يعرف المغرب استفحال ظاهرة الفساد منذ عقود ولم تستطع الحكومات سبيل القضاء عليه وبذلك انحدرت بلادنا شيئا فشيئا في سلم ترتيب الدول وتقبع حاليا في أسفل درجات الدول المفسدة ، وأشرنا في مقالة تحت عنوان ” أحزاب وطنية و “لوبيات” سياسية (بريس تطوان. بتاريخ 2 مايو 2025 ) إلى بعض تداعيات هذا الفساد كإفقار أغلبية المواطنين وانتشار البطالة والمحسوبية والهجرة القروية والفوارق التنموية المجالية والدعارة وتعطيل المشاريع التنموية الخ.
الواقع المزري
إن أوضاع بلادنا المزرية ليس هو قلة وفقر الأراضي الفلاحية والثروات السمكية والمعدنية والأيدي العاملة النشيطة والمدربة ، بل هو لسوء سياسات للمسؤولين والحكومات في استغلال هذه الثروات والعمل بقوانين الغير شعبية وضعفها عن محاربة الفساد والمفسدين الذين نفذوا إلى مراكز القرارات وعطلوا العديد من قوانين الإصلاح والعمل بها.
لم يعد الأمر يقتصر على سياسات سوء توزيع الثروات على المواطنين وسن قوانين إضافية في مجال الضرائب وتمليك العقارات وتناسل مجال الوسطاء و” الشناقة ” وضعف بعض الأجهزة القضائية وصعوبة الولوج إليها وعدم تنفيذ بعض أحكامها الخ. بل إن هذا الفساد طال أيضا جوانب مهمة من عيش المواطنين ، ليس فقط بسبب غلاء الأسعار وصراخ المواطنين من تداعياتها ، بل وأيضا انتشار ظاهرة الغش والخداع مجال أكل وشرب المواطنين المغاربة .
الغش والخداع في الأكل والشراب
الغش هو إخفاء أو تغيير حقيقة شيء لإحداث ضرر أو تحقيق مصلحة غير مشروعة، وهو أيضا خلط الرديء بالجيد أو إخفاء العيب في السلعة . والخداع أو الإخفاء يهدف إلى تحقيق مصلحة خاصة أو إيذاء الغير، وغالبًا ما يكون مصحوبًا بالنية السيئة و بالخديعة باستعمال أساليب احتيالية بقصد إيقاع شخص في غلط يدفعه إلى الشراء ، كخلط الحليب بالماء قبل عرضه للبيع وكأن أن يقدم شخص لآخر وثائق أو شهادات كاذبة بقصد إخفاء الحقيقة .
هناك أيضا التطفيف أي التقليل في الكيل أو الوزن لأن من يسرق من المكيال والميزان يقتصر على الشيء الطفيف حتى لا يكتشف المشتري ، وجاء في شأن التطفيف قوله تعالى: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين).
أمثلة عن اللحوم الحمراء
يرى الكثير أنه نظرا لغياب الحكومة عن القيام بواجبها على النحو المطلوب وأمام زيادة تكاليف الحياة وغلاء الأسعار والجفاف وقلة قطيع الذبائح يعمد بعض الجزارين المنعدمي الضمير إلى عرض لحوم حمراء للبيع لحمير وبغال وكلاب وكأنها لحوم بقر وأكباش .
وأشارت تقارير صحفية أخيرا إلى أن ظاهرة انتشار اللحوم غير المرخصة في الأسواق سببت مخاوف وقلقا لدى المواطنين ، وذلك بعدما تمكنت السلطات المغربية، من ضبط كميات كبيرة لحوم الكلاب والحمير مجمدة ومعدة للبيع في أسواق ومحلات بيع اللحوم غير صالحة للاستهلاك البشري بمدن، مراكش الدار البيضاء والجديدة قبل أسابيع، وهز عثور بقايا جثث الكلاب والحمير، مواقع التواصل الاجتماعية، مستغربين من تفاقم هذه الجرائم التي تؤدي بحياة الناس وصحتهم، من خلال بيع واستخدام لحوم مشبوهة.
وقال رئيس الجمعية المغربية لحماية المستهلك والدفاع عن حقوقهم، إن ظاهرة ذبح الكلاب وانتشارها ليست بالجديدة، لكنها تفاقمت في السنوات الأخيرة بسبب غلاء اللحوم وقلتها، وتراجع تربية المواشي من أغنام وأبقار.، واستحضر هذا الرئيس ، أن ضعف الإنتاجية سببه غلاء سعر الأعلاف والنقل، وقلة المراعي، ما تسبب في تزايد ظاهرة ذبح الكلاب والحمير، التي يقودها عصابات من الجزارين وأصحاب الأكلات الخفيفة في المغرب، والتي تعتبر من التصرفات غير الأخلاقية والقانونية التي تهدد صحة وسلامة المستهلك .
