حكاية شهر “رمضان المبارك” بتطوان في الزمن الجميل - بريس تطوان - أخبار تطوان

حكاية شهر “رمضان المبارك” بتطوان في الزمن الجميل

بريس تطوان

بالرجوع بضع سنوات إلى الوراء، لنجوب دروب وحارات مدينة الحمامة البيضاء، قبل ظهور شارع الجيش الملكي، وعمارات الزواق والزجاج، وحجرات السكن الاقتصادي، أي قبل تدمير المنازل والحارة التطوانية الأصيلة، كان قدوم شهر رمضان، يشكل حدثا رمزيا واحتفاليا بامتياز، يفرح بمقدمه الكبار والصغار والشيوخ والعجائز.

وهكذا بمجرد الإعلان عن ظهور هلال شهر رمضان، تُشعل بعض مآذن مساجد تطوان مصابيحها وخاصة صومعة مسجد “الجامع الكبير”، التي كان نورها  يشاهده الناس من كل نواحي المدينة من فوق أسطح منازلهم، وحتى من الضواحي البعيدة مثل مرتفعات  “كيتان” وجبل “بوعنان “.

 

وتنطلق بعدها  أصوات عذبة تناجي الروح والوجدان، وكان الأطفال حين سماعهم أصداء نغمات آلة الغيطة قادمة من صوامع المساجد، حتى يخرجون في جماعات يصيحون بأصوات مرتفعة وهم في غاية الإنشراح والسرور، يجوبون مختلف أزقة ودروب الحارة مرددين  ” شنو غدا رمضان، شني نشربو لحريرة”.

إن هذا الشعار الطفولي العفوي الذي كان يتم ترديده في أول ليلة من ليالي شهر رمضان،دليل على أن المخيال الشعبي والمجتمعي كان يربط بين متلازمة حضور الحريرة التي تتربع على عرش مائدة الافطار، وحلول  شهر الصيام.

 

 منازل تطوان ورمضان

كانت أجواء رمضان بمدينة تطوان العامرة  مفعمة بالمشاعر الوجدانية واللحظات الروحانية وربما ساعدت هندسة مساكن تطوان في الحارات الأصيلة مثل المدينة القديمة، وحومة “الخينيوريس” وحومة” الطوابل” و”سانية الرمل” و”الباريو” و”جامع أفيلال”…، على أن تكون طقوس وأجواء شهر رمضان تشبه الحكايات والقصص الجميلة التي ترويها الجدات لأحفادهن قبل النوم.

كانت معظم مساكن تطوان قبل أن تظهر “عقلية الكاراج”  تتوفر على حديقة أو رياض صغير عند المدخل حيث تصادفك إما شجرة رمان أو اللويزا أوشجرة فاكهة  “المزاح”  “الزعرور”، وكانت بعض المنازل تتوفر على بئر يستعمل للشرب إذا كان صالحا للشرب أو للغسيل فقط اذا كان ممزوجا ببعض الملوحة “شلوق”، وهكذا ساهم هذا الشكل الهندسي البديع، للبيوت والحارات التطوانية الأصيلة، حيث تتماوج الأشجار مع عتمة الليل البهية وضياء القمر، لتضفي لمسة ساحرة على  شهر رمضان بكل  طقوسه وعاداته الجميلة.

 

الغريب في الأمر أن النساء التطوانيات قبل أن ينتشر مرض “الوهن” المعروف بالدارجة “العكز” ، لم يكن يشتكين أو يتذمرن من كثرة الأعباء المنزلية  فكن يعددن الحريرة الطازجة الفواحة كل يوم، دون كلل أو ملل، فلم تكن هناك ظاهرة تخزين الحريرة في الثلاجة لمدة طويلة، فالثقافة السائدة آنذاك  هي أن الحريرة يجب أن تشرب طرية في ذلك اليوم، و يجب كذلك التصدق بها ابتغاء مرضاة الله .

نار هادئة

نساء تطوان كن يدخلن إلى المطبخ بعد صلاة الظهر بقليل ،حيث يقمن بمساعدة البنت الكبرى أو الجدة ،بتقشير الحمص أولا، وتقطيع الطماطم والكرافس والقزبر والمعدنوس الطازج من أجل طحن كل المكونات يدويا ، بواسطة طاحونة بلاستيكية لها دواليب حديدية، حيث لم يكن في ذلك  الزمن قد ظهر الخلاط الكهربائي الشهير ب”مولينينكس” ،والذي ربما يعتبر أحد عوامل فقدان الحريرة التطوانية لمذاقها الأصيل، إضافة الى عوامل أخرى مثل اندثار الطماطم والكرافس والسمن البلدي و”الحنوط” البهارات، التي كانت عضوية وطبيعية في ذلك الزمن، قبل ظهور المواد الكيماوية ،واستفحال ظاهرة الغش في جميع المنتجات فيما بعد .

بعد الانتهاء من إعداد مكونات الحريرة  في اناء كبير يسمى “القدرة د الحريرة”  أو “البرمة” يتم تركها تنضج على نار جد هادئة وهناك من النسوة “الحادكات”من كن يطبخن الحريرة على نار الفحم وهنا يجب أن نشير أن الحريرة لم تكن أبدا  تطهى في طنجرة الضغط “كوكوت مينوط ” كما سيظهر لا حقا في زمن السرعة  .

