نظامنا الاجتماعي والثقافي الراهن ليس سوى الاستهلاك؛ وكل من يحيا اليوم لم تعد غايته من الحياة سوى التطلع إلى تحقيق فرط الاستهلاك؛ ما أدى إلى القطيعة مع جوهر فكرة العمل كآلية للترقي الاجتماعي. الاستهلاك صار أشد تعقيدا من سلوك البشر نفسه؛ من استهلاك السلع إلى الرسائل والرموز والإشارات والصور؛ تحت شعار مجتمع الرفاه، وإذا سقطت طبقات وتهاوت مجتمعات على الدولة أن تدعم النهوض حتى صار الدعم وكأنه عمل الدولة الوحيد؛ وهنا المفارقة؛ إذ مع تزايد مطالبة الدولة- أية دولة بمزيد من الدعم؛ فإننا بذلك نرسخ سلطتها ورقابتها على كل شيء في حياتنا.
احتياجنا اللامحدود للاستهلاك هو ما يجعلنا عبيدا؛ وهو أيضا ما يبعدنا عن فكرة الأصالة من خلال نسج العلاقات العابرة مع السلع: سرعة الامتلاك والتخلي/ تفضيل الفخامة والأناقة/ الربط الرقمي.. لنأخذ كمثال الهاتف الجوال؛ لم نعد نسعى إليه بأوجه منافعه؛ بل الأهم أن نلهث وراء آخر الماركات الفاخرة بما تعنيه من تبرجز. معيار التفاضل بيننا هو حجم الاستهلاك ليس إلا.
فرط الاستهلاك باحتياجنا غير المحدود لامتلاك كل شيء ثم الاستغناء عنه بعد ذلك هو من رسخ حضور الميديا في حياتنا حتى صار الإشهار في حد ذاته سلعة وليس مجرد آليات لتسويق السلعة. الإعلانات وشريط الأخبار الذي لا يتوقف، هما في الحقيقة شيئا واحدا؛ بحيث حولا معا حياتنا إلى صور طغت على كل مظاهر الإبداع التي ألفناها فيما سبق؛ حتى تتناسب ومظاهر الزيف والتصنع: سمتا الواقعية المفرطة hyper reality. نشاهد الأخبار ثم ننسى ما يقع في العالم من دمار وحروب، لنجد أنفسنا نشاهد إعلانات تتوسط الأخبار؛ حتى فقدنا التمييز بيهما. ومن ثم لم يعد الإعلام سوى ثقب أسود يمتص الوقائع ليفقدها معناها؛ بعبارة وجيزة: ليست مهمة الاخبار نقل الحدث بل التعمية والتغطية عليه؛ وهنا تتبدى النزعة الاستهلاكية المفرطة للمجتمعات المعاصرة بوصفها الخلاصة العامة لعقلانية النظام.
الاستهلاك الذي لا يعني سوى الاستعراض بدون محكيات ولا سرديات هو جوهر الحياة المعاصرة؛ فالتصوير ومنتجة الصور Montage وتحسينها Traitement d’image ثم طرق إسقاطها Projection وابتكار حوامل لها Support هو الأهم؛ بحيث صار الجميع يحقق المرور من وإلى الصور وهم واعون تماما بأنهم محل تصوير، ما يمنعهم من أين يكونوا طبيعيين وواقعيين. يشير إيف ميشو Yves Michaux إلى حقيقة بليغة مفادها بأنه « في سنة 2001 التقطت 86 مليار صورة كان أغلبها ورقيا، وفي سنة 2012 التقطت 850 مليار صورة أغلبها ظل رقميا ولم يتحول أبدا إلى ورق، بل وضع في الشبكة وأرسل إلى الأصدقاء».. هل تأثير الصور هو ذاته بين الورقي والافتراضي ؟.. بالتأكيد لا، لأنه في الحالة الثانية التي تخلت فيها الصور عن الألبوم المادي لتستوطن الشاشات صارت تعطي انطباعا عن واقع عابر ومعالج، مؤول ومزيف وليس كما كان عليه في السابق مع التصوير الزيتي والفوتوغرافيا التناظرية. ألم يقضي الفوتوشوب على نقطة المدى Punctum؟
أين هو الواقع إذن ؟.. أليس هكذا يتساءل أكثرنا تحررا أو تزمتا، ولكن ما هو هذا الواقع الذي نعتقد بأننا نراه؟ وكيف نبصر شيئا واقعيا بالعين المجردة ؟ .. ليس الواقع علميا إذا كنا نحصره فيما نراه ونلمسه أو نتذوقه سوى إشارات كهربائية يجسدها ويتمثلها الدماغ البشري. ومن ثم، فما كنا نسميه ب: الواقع ليس سوى وهم في مقابل الفراغ الذي هو الحقيقة. إذن:
ليس الواقع هو ما يخفي الفراغ؛ ولكن عدم تقبل فكرة الفراغ هو ما ظل لقرون يحجب عنا حقيقة عدم وجود واقع بالمرة.
