الفناء كفضاء شاعري
لقد تم تحليل المنزل-الفناء كعنصر مكون لمورفولوجية المدينة العتيقة بتطوان. ولكن في الوقت نفسه فالمعمار الذي يجسد البعد الاجتماعي والإنساني، هو رسالة ولغة تعبير. فالقدرة الدلالية للهندسة المعمارية واهتمامها الدائم بالإشارات والصور يزودها بشحنة رمزية حينما تتوخى تجاوز تجسيد الجودة المادية والشكلية إلى التحليق في فضاء روحاني. الرمزي لا يلغي، بل لا يغير، الواقع الهندسي للفضاء ونفعيته، ولكنه يثري دلالاته لتطابقه مع الشكل الداخلي، أي مع مثال روحاني. فالرمزي له دور إلغاء هذا الجزء المسمى الإنسان ليتم تجميعه في وحدات أكثر شمولية: المجتمع، الثقافة والكون. من هنا فإن فضاء الهندسة يضم مـا هـو مـادي ومـا هـو شاعري.
“ما هو شاعري لا يوجد سوى في أقصى العيش الكون باطنيا، هذه العملية هي التي تؤسس التجربة الروحانية” حسب تعبير خوسي أنخل فالينتي ممفظ مهـء الذي يضيف: “حينما أتنفس أصبح إنسانا، وحينما أقضي أصبح عالما،
تروي حكمة قديمة. عليه يتأسس مجاز القلب… ما هو شاعري يدعونا للدخول إلى أقصى الأعماق، مكان اللامكان، فضاء فارغ ومولد”.
كثيرا مـا تمت مسـاءلـة مـا هـو شاعري من خلال الفكر محاولة فهم المظـاهـر الـرمـزيـة للمنزل الفناء يسمح بمقاربة لتاريخ الأفكار وبناء شبكة تواصل بين الهندسة والكتابة البنية الرمزية للمنزل الفناء يمكن تأويلها عبر تاريخ الكلمات والأشياء، فالفناء ينقلنا إلى مركز العالم، إلى مركز البيت.
تستوعب أغلب الـثـقـافـات ثـلاث جهـات كـونـيـة السـمـاء، الأرض، الجحيم، المركز بجسد نقطة التقاء هذه الجهات الثلاث التي يتحقق فيها التواصل بينها، خلق الإنسان ثم في هذه النقطة المركزية، في مـركـز الـعـالم. في الوسط، بالفناء يلتقي الهواء والريح، الماء والمطر، الهواء يرمز إلى روح الإنسان، إلى نفسه، لروحه، والفكر، بعكس الجسد، لا يشيخ يبقى دائم الشباب.
الريح هو تكثيف للهواء. يتميز بالحركة، رمز التغيير. الريح هي الروح الكونية الواقعة بين السماء والأرض التي يتسرب إليها ويطهرها. وحسب النظرة الهندية لنشأة الكون، فإن الريح ولدت النور والإنسان استجابة لرغبة الإنجاب، ولدت الفضاء، الفراغ، التقعير وولدت ذاتها. دلالة الماء الرمزية تحتوي على ثلاثة مواضيع مهيمنة: الماء كمنبع للحياة، وسيلة للصفاء ومركز للتجديد الدائم. الغطس داخل الماء هي عودة للأصول، وعد بولادة الإنسان الطاهر المطر هو الماء النازل، الماء الملقح الذي سيعطي للأرض خصوبتها. الفناء كرمز للكون يتجسد بشكل ممتاز في قصر الحمراء كما يذكر أنتونيو مونيوث مولينا:
“فناء الأسود بجناحيه ونافورته التي تتوسطهما حيث تلتقي سواقيه الأربع، هي تجسيد مصغر وهندسي للجنة في الإسلام. فالسـواقـي هـي أنـهـار عدن الأربعة بينما الزوايا الأربع تحدد شكل العالم المرئي الذي يبدو حسب الوصف
الأفلاطوني كمستطيل الدائرة هي تجسيد للقبه ساوية الأسود الإثنى عشر الذين تنهمر من أفواههم المياه تجسد عدد الأشهر والأبراج: فإذا كان يمكن تفكيك شكل العالم من خلال الأرقام، وإذا كان كل ما يرى هو محض رؤيا وظل
للحقيقة، فإن الفناء، في بنيته الخالصة، هو على الأقل صورة أمينة حيث يعطينا إحساسا فطريا بسعادة خالية من أي ذكرى، بفضاء محكم الانغلاق ومنفتح على النور في الوقت ذاته، إنه منظر وملجأ”.
فناء الحمراء هذا، وليد شعور بحميمية وانغلاق الأندلسيين، يقوي التقاليد أينما دخل. تقليد يجد منبعه الإبداعي ليس في المدينة، فهو لا ينتمي للمدينة وإنما يأتي من اللامكان، من الصحراء الحقيقية أو تلك الرمزية. الصحراء كمثل أعلى للعزلة مصدر الإبداع الشعري. فكما يشير المهندس حسن فتحي:
“الصحراء هي منبع العربي، منها اقتبس بساطته، طبعه المضياف، وميوله للرياضيات والفلك بل وبنية الأسرة كذلك. تجربته مرة مع الطبيعة. الأرض والخلاء عدوا البدوي اللدودان. أجمل ما يقع عليه ناظره هي السماء الصافية، المتوهجة بسحبها البيضاء التي تنعم عليه مطرا. إنها بالنسبة له بيت الله”.
حينما يقوم العربي بوضع هذه الاستعارات موضع التنفيذ فإن بيت الله يتجسد عبر قبة تسندها أربع أعمدة.
