تجويد وثائق التعمير مدخل للتنمية الترابية - بريس تطوان - أخبار تطوان

تجويد وثائق التعمير مدخل للتنمية الترابية

يستدعي تحقيق أهداف التنمية الترابية تعبئة مجموعة من الموارد المالية والقانونية والتنظيمية لتوفير الشروط المثلى لالتقائية المشاريع المبرمجة وتنزيل ترابي أمثل لمحتويتها حتى تشمل جميع أجزاء التراب الوطني و يستفيد منها جميع شرائح المجتمع. و من اجل ذلك باشرت مؤسسات الدولة، بمعية شركاءها،  إصلاحات  متنوعة تهدف إلى توفير الظروف الملائمة لتاطير الاستثمار العام و الخاص من اجل المساهمة في إنتاج الثروة و خلق فرص الشغل.و يبقى تفعيل هذه المشاريع و تحقيق الأهداف المرسومة لأفق التنمية  مشروط  بتجويد الآليات القانونية و التقنية المنوط بها مهمة التنزيل الترابي  للمشاريع و توفير شرطي الاندماجية و الالتقائية لها .

مشاريع قطاعية متنوعة وإصلاحات قانونية ومؤسساتية مهيكلة :

مند مطلع القرن الحالي، تمت صياغة مجموعة كبيرة من المشاريع الإستراتيجية همت عدد مهم من القطاعات الحيوية مثل السياحة والصناعة والفلاحة والخدمات والنقل والصناعة التقليدية والصيد البحري واللوجستيك والسكن والمياه والغابات. كما صاحب ذلك إنجاز مشاريع ضخمة شملت التجهيزات الكبرى والبنيات التحتية المهيكلة من طرق وسكك حديدية وموانئ ومطارات.

و صاحب مسلسل إنجاز هذه المشاريع الكبرى فتح أوراش قانونية تهدف إلى تطوير مناخ الأعمال من خلال إصلاح ميثاق الاستثمار و إصدار ميثاق اللاتمركز الإداري. كما تم تبسيط المساطر الإدارية ونهج الشفافية عبر سن قانون الحق في الوصول إلى المعلومة والتشريع للإدارة الإلكترونية وتمكين القطاع الخاص من المساهمة بشكل فعال في مجهود التنمية وخلق الثروة و ذلك بإشراكه في تنفيذ الاستثمار العمومي من خلال نسج شراكات مع القطاع العام لإنجاز مشاريع ذات أولوية اقتصادية واجتماعية للدولة وللجماعات الترابية.

وبموازاة ذلك، تم أيضا القيام بمجموعة من الإصلاحات المؤسساتية و إحداث مجموعة من المؤسسات الجديدة مثل المحاكم التجارية والتي من مهامها الفصل في المنازعات المالية والتجارية بين المقاولات الاقتصادية وبينها وبين المؤسسات العمومية. كما تم إحداث المراكز الجهوية للاستثمار التي أنيط بها مواكبة المشاريع الاستثمارية وتوفير شروط النجاح لها من خلال تعبئة العقار العمومي وتبسيط الإجراءات والمساطر الإدارية. كما تم تعميم الوكالات الحضرية على مختلف مناطق المملكة والتي تشرف على تقنين طرق استعمال الأرض من خلال إعداد وثائق التعمير التي تعتبر الوثائق الأمثل لتنزيل مشاريع الدولة المهيكلة و كذا مشاريع الجماعات الترابية . وتطمح هذه المبادرات إلي تعزيز اللامركزية في اتخاذ القرار خاصة تلك المتعلقة بالتنمية الترابية و تشجيع الاستثمار وخلق فرص الشغل.

و تعد وثائق التعمير بمثابة  آلية  تنظيمية توفر أرضية لضمان الالتقائية و التجانس للمشاريع الترابية، كما تشكل  كذلك مرجعية قانونية وتقنية للترخيص للمشاريع الاستثمارية. لذا وبالنظر لأهميتها الإستراتيجية، فان تجويد طريقة إعداد  وثائق التعمير يبقى من أهم العوامل الأساسية في صيرورة تشجيع الاستثمار وتحقيق تنمية ترابية مندمجة ومستدامة.

