بريس تطوان
في البداية قد لا يصدق البعض أن “التهريب” أو عملية نقل السلع والبضائع من سبتة نحو مدينة تطوان أو العكس، لم يكن عملا سيئا ومذموما، والدليل على ذلك أن عِلية القوم والنخبة بتطوان وبعض جنود ثكناث سبتة كانوا يمارسونه في “الزمن الجميل” دون مشاكل أو أدنى مركب نقص.
واستنادا إلى مصادر قصتنا فإن أحد أبرز قادة الحركة الوطنية في الشمال وقيادي آخر من الحركة الوطنية بالجنوب كان يعيش لاجئا بتطوان، كلاهما مارسا نقل البيض والشاي والسكر بين سبتة وتطوان على متن القطار التاريخي الذي كان يربط بين المدينتين الجارتين.
لكن للأسف الشديد في العقود الأخيرة تحول “التهريب” بين سبتة وتطوان الى ظاهرة مشينة وحاطة بالكرامة البشرية، خاصة مع تداول صور النساء “الحمالات”، يبتن في العراء ويضعن حاجاتهن البيولوجية في ثيابهن وهن مرابطات في طابور لا ينتهي، سواء في الجو الماطر شديد البرودة، أو تحت لهيب شمس شهر غشت الحارقة.
كما ساهمت مظاهر الفوضى الضاربة أطنابها بالمعبر الحدودي باب سبتة، والهجرة السرية، وظهور أطفال الشوارع، وجيوش من المتسولين والشجارات التي لا تنتهي وأعمال اللصوصية وغيرها؛ في تحول التهريب إلى عالم خطير وقاتم، يسود فيه قانون “الغاب”، الأمر الذي دفع بالرئيس”دونالد ترامب” إلى وصف معبر باب سبتة عن طريق الخطأ بأسوأ معبر حدودي في العالم معتقدا أنه معبر مكسيكي.
السؤال الذي يهم في هذا الباب هو لماذا كان التهريب في الماضي بين مدينة سبتة وتطوان هادئا خاليا من الإزدحام والفوضى وعمليات الكر والفر؟ وكيف كان التهريب في زمن القطار وحافلة “بالينسيانا” التي كانت تحمل المسافرين من داخل سبتة نحو المحطة الطرقية القديمة لمدينة تطوان ؟ ولماذا لم يكن التهريب بهذا السوء والعشوائية الذي عرفته العقود الأخيرة من الزمن؟
استنادا إلى الشهادات التاريخية التي استقيناها في الموضوع، يمكن القول أن ظاهرة “الكونطراباندو” بين سبتة وتطوان، ليست وليدة اللحظة بل ظهرت قديما، خاصة مع قدوم القطار ولم يكن العمل بالتهريب أمرا سيئا، ولم يطرح في ذلك الزمن سواء في عهد الحماية وحتى منتصف السبعينات أية مشاكل تذكر بين المدينتين الجارتين وذلك للأسباب التالية:
السبب الأول: لم تكن هناك سلع صينية رخيصة ورديئة غزت أسواق سبتة بعد، ولم تكن هناك نساء حمالات بل كان الرجال فقط هم من يزاولون التهريب بشكل عرضي وليس بصفة دائمة، حيث كانت السلع اليدوية والمنتجات الفلاحية التي تنتجها تطوان والناحية تُباع بمدينة سبتة، وبالمقابل فإن السلع التي تنتج بسبتة يتم بيعها بمدينة تطوان، وهو نظام أشبه بنظام المقايضة الفينيقي حيث يستفيد اقتصاد المدينتين من هذه التجارة البينية بشكل عادل ومُستدام.
السبب الثاني: يمكن إرجاعه إلى نظرية اقتصادية بحتة تتحدث عن” الندرة والرشادة”.
بعبارة أوضح، فالأشخاص الذين يمتهنون التهريب كانوا قلة وهذا ما حافظ على التوازن الذي سيختل بكيفية “دراماتيكية” مع نهاية السبعينات، حين زحفت أعداد كبيرة من البشر قادمين من المدن الداخلية للمغرب هاربين من الجوع و الفقر، ونزوح سكان البوادي الشمالية نحو حزام الفنيدق المضيق، حيث سيدخل التهريب إلى مرحلة الهمجية والتوغل وهذا ما أوصل المنطقة إلى نتائج كارثية بامتياز.