هذا يعطي للمنزل دلالة رمزية كما لو كان تصغيرا للكون. وفعلا فإن الاستعارة تذهب أبعد من ذلك: الجوانب الـثـمـانـيـة للمثمن الذي يسند القبة السماوية ترمز إلى الملائكة الثمانية الذين يسندون عرش الله.
وبحكم أن للسماء هاتين الميزتين: كونها بيت الله ولأنها ترمز إلى أجمل ما يوجد في الطبيعة فإن المسلم يريد امتلاكهما في بيته مثله في ذلك مثل الأوروبيين الذين يزينون بيوتهم بالنبات الذي يعتبر استمرارا للطبيعة.
أنسب مكان لتجسيد ذلك هو الفناء. فكل الحجرات مغلقة في اتجاه الخارج ومقتصرة على الرؤية الداخلية، نحو الذات، هذا الفضاء يتحول إلى تجزئة خاصة من السماء ممتلئة بهذا الشكل بالطمأنينة والراحة التي توفرهما. هذا التأثير ليس وهما، يمكن أن يحس به كل من وطأت قدماه منزلا عربيا أو رواق دير.
منطقة حوض المتوسط بأسرها تعرف قيمة الفضاء المرتب بهذا الشكل: من الإغريق، الرومان أو الإسبان، ولكنه بالنسبة للعربي يتجاوز الفضاء الخاص ليصبح جزءا مصغرا يجسد نظام الكون.
الزوايا الأربع تمثل الأعمدة الأربعة التي تسند القبة السماوية، السماء ذاتها تصبح سقفاً للفناء وتنعكس في النافورة التي تتوسطه، هذه النافورة أو الغدير تشبه انعكاس قبة على أركانها. الطابق العلوي هو بالأساس يضاهي ذلك السفلي: مربع بزوايا منقطعة تعطي شكلا ثماني الأضلاع. عمق النافورة هو تقريبا تجسيد لقبة مقلوبة كما لو كانت انعكاسا لها على الماء.
إلى جانب انطواء المنزل العربي على نفسه يضاف العنصر النسائي للماء كمناقض للعالم الخارجي، إنه مجال المرأة. فكلمة “سكني” تجد جذورها في فعل سكن الذي منه يتم اشتقاق كلمة أخرى ذات دلالة معبرة: “السكينة”. من جهة أخرى فإن حريم مشتقة من حرم التي تشير إلى ما هو مقدس ومحصن وهذه كذلك من مميزات البيت العربي.
المحافظة على طبيعة هذا الفضاء المغلق مهم جدا لذا فإن أي شرخ في البناء مهما صغر حجمه يمكنه أن يكسرها. فبعكس الفناء الأندلسي المفتوح على جوانبه فإنه في الشرق الأوسط جوانب الصحن هي مجرد حيطان غايتها صد هجمات الصحراء الضارية.
ورغم التنويعات البنيوية التي يمثلها الفناء حسب الإطار الثقافي فإن بنيته الرمزية تبقي ثابتة باعتبارها تجسيدا للعالم حيث الإنسان وعيه بالكون. إنها صورة للكون. في هذا ا جاه تصب كلمات مونيوث مولينا الموحية:
“سطوع فناء ما ينير دائما منطقة في أعماق ذاكرتنا، ففناء حديث الاكتشاف يبدو لنا مكانا لموعد غامض حيث أتينا دون أن ندري بأنه تم استدعاؤنا من قبل. في حجرات منزل مجهول نعيش أقصى حالات الغربة: بينما أي فناء يتعرف علينا وينادينا. لا يمكننا أن نسبح مرتين في مياه النهر ذاته ولكننا في الفناء ليس لدينا تقريبا أي إحساس بتواجدنا لأول مرة، دائما هناك ذكرى لا تجرأ على التجلي، صمت أو عبير مألوف، قناعة مريحة بالماضي وبالعودة. هذا الضوء الداخلي الذي يتسرب نحونا عبر الدهليز يضعنا على أعتاب الزمن كنغم موسيقى تصحب خطونا”.
المنظر الحضري أو صورة المادة:
انفتاح البيت اتجاه الفناء وانغلاقه اتجاه الطريق. سور المدينة العتيقة كتجسيد وصدى للمادة، مخزن وانعكاس للحياة، السور كدعوة للدخول للعالم الداخلي، للأشكال السرية للمدينة، لشعائر الكون مقدسة.
حضور واستنشاق للمادة، مساحات عتيقة، تراكم للصراع والعمل، تتابع لمراحل من القراءة والتأويل.
“النور، الجير واللون كإشارة حقيقية لاختلافات العالم…منطقة من المادة تتمازج، تسمو، تتكون، تنبني، تتشكل. هندسة بالتأكيد، ولكنها تاريخ كذلك، جانب من الإنسان، شعر” حسب تعبير خوسي أنخل فالنتي. ذاكرة لعلاقة الإنسان بالطبيعة. مسند لبوغنفيلية والدوالي، لشجر الخروب والياسمين، للفاكهة والخضر. وكذا كمعرض منظم للصناعة اليدوية وألوان منتجاتها اللامتناهية.
الإنسان التطواني يبني ويلون منذ الأزل المدينة العتيقة، يخلط المواد، يحدد الألوان ويجسدها: بيضاء هي الجدران، فضي هو الملاط، أخضر وبني هو الخشب.
الفضاء كصدى لروائح الفروة الرطبة المتمازجة بعبير الصندل والأرز والتوابل.
الكل كانعكاس لعالم المدينة العتيقة المتوهج.
الكتاب: المدينة العتيقة في تطوان “دليل معماري”
(بريس تطوان)
يتبع..