قد يتبادر إلى ذهن القارئ عند رؤية عنوان هذا المقال أن الأمر يتعلق بحقنة طبية تهدد صحته، فيسرع إلى القراءة لتفادي ضررها.
لكن دعني أوضح لك أن الخطر هنا أعمق؛ إنه يتعلق بحقنة سامة تُغرَس في وعي المجتمع وقيمه، وتهدد الأجيال عن طريق التضليل الإعلامي، وتعمل على ترويج خطاب اليأس وسط الشباب، وتسعى إلى تفكيك منظومة القيم، وتحوّل الأجيال إلى كتلة استهلاكية بلا هوية.
ظهرت نظرية الحقنة تحت الجلد أو الطلقة السحرية في أربعينيات القرن الماضي على يد الباحث هارولد لاسويل، خلال تحليله لدور الإعلام في الحرب العالمية الثانية.
وتفترض النظرية أن الرسائل الإعلامية تُحقن في عقل الجمهور مباشرة كإبرة تحت الجلد، فتؤثر فيه بشكل فوري وقوي، دون وجود حواجز نقدية أو وعي يقلل من تأثيرها. بمعنى آخر، يعتبر الجمهور كتلة سلبية تستقبل الأفكار مثل الإسفنجة. وبالرغم من تعرضها للنقد من طرف نظرية “التأثير المحدود” لجوزيف كلابر، التي اعتبرت أن الجمهور يغربل المحتوى عبر ثقافته وخبراته، إلا أن التطور التكنولوجي أعاد إحياءها في شكلٍ أكثر خطورة.
فاليوم، لم تعد الحقنة مجرد رسائل إذاعية أو جرائد ورقية، بل خوارزميات تعمل بالذكاء الاصطناعي، تدرس سلوك المتلقي لتصنع له “الحقنة” التي تخترق دفاعاته النقدية، الأمر الذي ينعكس على سلوكه وسط المجتمع دون أن يشعر.
وقد تابعنا في واقعة طنجة كيف يحفظ الأطفال الأغاني الساقطة عن ظهر قلب، وكيف يتفاعلون معها من خلال رقصات مبتذلة تروج لسلوكيات منحرفة، بينما يعجزون عن ترديد الأناشيد الوطنية التي كانت تُحفظ في المدارس.
وهذا مؤشر على تحوّل خطير حيث أضحت المنصات الرقمية مدرسة موازية تُعيد تعريف “المُحرّم” و”المقبول” عبر خطاب يستهين بالتقاليد، ويُروّج للانحلال الأخلاقي كـ”تحرر”، وللشهرة الرقمية كـ”نجاح”.
يقول البعض: “يجب ألا نحد من حرية التعبير”، لكن الحقيقة أن الحماية الأخلاقية للمجتمع لا تتعارض مع الحريات. فدول عديدة حجّمت منصات تواصل اجتماعي شهيرة بعدما ثبت تورطها في تدمير الصحة النفسية للمراهقين أو نشر أخبار كاذبة تهدد الأمن المجتمعي.
لا يكفي أن ننظر إلى الإعلام كوسيلة ترفيه، بل يجب التعامل معه كسلاح ذي حدين، وهذا يتطلب تعزيز الوعي النقدي بتعليم الأجيال كيفية تحليل المحتوى وتمييز السموم من خلال التربية الإعلامية.
لذا، تبدو الحاجة مُلحّة لوضع برامج تعليمية تهدف إلى تعزيز الوعي النقدي بين الشباب، وتزويدهم بالأدوات اللازمة لتحليل المحتوى الإعلامي بعقل منفتح وبصيرة ناقدة، مع تمكينهم من مهارات تحليل المحتوى.
كما يجب أن تواكب التشريعات التطورات الحاصلة، بحيث لا تقيد الحريات، بل تعمل على حماية المجتمع من المحتوى المُدمّر.
وذلك من خلال قوانين صارمة لا تتساهل مع مروجي القيم التي لا تتماشى مع مجتمعنا، والتي لا تحترم المقدسات التي اجمع عليها المغاربة.
ولأن القانون وحده لن يستطيع حل المشكلة، فإن العمل على إنتاج محتوى بديل يعكس قيمنا ويُعيد إحياء الهوية بأسلوب جذاب يعد أمرًا ضروريًا.
فالخطر الحقيقي ليس في “الحقنة” نفسها، بل في استسلامنا لها دون مقاومة.
فلنعمل جميعًا على حماية قيمنا قبل أن تُحقن الأجيال الصاعدة بما لا يعالج.