ذكرى عيد العرش المجيد: تجديد للبيعة وتوحيد للأمة

من فضل الله تعالى على المملكة المغربية أن جعلها تقوم على ثوابت دينية متينة، من شأنها الجمع بين مختلف مكونات مجتمعه، فأعطت بذلك صورة الكيان الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومنطلقها في هذه الثوابت الأصيلة التمسك بمؤسسة إمارة المومنين الحامية للملة والدين، حتى أصبحت من مميزات هذا البلد الأمين.

“فبوجود مؤسسة إمارة المومنين الراعية لشؤون الدين والدولة يكون بلد المغرب قد حافظ على خاصية فريدة من بين  جميع البلدان في التوفيق بين المشروعية السياسية والمشروعية الدينية”.

ومن أجل هذا كان من الآكد القيام بما هو واجب، والسعي في كل ما من شأنه خدمة ثابت إمارة المومنين من مختلف الجوانب.

 فكما أن أهل المغرب عُنُو بالثوابت الدينية على سبيل العموم، فقد كان لهم على سبيل الخصوص عناية بارزة بثابت إمارة المومنين، ولهذا نجد أن كثيرا من العلماء والمفكرين خصصوا في كتبهم مجالا واسعا لها من جميع المستويات، وأصلوا لأصولها وقواعدها من مناحي متعددة، تاريخية وفقهية وكلامية وصوفية.

فلا غرابة أن نجد هذا الثابت حاضرا في جل المناحي والمستويات والعلوم، وعلى رأسها بقية الثوابت الدينية، ففي ثابت العقيدة الأشعرية نجد أن موضوع الإمامة العظمى كان ضمن تهممات واهتمامات العلماء في سياقات مختلفة منهجا واستدلالا، وقد كان للحافظ أبي عمرو الداني مقرئ الأندلس في منبهته كلام حول ذلك تلقاه العلماء في زمانه ومن بعده بالتوضيح والبيان والمناقشة.

وفي ثابت المذهب المالكي نجد حضور موضوع الإمامة العظمى لدى جلة من فقهاء المالكية، وعلى رأسهم الإمام القاضي عياض في شرحه على صحيح مسلم، والإمام ابن بطال  في شرحه على صحيح البخاري، وإن آثار هؤلاء الفقهاء الأعلام وإسهاماتهم في خدمة إمارة المومنين هي من الكثرة بمكان، وجدير بالباحثين أن ينقبوا عنها في كتب المغاربة،  خلال القرون الماضية؛ لربط الحاضر بالماضي، والتأكيد على الخصوصية المغربية.

أما عن ثابت التصوف السني فلا يمكن أن يغفل ما للتربية الصوفية المغربية من أدوار في خدمة هذا الثابت الجليل، وقد نبه الأستاذ المحقق أحمد التوفيق في مقال له ضمن معلمة المغرب على أدوار الزوايا المختلفة.

ومما أسعدني أن جعل الله تعالى لي شرف خدمة إمارة المومنين، فاشتغلت على مجموعة من الأبحاث مساهمة في خدمة هذا الثابت، ومنها: 

1- كتاب “المدارس العلمية العتيقة بإقليم حوز مراكش وأثرها في ترسيخ الثوابت الدينية والوطنية”، بتقديم العلامة محمد فاضل رئيس المجلس العلمي الجهوي لجهة مراكش أسفي، طبع سنة 2023م.

وقد احتفي بهذا الكتاب وخصصت له قراءات، بمجموعة من المدارس العتيقة؛ كالمدرسة العتيقة بأوريكة، ومدرسة الفقيه محمد الحبيب البوشواري بأيت باها….

2- كتاب “الثوابت الدينية وما جرى به العمل دراسة نظرية ونماذج تطبيقية”، بتقديم العلامة الدكتور سعيد شبار الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى، طبع سنة 2023م، ضمن استكتاب بالمجلة الفكرية للتكامل المعرفي باعتباري رئيس التحرير فيها، وقد شرفت بالإشرف على هذا العمل وتنسيقه لمدة تقارب سنة من الزمان، ولي فيه أيضا بعد التصدير مشاركة فيما جرى به العمل.

3- كتاب “إمارة المومنين بالمغرب: التأصيل والخصوصية والأثر”، بتقديم العلامة محمد فاضل رئيس المجلس العلمي لجهة مراكش أسفي، طبع سنة 2023م، وقد قمت بتنسيق الكتاب والإشراف عليه، وقدمت له بتصدير في 12 صفحة.

وقد خَصَّصت هذا الكتاب بمناسبة الذكرى 24 لعيد العرش العلوي المجيد، وكتب الله الاحتفاء به ضمن يوم دراسي في الذكرى 25 لعيد العرش العلوي المجيد من طرف المجلس العلمي المحلي لإقليم الصويرة، شاكرا لرئيسه العلامة سيدي محمد منكيط حرصه الحثيث على ترسيخ وخدمة الثوابت الدينية والوطنية، وقد قدم يوم الاحتفال به كلمة جامعة مانعة، نوه فيها بمنجزات مولانا أمير المومنين محمد السادس نصره الله.