إعداد وثائق التعمير عملية تتطلب تعبئة مجموعة متنوعة من العلوم ومجموعة كبيرة من المختصين واعتماد منهجيات مبتكرة :

تتميز عملية التخطيط العمراني بطابع خاص بفعل تشابك مسارات انجازها وتنوع اشكاليتها وأهدافها التوجيهية و التاطيرية  لمسارات التنمية الترابية مما يجعل مهمة إعداد وثائق التعميرمعقدة للغاية. ويعود ذلك إلى طبيعتها العملية في أجرأة البرامج التنموية سواء العمومية أو الخاصة مما يفرض اعتماد مجموعة من المعارف والخبرات تحيل على مجموعة متنوعة من العلوم والمعارف المختلفة. وتتوزع هذه الأخيرة بين العلوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية من جهة، و بين مجموعة أخرى من المعارف و العلوم خاصة تلك المختصة في وضع المشاريع وتصورها sciences de projet  من جهة أخرى.

فبحكم أن أي تخطيط عمراني يخص منطقة جغرافية معينة(مجال التهيئة)، فان هذه المنطقة تتميز بخصائص طبيعية مشكلة من معطيات متعلقة بالبنيات الجيولوجية والطبوغرافية وأخرى لها علاقة بالتربة والغطاء النباتي وأنظمة جريان المياه. ولمعرفة هذه الخصائص يتطلب تعبئة مجموعة من المختصين في في إنتاج خرائط تسمح بمعرفة قابلية المنطقة المعنية للتعمير لتفادي مجموعة من المخاطر الطبيعية خاصة تلك المرتبطة بانزلاق التربة والفيضانات في ظل التغيرات المناخية الحالية وما يتطلبه ذلك من اتخاذ إجراءات وقائية للحد من أثارها وحماية الاستثمار العمومي( البنيات و المرافق العمومية) و الخاص( المنشات السكنية و السياحية و الصناعية…) .

كما أن أية منطقة معنية بالتخطيط العمراني هي بالضرورة تجمع سكاني قائم أو مشروع مستوطنة بشرية مستقبلية تتمتع أو ستتمتع بمجموعة من الخصائص الديمغرافية والاجتماعية والثقافية والوظائف الاقتصادية والتواصلية.كما تتميز بطرق خاصة لتملك المجال من طرف الساكنة الحالية أو المستقبلية.وتتسم المنطقة المعنية كذلك بتنظيم ترابي خاص وبأنماط متميزة في طرق تعبئة الموارد الطبيعية والتمويلية المحلية والخارجية تروم انجاز برامج تنموية تتقاسمها الدولة و الجماعات المنتخبة والقطاع الخاص . كما  أن المجال موضوع وثيقة التعمير يؤدي وسيؤدي مستقبلا وظائف معينة محدودة أو متنوعة داخل تنظيم ترابي أوسع يمكن أن يشمل مجالات جهوية، وطنية او دولية.

إن معرفة هذه الخصائص  المتنوعة و المتشعبة و أحيانا المتداخلة تتطلب الاستعانة بمجموعة من العلوم الاجتماعية مثل علم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم الديمغرافيا من اجل تكوين صورة قريبة من الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمنطقة المعنية لتحديد  خصائصها  السوسيو-اقتصادية  و أنماط اشتغال منظوماتها وانعكاساتها على التنظيم العام للمجال الذي تشغله. كما أن هذا التنظيم هو نتاج لطبيعة طرق تملك الأرض و نتيجة التقسيمات العقارية التي هي وليدة صيرورة تاريخية و هي ناتجة عن القوانين المؤطرة لتداول العقار (بيع، شراء، ارث…).

إن المعرفة التي توفرها العلوم الطبيعية و العلوم الاجتماعية تساعد على تشكيل صورة مركبة Radiographie للواقع الطبيعي و البشري والمجالي والتي يجب ان تتقاطع مع البرامج التنموية المبرمجة و حاجيات و رغبات و طموحات  مختلف الفاعلين المعنيين للوصول إلى تشخيص واقع حال  المنطقة موضوع إعداد وثيقة التعمير. هذا التشخيص المتعدد الأبعاد هو الذي  تعتمده علوم تصور مشاريع وثائق التعمير من علوم تهيئة وتعمير وهندسة معمارية وهندسة مختصة في تصور الشبكات لاقتراح مشاريع التهيئة و التي تبقى نسبة فاعليتها رهين  بتصور  مشروع ترابي متكامل، واقعي وطموح يعتمد بناءه على التشاور والشراكة بين مختلف الفاعلين المعنيين.

