بريس تطوان
استمر الوجود العربي في اسبانيا نحو ثمانية قرون تجاوب الفكر العربي النير مع الفكر الإسباني وانبثق في بوثقة واحدة، انتجت حضارة باذخة وثقافة راقية نعم فيه الفكر بجدية وامتد اشعاعه إلى شبه جزيرة ابيريا في امصار واقطار. ولا ننكر ان هذا الفكر اخذ الكثير من العدوة المغربية، فما هو معروف ان الأندلس بعد فترة الطوائف اندمجت في الامبراطورية المرابطية والموحدية، وقد كان لهذا الادماج اثارا لا تعد ولا تحصى، وتم التفاعل بين العدوتين في مختلف الميادين وكثر التزاور والتنقل ووقعت هجرات متعددة في اتجاه المغرب وظلت في تزايد إلى أن بلغت نهايتها القصوى بعد جلاء المسلمين.
ومع هذه الهجرات المتدفقة نحو المغرب وقعت ثاثيرات خلفتها الحضارة الأندلسية خصوصا في بعض المدن كفاس وتطوان واصيلا، ولم تنحصر في العلوم الدينية والفنون الأدبية بل شملت كل ما يخص الذهن ويوحي به الابداع وتستوجبه متطلبات الحياة من فلسفة وتصوف ومنطق وفنون وموسيقى.
في تجاذب بين ثقافتين:
خضع المسلمون للسلطة السياسية المسيحية في إسبانيا، ونظرا لتفوق عنصرها الثقافي جعلهم يتدرجون شيئاً فشيئاً نحو الثقافة المهيمنة التي كانت تعيش عصرها الذهبي
في الوقت نفسه كانت فيه الثقافة المسلمة تلفظ أنفاسها الأخيرة على أرض الأندلس في مقاومة عنيدة ضد الزوال، فتمخض عنها أدب مقاوم استعمل كل ما بقي له من وسائل للبقاء. وظل الأندلسيون صانعين ومستهلكين لهذا الأدب.
ثم نقل النازحون معهم موروثاتهم الثقافية والحضارية وحافظوا على انساق نظمهم المعاشية ورسموا عاداتهم وتقاليدهم المميزة بعد ان زرعوا بذراتها. ثم ما لبثت أن ترسخت العادات والتقاليد الأندلسية وغذت رموزا ثقافية واجتماعية اثارت انتباه عدد من الدارسين، فكلما تاملنا تراث المدينة المتعلق بطريقة تنظيم الحياة اليومية وجدناها الدليل الواضح على رسوخ ثقافة غنية تخص جميع الميادين من نوع اللباس إلى نوعية الاطعمة والعادات في الافراح والاقراح وهي قيم ساهمت في اغناء الموروث المحلي وحافظ عليها المجتمع التطواني.
التأثيرات اللغوية:
عرفت اللغة العربية في الأندلس مسارا متدرجا انتقلت فيه من وضعية التفوق على اللغة المحلية إلى الأخذ بيدها حتى اكتسبت مكانيزمات التعبير العلمي، فقد حافظ الأندلسيون على لغتهم متميزين بلكنتهم المعهودة. واقر ابن خلدون بذلك وقال ان لغة أهل الاندلس لغة قائمة بنفسها ومباينة بعض الشيء للغة أهل المشرق وللغة أهل المغرب أيضا.
ويذكر ابن الخطيب، أن أهل غرناطة كانت فصيحة ألسنتهم، عربية لغتهم يتخللها عرف كثير وتغلب عليها الإمالة فقد جاء في ترجمة فرج الاندلسي عن ابن عسكر انه تغلب عليه الامالة شان كلام الاندلس في ألسنتهم. ثم الانتهاء إلى مرحلة الأفول التدريجي وبروز وسيلة تعبيرية هجينة (Hibrida) امتزجت فيها اللغتين العربية والإسبانية امتزاجا فريدا من نوعه، وقد شارك كل منهما في تقديم جوانب معينة لبناء هذا الكيان الذي انبثق في الجسم الأندلسي ممثل الشخصية الأندلسية احسن تمثيل. ولقد ساهمت اللغة العربية في هذا المنتوج بحروفها ومصطلحاتها العديدة وساهمت الإسبانية المحلية في شتى مصطلحاتها.
