسمعون بأحوالنا وما نحن عليه من المتعة  الدِّينِيَّة والدنيوية، …، يتأوّهُون آهة المفؤود وخصوصاً حيث يرون الامتزاج العربي منا بالبربري امتزاج اتحاد وإخاء، كما يرى في هذا الموقف المهيب العجيب، حيث يرون اتحادنا في الدين والوطن، حيث يسمعون أن في بربرنا علماء أجلة، كهؤلاء الحاضرين، يلقون دروساً على إخوانهم المسلمين بالعربية أولا وبالبربرية ثانيا، في التوحيد وفي الفقه والحديث والتصوف، وغير ذلك، حيث يسمعون أن الذين يتلقون أحزاب القرآن الكريم مؤلفون من عرب وبربر، متساويين في العدد، وربما فاق عددهم عددنا، مما يدل دلالة قاطعة على أن لا جود في بربرنا لغير الدين الإسلامي أصلاً، وعلى أن عنايتهم بالديانة الإسلامية توازي عناية العرب بل ربما فاقتها”. 

وبهذا الصدد فإننا نجاري ما خلص إليه إريك كادروود حينما رأى في “إصرار الرهوني على الوحدة الدينية للمغاربة العرب والبربر صدى سياسي في مغرب سنوات الثلاثينات من القرن العشرين. فخلال تلك الفترة كانت الحماية الفرنسية تتعرض لانتقادات لاذعة على جهودها لتقسيم المغاربة من خلال اللعب على العامل العرقي وإقامة نظامين قانونيين مختلفين للعرب والبربر. وقد قامت الحماية الإسبانية في عهد فرنكو باستغلال تلك التوترات في المنطقة الفرنسية من خلال تقديم نفسها على أنها مدافعة عن هوية مغربية موحدة تحت لواء الإسلام. ولذلك فإن مدح الرهوني للوحدة العربية-البربرية تتضمن تأنيبا ضمنيا للحماية الفرنسية، وتمثل إشارة ضمنية لدعم السياسات الكولونيالية الإسبانية”.

خلاصة القول، إن رحلة أحمد الرهوني أتت في ظرفية سياسية خاصة كانت تمر منها الدولة الإسبانية الفارضة حمايتها على المنطقة الخليفية من المغرب، وعاصمتها تطوان، وكان غرض الجنرال فرانكو من تنظيم تلك الرحلة الحجية، وإسناد رئاستها إلى أحد أشهر علماء المدينة، هو كسب الرأي العام المغربي، وتلميع صورته أمام المسلمين قاطبة، وتأليبهم ضد خصومه الاشتراكيين، وهو يخوض حربا أهلية طاحنة ضدهم بإسبانيا. وقد انعكست هذه الخلفية في نصوص الرحلة التي يقدم لنا الفقيه الرهوني فيها الجنرال فرانكو بصفته مدافعا عن الإسلام وعن الإرث الثقافي الأندلسي وعن “الأخوية المغربية الإسبانية”.

***

لقد قضى مؤلف “الرحلة الحجازية” السنوات الأخيرة من عمره منبوذا من أصحاب السلطة والجاه، مبعدا عن الوظائف العلمية، منزويا في بستانه خارج تطوان، بعيدا عن الخلق، منقطعا لعبادة ربه. ولا نعرف أسباب جفاء المخزن تجاه الرهوني وزوال حظوته عند سلطات الحماية الإسبانية. لقد كتب محمد داود في ترجمته للفقيه الرهوني قائلا: «كنت أتمنى أن لو عاش الفقيه طول حياته في ظل دولة وطنية مستقلة، تبسط عليه من النعم ما يكفيه للضروريات والكماليات، لتستثمر مواهبه العلمية والأدبية والسياسية في سبيل مصلحة الدولة، ولكن هذه الأمنية بكل أسف لم تتحقق، ورأينا الفقيه مدة إقامته بطنجة يتصل به الفرنسيون ويستخدمونه، فيقدم لهم خدمات جلى لا يعرفها من الناس إلا المقربون، ثم لما رجع إلى بلده تطوان، استخدمه الإسبانيون، وكانوا معه كالجو، صحوا حينا وأمطار وزوابع أحيانا. نعم إن الفقيه قد وضع قوانين ونظامات، ومهد السبيل لمشاريع وإصلاحات، وقدم للحكومتين خدمات قابلها المستعمرون بما لا يخرج عن عاداتهم».

وبصفة عامة يمكن القول إن الفقيه الرهوني كان يشيد بالدولة الإسبانية الحامية ويبرز محاسنها ويمجّدها ويجاملها في كتاباته ومواقفه، ويبدو هذا الموقف التمجيدي بالدولة الإسبانية الفرنكوية ومغازلة رجالاتها واضحا في معظم صفحات “الرحلة الحجازية”، موضوع هذا الكتاب، حيث جسّد الفقيه الرهوني شخصية الموظف المخزني المتماهي بعمق مع الحماية الإسبانية بالمغرب، صونا لمنصبه في الحكومة الخليفية.

والواقع أن الفقيه الرهوني لم يكن يختلف في هذا يختلف عن كثير من العلماء المغاربة الذين بهرتهم سياسة الدولة الاستعمارية، وأشادوا بالحماية ومجّدوها، سواء بالمنطقة الخليفية أو بالمنطقة السلطانية، ونذكر منهم على سبيل المثال كل من محمد بن الحسن الحجوي وابن المواز وابن الأعرج السليماني وغيرهم. كما لا يختلف عن عدد من الرحالة المغاربة الذين دونوا رحلاتهم الحجية زمن الحماية الفرنسية، وعمدوا إلى تلميع صورة الدولة الحامية، أمثال أحمد الصبيحي السلاوي.

صورة الفقيه الرهوني في الوسط، وعلى يساره كل من محمد أفيلال وادريس الريفي، وعلى يمينه عبد السلام بنونة.

مركب الحجاج المغاربة [الباخرة – المغرب الأقصى]

[الصدر الأعظم وبرفقته رئيس وفد الحجاج يضع وسام المهدوي على صدر رئيس الباخرة]

 [الحجاج في قصر المعتمد بن عباد بإشبيلية – مارس 1937]


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.