وأمثلة عن فساد التوابل
لم تسلم التوابل هي أيضا من الغس والفساد وتتنوع أنواع الغش فيه بإضافة مواد أخرى إلى التوابل الأصلية، مثل النشا أو الحبوب، أو استخدام ألوان صناعية، أو حتى تغيير التوابل بمنتجات أقل تكلفة وأقل جودة. الغش قد يكون مقصودًا لزيادة الأرباح، أو غير مقصود بسبب تلوث المنتجات، أو حتى بسبب عدم جودة التوابل الأصلية.
جاء في تقارير صحفية أنه نظرا للأقبال التي تعرفها التوابل فالعديد من الباعة يقبلون على إفسادها فيستعمل بعضهم مواد سامة لا تصلح للاستهلاك البشري فتبدو في الظاهر بهارات للطهي لكن في الواقع هي مزيج لمواد البناء كما هو الحال مع الفلفل الأحمر الذي يصنع من مزيج به مادة الآجر التي يتم طحنها ومزجها بملوّنات لتلوين البلاط وأرضيات الأرصفة.
وأما الفلفل الأسود فيمزج بنواة الزيتون التي يتم طحنها للزيادة في كميات ووزن هذه المادة المصنفة من التوابل الغالية الثمن، كما تم اكتشاف مادة النشارة الخشبية في مختلف أنواع التوابل كالفلفل الأبيض وغيره من التوابل. وأما الزنجبيل المغشوش يمزج معه الفول المطحون وتضاف إليه ملوّنات فيبدو للزبون زنجبيلا عاديا بينما هو ملغم وفيه مواد أخرى.
حسب بعض المختصين فإن التوابل هي من المواد الحساسة التي تتطلب عناية كبيرة في العرض والشحن والتخزين ، فتلك التي تُعرض في الهواء الطلق تحت تأثير الغبار والأتربة كما هو حالها في الأسواق الشعبية تفقد قيمتها الحقيقية وقد تصبح خطيرة في هذا الوضع، فما بالك تلك التي تمزج بها مواد أخرى وملوّنات ممنوعة تشكل خطرا على صحة الإنسان.
وحسب الأطباء فإن الملوّنات عندما تدخل جسم الإنسان تشكل جدارا على المعدة والأمعاء وتعطل امتصاص الأغذية وانتقالها إلى الدورة الدموية، وبالتالي فإن تلك الحركة البسيطة التي يقوم بها ذاك المحتال الذي يضيف الملوّنات إلى التوابل بإمكانها أن تدمر جسم الإنسان.
ولم يسلم زيت الزيتون أيضا من آفة الفساد
ونقرأ في تقارير صحفية أنه بالنظر إلى ما يشكله زيت الزيتون من أهمية كبيرة في مائدة المغاربة، باتت هاته المادة الأساسية، خلال السنوات الأخيرة، عرضة للغش من طرف بعض التجار الذين يستغلون جهل بعض المستهلكين بخصائص «الزيت البلدية» للنصب عليهم بطرق مختلفة مما يهدد صحة المستهلكين .
+ ومن حيل الغش التي يلجأ إليها البعض خلط زيت المائدة بـ «الكِينة » فهي من أخطر أساليب الغش في زيت الزيتون، التي تكون لها عواقب صحية وخيمة على صحة المستهلك ، وهي لجوء بعض التجار إلى إضافة مواد كيميائية على شكل أقراص، يطلق عليها المهنيون « الكِينة »، إلى قنينة من سعة 5 لتر (أو أكثر) مملوءة بالماء أو زيت المائدة (في أحسن الأحوال)، ما يمنح الخليط الناتج رائحة زيت الزيتون النفاذة وأيضا لونها الأخضر البرّاق، ولكنه ليس زيتا صالحا للاستهلاك .
وحذر رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، من هذا النوع من البضائع التي تعرض في الطرقات والأماكن العامة، لما يشكله من أخطار على صحة المستهلك. وأشار إلى أن الغش في زيت الزيتون « ليس مجرد قضية تجارية، بل يمثل تهديدا للصحة العامة، حيث يؤدي استهلاك الزيت المغشوش إلى الإصابة بأمراض خطيرة، أبرزها تشمع الكبد بسبب احتواء الزيت على نسبة عالية من الحموضة .
+ ومن الحيل الأخرى إضافة أصباغ إلى زيوت نباتية ويُعد اللون الأخضر اللامع لزيت الزيتون أحد المعايير التي يثق بها المستهلكون عند الشراء، لذلك يلجأ بعض الغشاشين إلى إضافة أصباغ صناعية أو مواد كيميائية للحصول على لون جذاب.ويعمد إلى طحن إما أوراق الزيتون أو الفلفل وخلطها مع زيت المائدة مع إضافة ملونات أخرى للحصول في النهاية على خليط يشبه الزيت في اللون ، واستهلاك هذه المواد قد يكون ضارا بالجهاز الهضمي والكبد على المدى الطويل.
+ ومن الحيل الأخرى خلط زيت الزيتون بزيوت نباتية أرخص مثل زيت الصويا أو زيت عباد الشمس ؛ هذه العملية تقلل من تكاليف الإنتاج وتزيد من هامش الربح، لكنها تؤدي إلى منتج غير نقي، يفتقر إلى الفوائد الصحية الحقيقية لزيت الزيتون، وقد يحمل مخاطر صحية خاصة للأشخاص الذين يعانون من حساسية تجاه هذه الزيوت.