عبر الأندلسيون بعد سقوط غرناطة عن اسفهم لشرح تعاليم الدين الاسلامي باللغة الإسبانية والزموا على الكتابة والحديث باللغة القشتالية كما يقر بذلك الفقيه “عيسـى بن جابر” في القرن التاسـع الهجري والخامس عشـر الميلادي وقد عبر أحدهم بقوله ” لا احد من بني قومنا يعرف اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم ولا يفهمون حقائق الدين، ولا يدركون ســــمــوه الحقيقي دون اللجوء لشـرحها بلغة أجنبية وأدرك ابن خلدون فقال: “..لأن البعد عن اللسـان العربي إنما هو بمخالطة العجمة، فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسـان الأصلي أبعد”، كما تمثل هذا التأثير في انتشار الأمثال العامية الأندلسية وانتشار اللغة الإسبانية، وظهور أسماء عائلية كثيرة كما مر بنا في تطوان وغيرها من المدن كالرباط وسـلا وفاس ومكناس والشاون ومراكش وأسفي.
نستخلص أن التأثير اللغوي الذي يعد من ابرز عمليات التواصل بين العنصر المغربي والأندلسي بدا واضحا في اللهجة التطوانية التقليدية وطريقة النطق بالامالة اللاندلسي وتحريف نطق الحروف وقد مرت بمرحلتين، تمثلت المرحلة الاولى وهي التي اخذت عن الجالية المهاجرة الاولى الأندلسية ما قبل القرن 17 نجد منها انتشار الأمثال العامية ومن مميزاتها ظاهرة الامالة في الكلام وابدال الألف ياء بالاضافة إلى استعمال النون للمتكلم المفرد بدل همزة المضارع، كنا استخدمت النون لجماعة المتكلمين مع التفريق بينهما بزيادة الواو في حالة الجمع وقد ورد عهدا الاستعمال كثيرا عند الحجري.
جاءت المرحلة الموالية بتأثيرات ابتداء من القرن 17 وواكبت الهجرات المتأخرة اذ شاعت ظاهرة لغوية عبر عنها ابن سعيد بقوله:” أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الإنحراف عما تقتضيه أوضاع العربية، حتى لو أن شخصا سمع كلام الشلوبيني لضحك بملء فيه من شدة التحريف الذي في لسانه، والخاص منهم يتكلم بالإعراب”. فقد استبدل أهل غرناطة القاف كافا فكانوا يقولون “حك” و”حكة” لنوع من الأوعية بدلًا من “حق” “حقة”. و يسقطون النون الأخيرة في الكلمة فينطقون بين “بيى” ويقلبون الألف ياء مثل ‘‘بیب” بدلًا من باب و”ميل” بدلًا من مال و”نيب” بدلًا من ناب.
ومن مميزاتها ايضا لا وجود لهمزة المضارع في العامية فهم يستعملون النون للمتكلم المفرد ومعه غيره مع التفريق بينهما بزيادة الواو في الحالة الاخيرة وقد ورد هذا الاستعمال كثيرا مثل: اخرج=نخرج، امشي=نمشي، اجلس=نجلس. كما أن حرف الجر يرد غالبا متصلا بالمجرور بعد حدف حرف الياء مثل في الجبل=فالجبل. كما تتميز العامية التطوانية بزيادة كاف في اول الفعل المضارع فيقال يكتب=كيكتب.
أدخلت طريقة جمع بعض المسميات الاروبية التي في لهجتهم كطريقة جمعها في اللغات بإضافة (S) الى نهاية المفرد للتفريق بينه وبين الجمع الاضافة اذ كانت الإضافة لدلالة الملكية رأيناها تتم في لهجتهم بتوسط كلمة ديالي بين المضاف والمضاف اليه فيقولون دلكتاب ديالي”، أما إذا كانت الإضافة لغير الملكية لاكتساب المعرفة جعلوا الدال فقط أداة المضاف والمضاف إليه مثل “حانوت د علي”.
وتقل عند أهل تطوان من الأصوات اوتزيد فهي تخلو من الثاء التي ابدلت بالتاء حيث نقول تور بدل ثور، وابدلت الذال دالا: دنب=ذنب او ابذلت زايا زلايل=ذلایل اما الظاء فتنسح طاء طهار= الظهر طريقة تنكير الاسم المفرد بذكر كلمة قبله تدل على عدم تعيينه فيقولون واحد الراجل واحد لمرا (رجل وامراة) كما ادغموا بعض الأصوات واظهروا أخرى فنراهم يدغمون ضمير الغائب المفرد سواء كان مفعولا بها ومضافا أو مجرورا مثال “للي كيقطع ش شطب كيجر”(يجرها) او وكانت ملك نواحد لعبد (عندها).