تجويد وثائق التعمير أولوية إستراتيجية لتحقيق شروط التنمية :

إن إعداد وثائق التعمير تتطلب تعبئة مجموعة من العلوم الطبيعية و الاجتماعية و التقنية التي تقارب المجال بشكل تفاعلي و مركب. وهي عملية تستدعي تجنيد فريق عمل متعدد الاختصاص يقوده رئيس يشرف على تنسيق تدخلات أعضاء الفريق و الذي يفترض امتلاكه معرفة و معلومات واسعة عن مجموع العلوم المعنية، و يمتاز بحس ترابي و فكر تركيبي من اجل استثمار أفضل للإمكانيات المتوفرة و الحد من الإخطار المفترضة في أفق الاستجابة لتطلعات مختلف الفاعلين المعنيين بحاضر و مستقبل مجال الدراسة  من سلطات و منتخبين و فاعلين اقتصاديين و ساكنة و مجتمع مدني.

التخطيط الاستراتيجي : إن أولى لبنات نجاح إعداد وثائق التعمير و سهولة تنفيذ مضامينها تبقى رهينة اعتماد منهجية تشاركية في تشخيص إشكاليات و رهانات التنمية الترابية للمجال موضوع التخطيط . و تعد منهجية التخطيط الاستراتيجي المنهجية الأكثر نجاعة في تحديد إكراهات التنمية قي مجمل أبعادها الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية و البيئية و الخصاص الذي يعتري مجال التهيئة. و تتيح هذه المنهجية كذلك إمكانية التعبير عن مشاريع و طموحات مختلف الفاعلين المؤسساتيين و الاقتصاديين و مكونات المجتمع المدني لأنها منهجية تتيح إشراك مختلف الأطراف المعنية بالتنمية الترابية المتعددة الأبعاد.

نظام المعلومات الجغرافية: إن كثرة المعلومات  الطبيعية و البشرية و تعدد استعمالات الأرض و تنوع التحديات المناخية و البيئية ، والتي تواجه الفاعلين في اتخاذ القرارات المتعلقة  بالتخطيط الترابي، تحتم استغلال الإمكانيات التقنية الحديثة. ويعد نظام المعلومات  الجغرافية SIG أهم الوسائل التي يمكن اعتمادها في إعداد وثائق التعمير لأنها تتيح معالجة مختلف أشكال  المعطيات المرتبطة بقاعدة البيانات المجالية (البيانات المتجهة ، البيانات النقطية ، الصور، المعلومات غير المكانية و البيانات الوصفية…).

ان اعتماد هذا النظام يمكن من إدارة البيانات المتعقلة بمختلف المعلومات الإحصائية و المكانية التي تهم مجال التهيئة المستمدة من الخرائط الرقمية و لوحات المعلومات الإحصائية و صور الأقمار الاصطناعية في الوضع الثلاثي الأبعاد و الوقت الفعلي. إذ يمكن هذا النظام  من إضفاء الحيوية على معالجة البيانات المتعلقة بالمعطيات الطبيعية و البشرية و طرق استعمال الأرض وصلاحيتها للتعمير و طرق توزيع الساكنة و الشبكات المختلقة للطرق و الماء و الكهرباء و قنوات تصريف المياه العادمة و طرق معالجتها و مصادر المياه و الطاقة و أماكن تجميع المخلفات الصلبة و كيفية معالجتها و العقار و أشكال تقسيمه و معلومات أخرى متنوعة و مختلفة يمكن استثمارها حسب الحاجة.

ان الإمكانيات  المتعددة التي يتيحها نظام المعلومات الجغرافية تتيح استغلال المعطيات المختلفة و المتداخلة و  فهم الإشكاليات و الحاجيات التي تعتري المنظومة المجالية المعنية  بشكل تفاعلي و منظم و بالتالي اقتراح الحلول و البدائل في مختلف مجالات التهيئة و التعمير مع تجنب المخاطر الواقعية و المحتملة .

تطوير منهجية  التشاور التشاركي:  يعتبر التشاور، وهو مبدأ دستوري بامتياز، أحد المداخل الأساسية في عملية تجويد إعداد وثائق التعمير.إذ يهدف التشاور إلى  إشراك  مختلف الفاعلين المعنيين بمستقبل المجال موضوع التخطيط الترابي، من سلطات ومجالس منتخبة و فاعلين اقتصاديين و مجتمع مدني و ساكنة، في تحديد  النواقص التي تعتري المنظومة المجالية  لحظة إعداد الوثيقة وكذا الإفصاح عن انتظارا تهم و اقتراحاتهم و  طموحاتهم المستقبلية.

