الفاجعة… والاكتئاب
كُتب لمحمد بن عبود، زوج السيدة زبيدة أفيلال الاستشهاد في باكستان في 12 دجنبر 1949 في حادثة الطائرة التي كانت تقل من بين ركابها المشاركين في المؤتمر الإسلامي الاقتصادي الدولي الأول المنعقد في كراتشي من 25 نوفمبر إلى 10 دجنبر 1949. ومن بين ضحايا هذه الحادثة الشهيد علي الحمامي من الجزائر، والشهيد الحبيب ثامر من تونس والشهيد امحمد بن عبود من المغرب، إضافة إلى جنرالين باكستانيين.
لقد حرقت جثة الحبيب ثامر الطاهرة إثر الحادثة، ودفنت جثة على الحمامي بالجزائر العاصمة يوم فاتح يناير 1950 . أما جثة الشهيد امحمد بن عبود فدفنت بطنجة في فاتح يناير 1950 بضريح سيدي بوعراقية، بعد أن منعت السلطات الإسبانية الاستعمارية دخولها إلى تطوان مسقط رأسه.
تم إبلاغ أخ الشهيد أحمد بالحادث المأساوي. واتصل هذا الأخير بالسيدة زبيدة وأبلغها بوفاة أخيه. المصطلح الدقيق الذي استخدمه باللغة العربية هو «خي محمد رحمه الله». اخترقت هذه الكلمات قلبها وتعرضت لصدمة رهيبة. لم تفقد وعيها بالكامل ولم تحافظ عليه. عندما استعادت وعيها الكامل، وجدت نفسها في غرفة في شقتها مليئة بصناديق الأدوية الفارغة التي كانت تتناولها جمعتها سيدة مصرية اسمها أم الربيع، كانت تشتغل معنا». سقط معظم شعرها في هذه الأيام. ومرت بفترة اكتئاب زادت عن الشهرين. وقالت عن تلك المعاناة: حتى ألمي كان يشعر به الجنين. وقد عانت من عواقب تلك الصدمة الرهيبة بقية حياتها.
كل شيء مرّ بسرعة مذهلة وأصبحت السيدة زبيدة أفيلال أرملة وهي في ريعان شبابها، فلم تكن يتجاوز عمرها 22 سنة، بعد استشهاد زوجها في 12 دجنبر 1949. وفي رسالة أحمد بن عبود من القاهرة إلى أخيه محمد بتطوان بتاريخ 15 دجنبر 1949 نقرأ فقرة يصف فيها الحالة الصحية للسيدة زبيدة أفيلال بعد استشهاد زوجها:
«… إن زبيدة بخير، وقد تألمت كثيرا ، ولكنها في النهاية تحملت الصدمة، ويوجد معها منذ البداية حرمي الأخوين بن جلون وابن المليح وهما يسكنان معها ويخففان من الصدمة الشيء الكثير عليها، وأنا أسكن معهم وأقوم بالواجب نحو زبيدة، ولا ينقصها أي شيء. هذا وإني أستعد للسفر في الشهر القادم إن شاء الله وستكون زبيدة معي، وقد حجزت مكانين في باخرة إنجليزية تبحر من بور سعيد حوالي منتصف شهر يناير القادم، وسأخبرك بميعاد إبحارها ووصولها إلى طنجة عندما أتأكد من المواعيد…».