السمك مقابل الخبز
لإلقاء نظرة عن ظاهرة التهريب في “الزمن الجميل” استندنا إلى شهادة “با أحمد” وهو سبتاوي من أصول ريفية قدم إلى مدينة سبتة من منطقة الناظور سنة 1925، أخبرنا أنه وزملاءه كانوا في الصباح الباكر يقومون بنقل السمك الطري بواسطة سِلال مصنوعة من القصب من “البلاصا د سبتة” “السوق المركزي”، ويركبون القطار متوجهين مباشرة صوب محطة القطار بتطوان.
وعند وصولهم إلى تطوان كانوا يقصدون سوق السمك بحي” الطرانكات”حيث يجدون هناك تُجار السمك في انتظارهم، فيبيعون لهم البضاعة ويقبضون ثمنها على الفور.
بعد ذلك يقومون بغسل تلك السلال القصبية جيدا بماء “السكوندو” الذي كان متوفرا في جميع سقايات تطوان ويتركونها حتى تنشف.
وبواسطة ذلك المال الذين تحصلوا عليه من بيع السمك، كانوا يتوجهون إلى الأفرنة الشعبية التي تصنع الخبز البلدي، حيث يقتنون كميات كبيرة من الخبز ويضعونها في السلال القصبية ليعودوا أدراجهم في نفس القطار نحو سبتة لبيع الخبز بجميع أحيائها خاصة حومة “خادو”.
وهكذا وبناء على قصة “باحماد” يتبين أن أموال السمك المستورد من سبتة يتم ترويجه بتطوان عن طريق شراء الخبز البلدي وهذا ما يدفعنا إلى القول أن هذا التهريب كان مستداما وتستفيد منه المدينتين في نفس الوقت، وليس الصين الشعبية كما سيحدث بعد ذلك في زمن الفوضى.
“التليس” مقابل الزبدة
الشهادة الثانية هي لجندي سبتاوي كان يشتغل في سلاح “الريكولاريس” أي اللفيف الأجنبي الإسباني وهي تشكيلة عسكرية داخل الجيش الإسباني لا زالت موجودة إلى حدود الساعة، كان كل عناصرها مغاربة مسلمون يتم تأطيرهم من طرف ضباط إسبان.
وفي هذا الصدد يقول “با عبد السلام” إنه في فترة الحماية الإسبانية كان بعض الجنود الإسبان الذين كانوا يشتغلون بتطوان، القصر الكبير، العرائش، ويقطنون بالحامية العسكرية الكائنة بحي “خادو”، بسبتة يقومون بنقل العديد من المنتجات المغربية لبيعها بمدينة سبتة.
كنا ننقل “التليس” في أيام الشتاء والبرد والذي كان يتم غزل صوفه يدويا بمدينة القصر الكبير وكذلك أواني إعداد الشاي مثل البراد والكؤوس الملونة وأواني الفضة التي يوضع بها السكر والشاي ومرشات ماء الزهر، وأطباق الخبز المصنوعة من نبات “العزف”، ونبيعها بمدينة سبتة، في حين كنا نشتري من سبتة التبغ والزبدة الهولندية والقهوة والبسكويت، حيث كنا نبيعها بسهولة بالمغرب لأن التهريب آنذاك كان محدودا وقلة من الأشخاص من يمارسونه، كما أنه لم تكن هناك جمارك تقوم بحجز السلع.
شهادات أخرى استقيناها لأشخاص كانوا يركبون حافلة “بالينسيانا” للسفر حيث أكدوا لنا أن الحافلة كانت تنقل بعض المواد المهربة مثل الشوكولاتة والبسكويت وعلب التونة لكن لم يكن أحد يقوم بإيقافها أو حجزها سواء الجمارك المغربية أو الشرطة الاسبانية مؤكدين أن العبور نحو تطوان كان سلسا فليس هناك تفتيش ولا وجود للكلاب البوليسية أو مظاهر العسكرة، حيث كان هناك عنصران فقط من الحرس المدني يشرفان على كامل المعبر الحدودي “طاراخال”.
إن ظهور تجارة نبتة “الكيف” الملعونة مع السبعينات، ساهمت بشكل كبير في عسكرة الحدود وجعلت المرور عبر” ديوانة “باب سبتة سواء بالنسبة للتطوانيين أو السبتاويين مسألة عسيرة وخطيرة، تقول إحدى الشهادات المتوفرة لدينا.
وهكذا كانت حكاية “الكونطراباندو” بين تطوان وسبتة في الزمن الجميل، لكن ظهور الجشع و “اللهطة” لتحقيق الربح السريع، إضافة إلى أعطاب أخرى، كلها للأسى والأسف شكلت عوامل، حملت معها بذور دمار وخراب، هذه التجارة بين المدينتين إلى الأبد.