إذ رغم المراحل التشاورية المتضمنة في القوانين و الأحكام المعمول بهما في ميدان التعمير،فإنها تبقى مراحل مسطريه لا ترقى إلى ما يطمح إليه دستور المملكة  الذي ينص الفصل 13 منه  ” تعمل السلطات العمومية على إحداث هيئات للتشاور قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية و و تفعيلها و تنفيذها و تقييمها”.

و تأسيسا على ما سبق، فان تجويد طرق إعداد وثائق التعمير تبقى مشروطة، ضمن توفر شروط أخري، بتفعيل المقتضى الدستوري باعتماد آليات التشاور المؤسساتي و المدني قصد اغناء وثيقة التعمير و تبني مقاربة  تعددية و تشاركية تاخد بعين الاعتبار كل أبعاد التنمية  الترابية المحلية ( البنية التحتية و المرافق العمومية، الأنشطة الاقتصادية و الشغل، السير والجولان، البيئة و تدبير المخاطر، الترفيه و الأنشطة الرياضية، تدبير ندرة الموارد الطبيعية و المائية…). فإشراك اكبر عدد من الفاعلين في عملية إعداد وثائق التعمير، خاصة في مرحلتي التشخيص و ووضع مشاريع/ متغيرات التهيئة، سيساهم في إثراء المشروع و في نيل اكبر قدر من المصداقية مما يساعد في تمثل و تبني مقتضياته من طرف أغلبية الفاعلين المحليين المعنيين.

منهجية التواصل التنموي: تهدف هذه المنهجية  إلى اعتماد التواصل في إعداد الدراسات ووضع المشاريع  المتعلقة بالتنمية الترابية و توعية أصحاب المصلحة من قطاع خاص و مجتمع مدني و ساكنة بالإضافة طبعا للمنتخبين و مصالح الدولة اللاممركزة  وسلطات ترابية بأهمية التخطيط الترابي. إذ أن منهجية التواصل التنموي تتيح للفاعلين المحليين التعبير عن حاجيات المنظومة الترابية مقابل التفاعل مع البدائل/المشاريع المقترحة من طرف أصحاب القرار. كما أن هذه المنهجية توفر فرصة إستراتيجية لقطاع التعمير من اجل التعريف  بالإمكانيات القانونية و التقنية و المفاهيمية التي يمتلكها  و إقناع شركاءه المعنيين بالأهمية التي تتيحها وثائق التعمير حيث تعد هذه الأخيرة الإطار القانوني-التقني الوحيد الذي يوفر شروط التنزيل الترابي الأمثل للمشاريع التنموية المندمجة خاصة شرطي الاندماجية و الالتقائية.

ان منهجية التواصل التنموي ستساهم في عملية “تسويق” Marketing المشاريع الترابية وتشكل أداة لتعبئة الاستثمار المحلي و جلب الاستثمار الأجنبي. و تشكل كذلك آلية تأطيرية لجميع الفاعلين المعنيين تساعد في تيسير تمثلهم و استيعابهم و بالتالي مساهمتهم في  تفعيل برامج المشاريع الترابية .

خلاصة القول، إن تجويد إعداد وثائق التعمير، من خلال نهج مبادئ الإشراك و التشاور و التواصل  و اعتماد التقنيات الحديثة،  يتطلب لا محالة تأهيل الموارد البشرية التي تشرف على انجاز هذه الوثائق من خلال مواكبة أحدث مناهج علوم التهيئة  والتعمير سواء تلك المنتمية للعلوم الاجتماعية أو تلك المتعلقة بعلوم تصور ووضع المشاريع. وسيساهم ذلك في  كسب مجموعة من الرهانات بفضل ما توفره وثائق التعمير من إمكانيات ( المادتين 4 و19 من القانون 90-12 المتعلق بالتعمير) و التي بواسطتها يمكن لها أن تساهم في تحقيق  الأهداف المتعلقة بالتدبير العقلاني للمجال من خلال:

  • تحقيق تنمية ترابية منسجمة و مستدامة،
  • تشجيع الاستثمار المنتج للثروة و فرص الشغل،
  • الحد من آثار التغيرات المناخية و توابعها المجالية،
  • الحماية من المخاطر الطبيعية و الوقاية من المخاطر المرتبطة بتدخل الإنسان،
  • الحفاظ على الموارد الطبيعية والمواقع البيولوجية و الايكولوجية الهشة،
  • حماية الموارد المائية،
  • حماية البيئة،
  • معالجة إشكالية النقل و التنقل،
  • حماية التراث المعماري و الثقافي.

شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.