أولى خيوط الفجر بدأت ترسل ضوءها إلى الغرفة، أطلقت الشحرورة لحنها الصباحي الجميل .لم تدر أنت كيف قدفك الفراش جانبا لتجر الخطى صوب صنبور الماء،نظرت الى وجهك عبر مرآة مكسورة .ملامحك ليست على مايرام ،قد تكون بقايا حلم مخيف مازالت تضطرب بداخلك. أضغاث أحلام وكوابيس لم تتمكن من تذكرها.تلاحقك أفكار سلبية سوداء ظلت عالقة بالذهن .حاولت طردها دون جدوى. غادرت الحمام إلى المطبخ فاصطدمت عيناك بضوء الصباح الغامر.
رشفت من فنجان قهوة هيأته يداك على التو ….تجاهلت كوابيس الليل فقفزت الى ذهنك كوابيس النهار .
منبه الساعة الحائطية يعلن السابعة . شرعت أصابعك في عقد أزرار قميصك في ارتباك و شد دت عنقك بربطة ستخنقك طول النهار. أقحمت قدميك في حذاء عفا جلده حتى كاد ت تندفع منه أصابع القدمين.تلحفت معطفك الأسود القديم وغادرت البيت في اتجاه المصلحة،حيث ينتظرك مكتب خشبي مهترئ قديم و كرسي متهالك يكاد يلقي بك أرضا، سوف تختفي بين أكوام من الورق وجدران نتنة أفقدتها الرطوبة طلاءها فتحولت إلى رسوم و خرائط خططتها الطفيليات وخيوط العنكبوت .ملفات تنتظر لتدققها عيناك المنهكتان من خلف زجاج سميك لنظارة فقدت أحد درعيها وثبتت بلصاق بارز بعد ان انشق جسرها من الوسط. مؤشر الساعة يتجه بإصرار صوب الثامنة .
لم تدر متى وجدت نفسك في الشارع بين الحشود. تحث السير بخطى غير عابئة. درعت الشارع طولا ،ولم تعرج يمينا كعادتك لتأخذ طريقك الى مقر العمل ،حيث مكتبك الحقير ذي الطاولة المهترئة والكرسي المتداعي، ورئيسك المستفز برأسه الأصلع وعينينه البارزتين.واصلت السير طولا لاتلوي على شيء حتى بلغ بك الشارع منتهاه….خف ازدحام العابرين قلت الحشود ،وصار المحج أخضر فسيحا . لم تدر أي قدر قادك هذه الصبيحة إلى الشاطئ ليستقبلك البحر بزرقته الممتدة ، تداعب نسماته وجنتيك فتملئ رئتاك بهبات من ريح المحيط. وهاأنت تهوي بجسمك المنهك يقابلك المدى في زرقته فسيحا ممتدا.
ريح غربية مفعمة بنسيم البحر ، موسيقى هادئة ،أشعة خريفية تخترق الواجهة الزجاجية فتكسو المكان برداء فضي غامق .رواد المقهى كأطياف بلا ألوان. همهمات هنا وهناك، تتخللها قسمات عود شجية مصحوبة برائحة المحيط . وعبر الواجهة يتمدد اليم بساطا ازرق أو زمرديا إلى أن يعانق الفضاء .منارة المسجد تناطح السحاب كعملاق يحرس المدينة و البحر غطاء كاسح يمتص لون السماء ،امتدت حافته الصخرية كقوس عملاق ممدد بلا نهاية. ران على المكان هدوء جميل ،لايقطعه غير حفيف عجلات تجوب الشارع، و أنغام لحن شجي تصاحبه طقطقة شاردة لكؤوس وملاعق ترتب خلف الكونطوار، و عصارة القهوة ذات الصرير المبحوح.
الساعة الحائطية المعلقة تشير الى الثامنة ….الثامنة بالتمام والكمال كان المؤشر يزحف كمايزحف مؤشر الساعة المعلقة قبالة مكتبك الآن ، مكتبك الفارغ هذه اللحظة ينوء تحت أكوام ملفات تنتظر ،ورئيسك الرابض على مدخل المصلحة بعينين تدوران في محجريهما كثور غاضب، لعلك تظهر على البوابة ليكيل لك من الشتائم مالاتطيق .و أنت القابع هاهنا في ركن كتمثال أزلي من حجر تفتر شفتاك عن بسمة ساخرة… الذاكرة تيار جارف ، تضطرب له المشاهد ،تتشابك الصور وتطفو الوجوه…..هاهي ذي صورته تقفز الى ذهنك من جديد ، كلما حاولت طردها وثبت إلى مخيلتك كقرد عنيد ….تراه ، تسمع كلماته ، تعليماته الصارمة كل يوم…وكلما رن هاتف مكتبك ورفعت السماعة ، تنطلق كلماته حادة في اندفاع كي يسأل عن كل شيء . ملفات ، سجلات ومنسوخات، محررات وتقارير، وصورته تحتل الحيز كله، رأس أصلع، عينان بارزتان تكادان تنزلقان من محجريهما ،شارب كث بني يرتاح فوقه أنف عريض. شديد المراس ، متقلب المزاج ، متوتر الكلمات ، فمه أسمر مدور دقيق كفتحة رشاش . يعتقد الناظر إليه أنه بلا اسنا ن ولا شفتين.
استهواك مشهد البحر فتركت المكان .قصدت الشاطئ فوطأت قدماك رمله الناعم .نزعت حداءك المتآكل وربطة العنق الخانقة كمن يتخلص من يد شرسة تأخذ بتلابيبه بلا شفقة . ألقيت بمعطفك الأسود الرث وسارت بك الخطى حافي القدمين على رمل ندي غمرتك برودته وسرت انتعاشته لتغمر جسمك من الرأس حتى أخمص القدمين. وخلفك هناك على الرمل معطف رث وحداء متلاش وربطة عنق كأنها أنقاض، أو بقايا كائن تداعى بعد أن خارت قواه وأنهكته السنون . سوف تحس برودة البحر تداعب قدميك الحافيتين وتنعم عيناك بالنوارس تطفو يهدهدها الموج في خيلاء….. وليرتح الشيطان الراقد تحت لسان رئيسك هذا اليوم.