لو استوعبنا هذه الحقيقة، فسنفهم ببساطة كيف ولماذا تعاني كل أشكال التمثيل السياسي والفني والأدبي في مجتمعاتنا الناطقة بالعربية من الاحتضار والتهاوي؛ ولماذا لم تعد قادرة على الصمود من دون دعم عمومي؛ حيث تقف بالكاد على صعيد صلابة جد هش.
لنعبر إلى ما هو أشمل من الفن؛ وسنفهم أيضا لماذا انتهت الأصولية الدينية إلى عنف مدمر؛ والأهم سندرك لماذا شكك عبد الله العروي في إحدى محاضراته الاخيرة في إمكانية قدرة المجتمعات غير الحداثية على تصور واقع افتراضي. سندرك أيضا لماذا تنغمد فنوننا في مقابر الهامش وتقابل بالتبخيس المجتمعي والظهور الخجول على الخشبات العالمية؛ ولماذا لا تتشكل جامعاتنا غير المصنفة عالميا إلا ضمن مسار ينقلب على ذاته؛ بحيث بدأ طوباويا في القرن الماضي؛ وانتهى راهنا في العدم.
النظام الاجتماعي المعاصر الذي ننوجد فيه بالقوة لا بالفعل، يقوم على أساس التباعد لا على اللقاء الحي والمباشر بين الأفراد؛ وذلك لأنه نتاج الحتمية التقنية والتي هي بتعبير بودريار Beaudrillard .« إنتاج دائري للعزلة». فإذا كنا قد اخترنا الحياة المريحة مع التطبيقات الذكية التي سهلت كل ضرورات الحياة؛ فإننا بالمقابل نكون قد ضحينا بالحميمية وبالحياة الاجتماعية وكل ما كان في السابق معاشا بشكل حي؛ إذ ومن شاشة بالمفرد إلى شاشات بالمتعدد، لم يعد بوسعنا سوى أن ندعم شروط هذه العزلة الإجبارية. هناك شغف غير بالمسبوق بالشهرة والجماهيرية التي صارت في وسع الجميع ومتاحة لأي كان؛ ولكنها عابرة ومستوحدة ولا تتشكل إلا عن بعد وعبر الشاشات.
هل بوسعنا تغيير هذا القدر؟
كلما توسع هذا النظام الاجتماعي؛ إلا وعبر بشكل أعمق عن هذا الفقدان لكل ما هو حي- مباشر؛ بما في ذلك الفرجة التي انتهى زمنها إلى الأبد. تقطن الفرجات اليوم في متحف الأيقونات، أما ما بعد الفرجة فتنتمي إلى الإشارات؛ في حين يتوارى الجسد الحي ويأفل.
عندما دارت عجلة التقنية، بدأ العد العكسي لموت الجسد؛ وقريب سيهيل الذكاء الاصطناعي التراب على الجثث المتعفة.
مقال عميق يصف الحالة المزرية التي وصلت إليها مجتمعاتنا ،الرسم معبر أيضا بمزيد من العطاء