بعد ذاك تنتقل المرأة التطوانية  لعجن خبر رمضان  والذي يكون مميزا بعض الشي عن خبز الأيام العادية ،حيث تضاف اليه بذور “حبة حلاوة ” و”الزنجلان” و دهنه أحيانا بقليل من البيض للزينة ، ويتم إرساله مباشرة  إلى فرن الحومة .

و كانت المرأة التطوانية تقوم أيضا بعجن “الرغايف” وخبر المقلة  “الفطيرة” والتي يتم تناولها في وجبة السحور وفي نفس الوقت تعد  طبق العشاء والذي غالبا يكون “طاجين” السمك .

وهكذا كانت نساء تطوان يمكثن رفقة بناتهن أو أمهاتهن أو خالاتهن وجاراتهن  في المطبخ مدة طويلة حيث كان المطبخ بمثابة فضاء للتلاقي وتبادل أطراف الحديث يعددن  فيه  بكل حب وحنان، وجبات مائدة الإفطار والتي كانت الحريرة هي سيدة المائدة.

الرائحة الطيبة

في الزمن الجميل كان الأطفال الصغار والكبار وجموع المارة يشمون رائحة الحريرة المنبعثة من نوافذ مطابخ المنازل التطوانية  بعد صلاة العصر حيث تزكم أنوفهم رائحة الكرافس الفواحة والسمن البلدي ورائحة البهارات الأخرى من مسافات بعيدة ، وكانت هذه الرائحة الطيبة  في الزمن الجميل نفاذة جدا، حيث يمكن شمها على بعد مئات من الأمتار،وهو  مؤشر على أن العد التنازلي ليوم الصيام  قد بدأ ،وموعد دوي مدفع الافطار  يقترب رويدا رويدا .

وقبل أذان المغرب بحوالي ساعة كانت تسري حركة غريبة في الحارات التطوانية حيث كل ربة بيت كانت ترسل طبقا مغطى إلى جارة معينة وكانت الجارة تعيد الطبق إلى صاحبته مغطى كذلك، حيث كن يتبادلن ما يصنعن في المطبخ طوال  اليوم.

كان رمضان في الزمن الجميل بسيطا ببساطة الأشياء والناس وفضاء الحارة، وكان الناس يتبادلون  ويتقاسمون الأطعمة بين بعضهم البعض بكل أريحية قبل أن تتعقد العلاقات الإجتماعية وتستوطن روح الفردانية، وتحدث شروخ  وأعطاب حتى داخل الأسرة الواحدة  لأسباب لا يتسع المقام لشرحها في هذا المقال.

أما مائدة الإفطار فكانت بدورها بسيطة جدا وصحية تحتوي على الحريرة الطرية والتمر والشباكية وبقلاوة والبيض البلدي المسلوق، والتين المجفف، وفي وقت الصيف يحضر أيضا التين الطري  “الغودان، والباكور” الذي تم قطفه  في يومه، والقادم على ظهور الحمير والبغال  من أشجار  قرى “بني معدان “و”كيتان” و”بوعنان” .

صوت المدفع

قبل رفع أذان المغرب بقليل يتحلق جميع أفراد العائلة على “الطيفور” الواحد وبمجرد سماع دوي صوت المدفع تشرع الأم أو الجدة أو الخالة أو الأخت الكبرى بغرف الحريرة من “القدرة” وتوزيعها على أفراد العائلة المجتمعين في لمة أسرية يطبعها الحب والوئام.

بعد الانتهاء من الأكل يخرج الأب الى المسجد لتأدية صلاة العشاء والأبناء إلى الحارة للعب مع أقرانهم في حين تقوم النساء بإعداد الشاي لاستقبال بعض الجارات وبعض القريبات ليتسامرن ويتبادلن أطراف الحديث، حيث كانت أبواب المنازل غير موصدة، وتبقى مفتوحة لاستقبال الزوار من الفطور الى وقت السحور، بفضل الأمن والسكينة التي كان يجلبها معه الشهر الفضيل، فحتى عتاة المجرمين  في ذلك الزمن، كانوا لا يسرقون في شهر رمضان احتراما لقدسيته وخوفا من عواقبه.

وحين يكون الجو جميلا  وهواء الليل منعشا في بعض  ليالي رمضان، كانت النسوة  يصعدن الى أسطح المنازل التي كانت متلاصقة فيما بينها حيث يلتقين مع الجارة ذات  الجنب، من أجل السمر وتبادل أطراف الحديث، فيحكين عن تجاربهن طيلة اليوم وكيف مر يوم الصيام إضافة الى تبادل بعض أطباق “السفوف” أو “البغرير” من أجل التذوق.

وهكذا كانت تمر ليالي رمضان في الزمن الجميل في أجواء ملؤها الحب والقناعة والروابط الاجتماعية الدافئة، وكانت ربات البيوت يتنافسن على عمل الخير وتوزيع الحريرة على الجميع من ذوي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب، وابن السبيل وجميع السائلين، لأنهن كن مؤمنات بأن رمضان شهر كريم والعمل فيه أحب إلى الله من باقي الشهور.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.