وتنفرد اللهجة بصيغة التصغير في أسماء البلاد كما كانوا يصغرون الأسماء من وزن فعل على “فعيل” ومن ذلك قولهم “جميل” بدلًا من جمل و”كليب” بدلًا من کلب و”فلیسات” فلس =صغيور، كبير =كبيبر.(وكذلك تظهر “ون” في صيغة المؤنث، فهي تبدو في أسماء الأعلام من النساء مثل عيسونة وهذا الإسم مكون من عيسى مضاف إليه “ونة وكذلك إضافة “ون” على الأسماء كصيغة للتفخيم أو التعظيم مثل خالد “خلدون” زید “زیدون” غالب “غلبون.
حمل الأندلسيون معهم طرق تعبيرهم وأساليبهم، فبدأ تأثيرها واضحا في المعجم المغربي وفي أدبه وأمثاله وحكاياته. فكثيرة هي المفردات الإسبانية التي تغني المعجم المغربي، وفي حقول دلالية معينة، وخاصة في شمال المغرب. فقد خصصت بعض الدراسات للكلمات الإسبانية في اللهجة المغربية فتبين أن كثيرا منها ذو أصل أندلسي. وقد تتوسع هذه اللائحة إذا أخذنا في اعتبارنا أماكن أخرى كالرباط وسلا وفاس وغيرها من مواطن استقرار الأندلسيين. وقد تسعفنا هذه الدراسات على تحديد تاريخ إدخال تلك المفردات إلى العربية المغربية. ولم يختزل هذا التأثير في جانب الأسماء العائلية والجانب الأدبي واللغوي بل إن هناك بقايا مادية جلبوها معهم فساهموا في تحسين ظروف عيشهم في بلد الاستقبال مدلوله بالفصحى.
نستند إلى دراسة أمثال مدينة تطوان لمؤرخها محمد داود فنلحظ التقارب بين الامثال التي تردد في الفترة الراهنة، وتلك التي كانت تروى عصرئذ في كل من غرناطة وشبيلية وقرطبة. وهو تشابه ملفت للنظر بل يصل إلى التطابق. وذلك إن دل على شيء فهو يدل أن اللهجة المستعملة اليوم جدورها ممتدة في الضفة الأخرى للمتوسط. فقد خصصت بعض الدراسات للكلمات الإسبانية في اللهجة المغربية فتبين أن كثيرا منها ذو أصل أندلسي. وقد اثبت ابن هشام اللخمي في كتابه “لحن العامة في الأندلس” عدد من الألفاظ الأعجمية التي دخلت إلى لغة العامة من جيرانهم أصحاب اللغتين الأعجميتين القشتالية والأمازيغية المغربية.
أنغام تصدح في تطوان:
تعود الموسيقى الاندلسية الى أصول عربية على ضفاف الرافدين، ثم انتقلت مع زرياب الى الاندلس حيث تأثرت بعوامل مغربية خلت من كل عنصر اسباني وأثرت في الالحان الكنيسية، وقد ادرجت فيها طبوعا وموازين وصنائع، مما اضفى عليها طابعا مغربيا. انقسم الى وحدات ونوبات لكل منها نغمة خاصة تسمى الطبع الذي يتكون بدوره من نقط خاصة ويصل عدد الطبوع الى 366 على عدد أيام السنة الشمسية.
وأما معنى التلحين عند الأليين فهو وضع قطعة موسيقية للتعبير عن عاطفة وإفراغها في نغمات ينسق فيما بينها في توليف متجانس يتكون من طبع يسبك في ميزان متناسب طبقا لإيقاع خاص له وحدة تؤدى في زمن محدد تسمى “البيوتات”، وقد بلغ عدد الموازين في الاندلس اربعة اصناف اضاف اليها المغاربة ميزانا خامسا هو “الدرج”.
وردت تسمية الآلة عند صاحب كتاب “نزهة الحادي ” فاطلق على الموسيقى الآلة وعلى العازف الآلي. وقد تأثر المغرب بمدرستين في مجال هذا الفن، المدرسة الاشبيلية التي مثلت المرحلة الاولى من العصر المرابطي الى العصر المريني فترعرعت بجميع طبوعها حيث كان الجيش المريني تتخذ منها موسيقاه الخاصة، وقد جلب المنصور الى مراكش ارباب الموسيقى واصحاب الاغاني من أهل الأندلس.
