جدلية الميديا والثقافة - بريس تطوان - أخبار تطوان

جدلية الميديا والثقافة

والمرء يقلّبُ أوراق زمننا المرّ، لا مناص من أن يُقرّ بأنّا لن نقطف سوى الجيل الذي بذرناه. من هنا ينبثق السؤال الجوهري المؤرِّق: لماذا غرور الكبار وإصرارهم المقيت على تكرار هذا الجيل؟كأنهم يريدون نُسَخا طبق الأصل من الأجداد، أدمغة وذائقة، مع أنهم عاشوا زمنهم على سجيتهم ووفق ما يشتهون، ونسجوا أحلامهم دون أن يتدخّل في مغامراتهم أحد، ولو أنّه ما بين التّوجيه والتنمّر بونا شاسعا.
إن ضغط الكبار على هذا الجيل، نجم عنه انحراف وعقوق وموت عاطفي رهيب، فلم كامل هذا القمع الذي نربي به موتنا.
من جهة يُفتي الكبار بأن التقنية الحديثة والثورة التكنولوجية أشبه ببعبع،ومن جهة ثانية، يتركون لهم الحبل على الغارب، في مواجهة الجوانب السلبية وما يخدّر، مُجرِّدا هذه الوسائط، من براءتها.
من أبشع صور العمالة في التاريخ العربي، تحضرني قصة الأصلع ابن العلقمي، الذي كان ينقل للسفاح المغولي هولاكو، أسرار بلاط بغداد، قبيل احتلالها فاحتلال العراق بالكامل وإبادة أهله بوحشية كبيرة ومبالغ فيها.

في تلك العصور، كانت الرأس، أغلى ما يمتلك الإنسان، وأظنها لم تزل كذلك، بيد أنها لم تعد تخش السيّاف، بقدر ما تتجاهل سياسة التخدير، وتغفل عن سحر مفعوله.

لقد جسّدت الرأس الحليقة لذلك الخائن، مسوّدة، ماانفكّ يلونها بأسرار الدولة، كي يقدمها هدية على طبق من ذهب لسيده هولاكو، ومما أذكى هذا التواطؤ ، وأجّج مثل هذه الخيانة، ضعف الخليفة المستعصم بالله، وعجزه وانشغاله عن الأخطار الخارجية بمجالس السمر ومعاقرة الخمر ومعاشرة النساء.

وهي صورة نمطية للخلافة، بعد أن فقدت ملمحها الحضاري والإنساني المطبوع بعالمية الخطاب، عرّت الزعامة العربية، وأماطت الأقنعة عن الكثير من عوراتها.

من هنا أحاول إيجاد مقارنة ما بين تلك المرحلة، وزمن استئساد الميديا، الذي دوّخ هذا الجيل، وأفسده في المجمل، بحيث لم ينج من فخاخه إلاّ النزر القليل جدّا جدّا، بعد أن استثمر مناحي الإيجابية فيه، فتجنّب إدمانه، بالتالي، وعطّل كل أشكال التطبيع معه، أي زمن الميديا والوسائط المخدّرة، الذي حل محلّ السيّاف، فهو يعمل على إماتة الأجيال ببطء، بعد أن ينخر العقول ويخدر ويعربد كيفما يشاء، برعاية من ارتأوا فيه بديلا لكاريزما السيّاف المأمور الذي ترتعد لمجرّد ذكره الرقاب.

رأس يرعبها سيف الجلادين، مقابل أخرى تؤله الخدر، وتسلمّ به واقعا ودستورا سنّه الكبار، فأية معادلة هذه التي تريد أجيالا مستنسخة، خارج النص والحلم والحقيقة.

ينقلنا هذا إلى ضفة موازية، لا يمكن إلاّ أن تستفزّ فينا فضولا من نوع آخر، وترجّ في القلب المدمى، أصلا، أسئلة لسنا نبحث عن أجوبة لها، ابتداء، كونها استنكارية، وتعقّ سياقها،وتتصرف كمليحة نافرة، نجردها نكاية في سياسة “استحمار” الأجيال، عبر سرقة أحلامها المشروعة، وذرّ الرماد في العيون.

إذ، ما الغاية من دور الشباب والثقافة، كعمران تشامخ واشرأبّ وتطاول بهدر وبذخ، كي تسكنه روح التفاهة، وتُلبِسهُ لعنتها، على نحو مخجل، يبصم تصالحات تتناسل معها، وإن في فرو مغاير وجديد، كل حين؟

هل حققنا بهذه الهياكل الباردة، المرتجى الكامن في بناء الإنسان، وتقديم ما فيه الخلاص لهذا الجيل؟ بصريح العبارة، لقد أخفق الكبار في تحرير هذا الجيل من عقدة تاريخية كبيرة اسمها جلباب أبي، كضرب من وأد الأحلام.

إن اللامركزية الثقافية، كأفق مواز للتنوير والترفيه والسمو بالذائقة والتوعية إلخ … تحتّم علينا مقاربة جدلية التكنولوجيا وهوية جيل له الحرية، كامل الحرية في عجن أحلامه، دون تخّل فيه، من غير بخل عليه بتوجيهات تنير له الدرب، وتعينه على التخفف من رواسب دوخة أملاها عمران ثقافة التفاهة.

أقول هذا لأني أعيش في وسط، تغتال طفولته وشبابه حمّى هذا التخدير، وإن كنت أستنكر غياب وجود جناح لرعاية الطفولة والشباب، ضمن مرافق المجالس القروية، والجاني الأكبر بالطبع هو سياسة الغباء، والتمادي في رسم استراتيجيات تفريخ مؤسسات ”ثقافية” فاشلة، لم يخط باعتمادها، حال القضاء على الانحراف والجريمة وظواهر المخدرات والشذوذ والظلامية، مقابل تفجير الكامن من طاقات في هذا الجيل، لم يخط أو يحرز تقدّما، قيد أنملة.
ونختم بالحكمة الصينية القائلة ”لا تعطني سمكا بل علمني كيف أصطاده”، باعتبار هذا لونا من التوجيهات التي نريدها لأجيال لن يوجعنا قطوفها، مستقبلا، وإلاّ فسوف نكون في صفّ الكبير المتذاكي والذي يربّي في صغاره، موته.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.