+ ومن الحيل الأخرى تجديد زيت زيتون قديم أو مؤكسد لم يعد صالحا للاستهلاك الآدمي ،
بسبب تعرضه للأكسدة ، ولتغطية العيوب، يتم تصفية الزيت أو مزجه بزيوت حديثة ؛ هذا الزيت يفقد قيمته الغذائية ويحتوي على مركبات قد تكون ضارة بالصحة.
+ ومن بين أكثر أساليب النصب هي تقنية النصب بواسطة زيت وهمي
يطلق عليها المغاربة « زيت حرة »، وحسب ما كشفه مهنيون هي لجوء بعض النصابين إلى طرق يوهمون بها المستهلك بشرائه لزيت حقيقي، لكنه ما يلبث أن يصدم بمجرد وصوله إلى البيت. كيف ذلك؟
يعمد الباعة النصابين، وهم في الغالب متجولون ولا يستقرون في مكان واحد ، إلى تعبئة « الزيت » المراد بيعها في قنينات غير شفافة بحيث لا يظهر ما في داخلها، لكنهم يحرصون على وضع عينة من زيت حقيقي مع خبز ساخن في متناول الزبون ويصرون على أن يتذوقها، وما إن يقتنع الزبون بجودة الزيت ويرغب في شرائها حتى يمد له البائع القنينة فيأخذها دون أن يفحصها معتقدا أنه اشترى الزيت الذي تذوق منه… وهكذا يكتشف الزبون المخدوع فيما بعد أنه اقتنى، بدل زيت الزيتون، قنينة مليئة بالماء، أو زيت مائدة رخيص في أحسن الأحوال.
+ كما يلجأ بعض البائعين إلى تخزين زيت الزيتون في أوعية بلاستيكية أو معدنية غير مخصصة للأغذية، ما يؤدي إلى تسرب مواد كيميائية إلى الزيت. هذا الغش لا يقلل فقط من جودة الزيت ولكنه يعرض المستهلك لخطر التسمم بمركبات ضارة.
القوانين الزجرية
من الناحية القانونية فإن الغش والتدليس والخداع والتطفيف هو عمل قصدي باستعمال طرقا احتيالية بنية التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع يعاقب القانون فاعليها.
وسياسيا
فقد حذر الملك المسؤولين في إحدى خطب العرش المفسدين والذين يعرقلون المشاريع التنموية والذين لا يقومون بواجبهم وأشار إلى أن “محاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع والدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها، والضر ب بقوة على أيدي المفسدين ”
رغم هذه الخطابات القوية للسلطة العليا فلا زال الفساد مستشريا أو زاد ، وهذا يعني أن الحكومة لا تعمل بالتعليمات الملكية ولا بنصوص الدستور الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة ، فالحكومة لم تستطع القيام بواجبها وتطبيق القوانين إما خوفا من لوبيات الفساد أو مشاركة فيه بحيث أصبحنا نسمع ونرى مسؤولين حكوميون وبرلمانيون متابعون بالفساد، فقد صرح رئيس حزب تعهد بالقضاء على ظاهرة الرشوة والفساد وأن يتم استئصالها وبعد توليه رئاسة الحكومة وجد ” تماسيح وعفاريت ” يصعب مواجهتهم فلم يتم القضاء على الرشوة والفساد كما تعهد هو ومن قبله من الحكومات بل زادت هذه الآفة بعد ذلك كما تشهد على ذلك العديد من القرارات والدراسات الوطنية والدولية.
ومن الناحية التشريعية
لو يعلم المسؤولون حقيقة أهمية تحمل مناصب السلطة والمقاعد بالبرلمان والبلديات لما أقدموا على ما هم عليه فقد نصح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ” إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة”، إن تحمل مسؤولية السلطة والدفاع عن حقوق المواطنين في البلديات والبرلمان والمحاكم أمانة أشفقت من تحملها السماوات والأرض والجبال (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا..)
وجاء في حديث شريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بطعام وقد حسنه صاحبه , فأدخل يده فيه فإذا فقال للبائع : بع هذا على حدة وهذا على حدة , فمن غشنا فليس منا ”
وفي حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم أيضا ” خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم , ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر , وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون , وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذو بالسنين , ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر.
وقوله صلى الله عليه وسلم ” خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم , ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر , وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون , وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذو بالسنين , ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر. أليس هذا ما نعاني منه في أيامنا هذه ؟.
بغلة عمر.
جاء في الأثر قول عمر بن الخطاب الخليفة الثاني للمسلمين ” لو عثرت بغلة في طريق العراق لسألني الله عنها : لم لم تصلح لها الطريق يا عمر؟ “وسواء أكان هذا الحديث صحيح أو لا فإنه يرمز إلى عمل قادة المسلمين أعطوا للأمانة والمسؤولية حقهما فأين نحن من هؤلاء؟، ” كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونختم بقول ربنا العزيز الحكيم (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) صدق الله العظيم. والحمد لله رب العالمين.