أما المدرسة الغرناطية فقد دخلت الى المغرب بفضل الهجرات الأندلسية لكنها اهملت في فترة من حكم السعديين بسسب الفوضى التي عمت البلاد وانشغال الأندلسيين بعمليات الجهاد البحري ضد الابيريين. وبمجرد استتباب الامن في عهد السلطان العلوي “المولى اسماعيل ” استعادت نشاطها فقام “الحسن بن احمد الحايك” بجمع الموشحات في مؤلفه المعروف “كناش الحايك “. وترددت في ربوع تطوان ألحان الصيكة في انغام اعادت امجاد التراث الاندلسي، وقد اشار اليها “الصفاقسي” في كتابه “قانون الاصفياء” وذكر ان “الصكاه” اصله عربي بالصاد ثم نقل إلى العجم فيدلوا بالصيكة.
بدى جليا أن معجم الموسيقى الأندلسية استمد مادته من روافد متباينة، طبعت التراث الموسيقي الأندلسي بملامح وسمات استطاعت بالرغم من اختلاف مشاربها وتعدد طبائعها وتباين مفاهيمها أن تتفاعل فيما بينها، وأن تنصهر في بوتقة واحدة أفضت إلى إفراز لون موسيقى مبتكر، له مميزاته الخاصة، كما استطاعت أن تغالب الزمن وظروف الدهر لتدرك عهدنا هذا في زحمة المعارف الموسيقية المستجدة، متحفظة بمقوماتها وهويتها.
تم استبدال كلمة “الآلة بعد ذلك بعبارة “الموسيقى الأندلسية ” والتي تميزت عن الانشد الذي يؤدى دون آلات وهي “السماع “، وعلى الرغم من بريق هذه التسمية الذي يحرك في النفوس الحنين إلى الفردوس المفقود، فإن من بين المهتمين المغاربة من يرى أن هذا الإجراء يدخل في سياق توجه إيديولوجي يحاول إخفاء الهوية المغربية والعربية لهذه الموسيقى،وذلك باحراق الكتب والمخطوطات التي ارخت لهذا الفن والذي يرمي إلى إنكار الدور الحضاري الذي اضطلع به العرب والمغاربة في الجزيرة الأيبيرية. وكما جرت تنحية مصطلح “الآلة” بالنسبة لبعض المدن المغربية تغیر مصطلح “الصنعة” بالنسبة لهذا التراث في ووجدة والجزائر وتم استبداله بمصطلح “الطرب الغرناطي.
وهكذا، حمل الأندلسيون معهم موسيقاهم التي تميزت بطغيان النفس الحزينة والايقاعات البطيئة وعرت عن المعاناة القاسية التي تكبدها وجدان الأندلسي وشاركته الطائفة اليهودية التي عايشت نفس الظروف. وهي ثمرة ثمانية قرون من الحضارة مدعمة بنظرية علمية متينة الا ان بعد سقوط غرناطة ضاعت النظرية وأصبحت موسيقى الآلة إرث شفهي يدرس بدون أي مقومات علمية ويبدو ان العامة من أهل تطوان نادرا ما كانت تستمع الى مثل هذه الايقاعات، نظرا لانشغالها بالجهاد مما يوحي بأنها حضت باهتمام النخبة اكثر، وغدت منغمة ومؤداة بالآلات الوترية والايقاعية بدل السرد ونظمت السهرات الموسيقية في الأفراح والنزهات وفي وسع الباحث الناظر في المعجم الموسيقي الأندلسي اليوم وفيما عراه من تحولات وتغييرات عبر مراحل تطوره وهو حصيلة التعايش بين الحضارة العربية والحضارة الإبيرية المسيحية بمكوناتها الرومانية والبيزنطية علما انها فقدت مجموعة من النوبات الموسيقية ولم يبق من اصل اربعة وعشرين سوى احدى عشرة نوبة، كما وقع تغيير في المصطلحات.
كتاب: تطوان بين المغرب والأندلس (تشكيل مجتمع مغربي أندلسي في القرنين 16 و 17م)
للمؤلفة: نضار الأندلسي
منشورات جمعية دار النقسيس للثقافة والتراث بتطوان
(بريس تطوان)
يتبع…