وأرسلت السيدة زبيدة أفيلال رسالة من القاهرة إلى والدها الفقيه محمد أفيلال بتطوان بعد استشهاد زوجها مؤرخة في 4 يناير 1950 تشرح له فيها هول الصدمة وكيف تحملتها بالعزيمة والإيمان بقدر الله، ورد فيها:
(…) جاءتني رسالتك الأخيرة المؤرخة 21 دجنبر ، وقد وصفت لي فيها كيف نعي الخبر الأليم، وقد وصلتني رسائل قبلها من عندك ومن عند عمي عبد السلام والبشير. وقد كلفت سي أحمد بالرد عليها حيث لم تكن حالتي النفسية والصحية تسمح بذلك، والسبب معروف (…) وبقيت في البيت معي زوجتي الأستاذ أحمد ابن المليح والأستاذ عبد المجيد بن جلون، ولا زالتا. ولم أخرج من بيتي إلى يومنا هذا، وقد أظهرا الأخلاق والفضيلة والمواساة مما يجب شكرهما والاقتداء بهما وغيرهما من السيدات المصريات التي صار لنا معرفة بهم مدة إقامتنا هنا. ولا أغفل ذكرى سي أحمد واعتنائه بي وخصوصا بعد هذا المصاب العظيم. أما أنا فلا أدري كيف أصف لك كيف تلقيت ذلك النبأ الأليم، فقد انتابتني حالات عصيبة وعصيبة جدا، لولا لطف الله وسهر على صحتي لحصل ما لا يعلم عاقبته إلا الله. أما الآن فقد تحسنت صحتي تحسنا تاما بفضل الله وكنت منتظرة قدوم أحد الأهل إلي، ولكن يظهر أن أحدا منكم لم يفكر في ذلك. أنا الآن في النصف الأخير من الشهر الرابع من الحمل، وعلى أهبة السفر عن طريق البحر أنا وسي أحمد ولكن إلى الآن لم نلق باخرة كبيرة ذاهبة من هنا إلى جبل طارق أو طنجة، وأنا أفضل عن طريقهما أحسن من طريق مارسيليا، لأن مدة السفر أقصر …».
وبعث أحمد بن عبود برسالة من القاهرة إلى الفقيه محمد أفيلال بتطوان بتاريخ 5 يناير 1950 يتحدث فيها عن الحالة الصحية للسيدة زبيدة أفيلال بعد استشهاد زوجها:
«(…) لقد كانت الصدمة شديدة علي وعلى زبيدة وقد علمت بالخبر المشؤوم ليلة 12 من الشهر الماضي فاجتمعت بالإخوان في مكتب المغرب العربي، كان هناك سمو الأمير عبد الكريم، وقد بكينا بكاء مرا (….) ومكثنا نستمع إلى الأخبار حتى ساعة متأخرة من الليل، وقد تعمدت الرجوع إلى البيت متأخرا حتى أجد زبيدة نائمة وحتى أفكر في كيفية إخبارها بالحادث المؤلم (…) و في الصباح حاولت إخفاء الخبر، ولكن علامات الحزن كانت على وجهي. أخذت زبيدة إلى جانب وقلت لها إنك شجاعة، قبل أن أخبرها بكلمة أخرى كانت قد فهمت وبدأت تبكي بكاء حارا، وقد كانت حالتي وحالتها سيئة للغاية، ولكن تجلدتُ بالصبر وأخذتُ أواسيها وأهدئ من روعها، وكنت في قلق عنها وخصوصا وأنها حامل في شهرها الرابع، فأخذت أهدئها بالحقن والأدوية المختلفة إلى أن تماثلت إلى الشفاء بمعونة الله. فهي الآن في صحة جيدة والله الحمد، ولا ينقصها أي شيء على الإطلاق، وقد كانت حرم الأخ أحمد ابن المليح معها منذ البداية إلى الآن، وهي تنام معها (…) كما أني معها أيضا على الدوام وأقوم بالعمل على راحتها وبإجابة كل طلباتها، وقد كان لها صديقات كثيرات من خيرة سيدات مصر، وقد أظهرن شعورا طيبا وواسينها وساعدناها على تحمل آلام هذه الكارثة الفادحة.
إننا نستعد الآن إلى السفر في القريب العاجل إن شاء الله، وسأخبركم بالموعد على وجه التحديد فيما بعد. هذا وإن عزاءنا واحد ونرجو الله أن يلهمنا الصبر الجميل.»
عنوان الكتاب: المرأة التطوانية وإسهامها في البناء الحضاري والمعرفي
الكاتب: كتاب جماعي
الناشر: مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد)
بريس تطوان
يتبع…