4- “موسوعة الثوابت الدينية للمملكة المغربية الشريفة” لسنة 2024م، وقد شرفت بالإشراف عليها والتنسيق بمعية الدكتور علي عبيد مدير المجلة الفكرية للتكامل المعرفي بالرباط، وهذا من أعظم الأعمال التي قدمناها لخدمة ثوابتنا الدينية وخصوصية المملكة المغربية، ولهذا اعتبرته حدثا تاريخيا بامتياز.

أما في جانب المقالات المحكمة، فلي منها: 

-مشاركة بعنوان: “إمارة المومنين في المخطوطات والوثائق المحفوظة بالخزائن المغربية: قضايا ونماذج”، ضمن الندوة الوطنية بالمجلس العلمي المحلي لمراكش، وهي بعنوان: “التأصيل العلمي لإمارة المومنين بالغرب الإسلامي”  بمناسبة الذكرى 25 لعيد العرش المجيد، وقد عالجت أبحاث الندوة جوانب مختلفة ومهمة حول إمارة المومنين، بما في ذلك بيعة أهل الصحراء المغربية لسلاطين وملوك الدولة العلوية، إلى جانب بيعة مريدي وشيوخ الزوايا لأمراء المومنين.

-ومشاركة بعنوان: ” مكانة العلماء عند ملوك الدولة العلوية: السلطان المولى الحسن الأول والكاتب الوزير علي المسفيوي نموذجا” ضمن موسوعة الثوابت الدينية للمملكة المغربية الشريفة، 2024م.

وحيث إن مفهوم إمارة المومنين يستمد مصدريته عن التراث السياسي الإسلامي، فقد كانت لها انعكاسات كبيرة جعلتها تتبوأ مكانا واسعا لسلطة الخلافة أو الإمارة، ولهذا نجد مفهوم إمارة المومنين أو البيعة حاضرا بقوة في الوثيقة الدستورية، وقبل ذلك فإن أمير المومنين نائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وظائفه كلها.

وقد قيل قديما:

لا يَصلح الناس فوضى لا سراة لهم         ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ومما يجدر الوقوف معه ما حظيت به إمارة المومنين ضمن التراث المخطوط والوثائق المحفوظة بالخزائن المغربية، وعلى رأسها الخزانة الحسنية بالقصر الملكي بالرباط.

والناظر في مناهج العلماء والمؤرخين بالمملكة المغربية يلمس تعدد مقاصدهم في التصنيف في هذا الموضوع، فمنهم من رام الوقوف على تراجم الملوك والسلاطين وبيان مآثرهم الفعلية، ومنهم من نظم قصائد في الثناء عليهم وبيان مناقبهم ومفاخرهم..

كما أن هذه المؤلفات أرخت لكثير من الإنجازات العظيمة في خدمة العلوم الشرعية خصوصا والعلوم الإنسانية عموما، وعلى رأسها القرآن الكريم وعلومه والحديث الشريف وعلومه، ثم الفقه وأصوله، والسيرة النبوية، والتصوف وعلم الكلام، واللغة والأدب والتفسير، والتراجم والتاريخ والطب والسياسة، وغير ذلك.

ومن هذه الوثائق المحفوظة بخزائن المخطوطات ما يحتوي على ظهائر وتحبيسات، ومنها ما أرخ للبيعات؛ إذ هذا الموضوع الأخير شكل جوهرا مهما ونفيسا عند أهل المغرب لكونه منطلقا أساسا للحفاظ على إمارة المومنين الحامية للملة والدين.

ولا ننسى أن ننبه على ما لإمارة المومنين في حفظ نفيس المخطوطات في شتى العلوم والفنون، ولهذا نجد أن كثيرا من مخطوطات القرويين بفاس والخزانة الحسنية والعامة بالرباط، وخزانة ابن يوسف بمراكش، تضمنت تحبيسات الأمراء والسلاطين الذين تعاقبوا على الحكم بالمغرب، وهذا ما يؤكد ويدل على الإشعاع الثقافي والعلمي الممتد عبر قرون طويلة إلى زماننا.

حفظ الله مولانا أمير المومنين، وحامي حمى الملة والدين، جلالة الملك محمد السادس وأدام عزه ونصره، وأدامه لهذا الوطن منارا عاليا وسراجا هاديا، وأبقاه ذخرا وملاذا لهذه الأمة، وأقر عين جلالته بولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير الجليل المولى الحسن، وشد عضده بصنوه السعيد مولاي رشيد، وفي كافة أسرته الملكية الشريفة، إنه سميع مجيب.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.