بريس تطوان
وانعكس كل هذا على بليونش فأخذت بحظها من تطور سبتة وعمارتها، وتزايد إقبال الناس على بليونش يتخذون بها الجنات والبساتين، وتفننوا في تسويرها واتخاذ الحراس لبساتينهم. وقد عرفت بها مجموعة من البساتين الملوكية منها بساتين أبي العلاء إدريس الموحدي وابن خلاص واليانشتي وغيرهم.
ومن المشاريع الضخمة التي عرفتها بليونش زمن الموحدين ما قام به ثالث خلفاء الموحدين أبو يعقوب المنصور حيث أمر سنة 580هـ/1184م بجلب الماء إلى سبتة من قرية بليونش المذكورة على 6 أميال من سبتة، في قناة تحت الأرض حسب ما جلبه الأوائل في قرية قرطاجنة وغيرها، وشرع العمل فعرضت أمور أوجبت التربص إلى حين يأذن الله تعالى بذلك. ولم يكتب لهذا المشروع الضخم أن يتم رغم استمراره سبع سنوات، ومما يدل على ضخامة هذا المشروع أن هذه القناة كانت ستدفن في الأرض وسيحفر لها في خط ينحدر من جهة حومة الغروس في مصب مستقيم مسافة أميال إلى أن يصل سبتة.
وقول صاحب الاستبصار: بأنه شرع في العمل فعرضت أمور أوجبت التربص إلى حين يأذن الله تعالى بذلك. يحتمل أن يكون العمل قد توقف في هذا المشروع بسبب صعوبات ميدانية تمثلت في وعورة التضاريس وعد استجابتها لما يؤمل من هذا المشروع. كما يحتمل أيضا أن يكون العمل قد توقف نظرا لظروف سياسية وعسكرية اقتضت صرف النظر عنه إلى وقت لاحق، ولعل الثاني هو الراجح والله أعلم. ومما يرجح ذلك أن السلطان أبا يعقوب المنصور توفي في بداية هذا المشروع سنة 580هـ/1184م، وولي بعد ابنه يعقوب بن يوسف، وفي أول ملكه خرج عليه صاحب ميورقة الملك المعروف بابن غانية، فكان منشغلا بتوطيد الملك وأمور الخلافة. ويرجح هذا الرأي أيضا ما امتاز به المهندسون المغاربة في زمن الموحدين بمقدرة فائقة في عمليات تسريب المياه في أجواف الأرض حسب أصول حسابية مدققة، ويدل على ذلك كثرة المشاريع المائية في هذا العصر، فمنها إجراء الماء من عين غبولة في سرب تحت الأرض حتى وصل إلى قصبة المهدية (الرباط)، ومنها إجراء الماء لسقي البحيرية بداخل إشبيلية وجلب الماء لميضأة جامع القرويين وغير ذلك. وهذا يدل على معرفة عميقة بأصول الهندسة المائية وما تقتضيه من تدبير ومعالجة، مما يجعل مشروع بليونش قد توقف لأسباب سياسية والله أعلم.
وثمة من يرى أن هذا المشروع قد أنجز فيما بعد، أو أنجز على الأقل شبيه له، ودليل ذلك ما حكاه الأنصاري عن سبتة بعد هذا بنحو قرنين، من وفرة الطواحين والسقايات والحمامات وغير ذلك مما يستفاد منه توفر المياه في سبتة، على كثرة الطلب له وارتفاع استهلاكه، وإذا كانت سبتة تشكو قبل ذلك قلة المياه وهي ما زالت متواضعة الاتساع، فكيف وقد اتسع فيها العمران واستبحر، لا شك إذا؛ أن حلا حقيقيا، جدريا قد وجد لمشكلة الماء، ومعنى ذلك أن المشروع الذي كان قد شرع أبو يعقوب الموحدي في تنفيذه قد تم إنجازه بعد انقطاع للأعمال، أو تم تعويضه بمشروع آخر، لكنه على كل حال يبقى مرتبطا بمياه بليونش.
والذي كان مكلفا بهذا المشروع في بليونش الشيخ أبو زكريا ابن الشيخ الرضي صاحب المهدي، وكان من صنائع الدولة وشيوخها مع معرفته بالبحر وإنشاء المراكب، فصرف إليه يعقوب المنصور أمر النظر في مصالح ذلك وتدبيره، فأقام الشيخ أبو زكريا قرية بليونش وديارا مطلة على بحر بسول بغربي الجامع، وكان مغتبطا بقرية بليونش لشرفها وعظم قدرها، وعندما زارها ابن عبد ربه الحفيد قال: ليس لها عديل إلا دمشق. يقصد في النزهة وانفساح النظر وجمال الطبيعة.
وهذا يعني أن بليونش قد لقيت في هذه الفترة عناية ملوكية خاصة من قبل يعقوب المنصور، وكلف أحد خواصه بإقامة أمرها والنظر في شأنها، وهذا ما جعل القرية فيما بين سنة 580هـ/1184م، إلى سنة 588هـ/1192م، تشهد عمارة ملوكية من طراز عال، ومن أبرز ما دشن فيها البساتين الملوكية التي كانت لأمراء الموحدين على سبتة كبساتين أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي (620هـ/1123م) وبساتين ابن خلاص (646هـ/1248م) وغيرهم. وقد كانت الزخرفة على عهدهم تشتمل على فسيفساء وتشكيلات مصبوغة على الطاء في شكل لوحات جدارية نباتية وأخرى هندسية زُخرفت بخط اليد.
والإفادات التي ذكرها من مر ببليونش هذه الفترة تدل على عظيم ما كانت عليه من الأبهة والعمارة، وقد زارها أبو الحجاج المنصفي (608هـ/1211م) فذكر من حسنها وبهائها وجمال منظرها ما قيده شعرا سائرا فقال:
بليونش شكلها بديع أفرغ في قالب الجمال
فيها الذي ما رأته عيني يوما ولم يختطر ببالي
طريقها كالصدود لكن تعقبه لذة الوصال
وقال أيضا:
وقد أرتنا اليوم من حسنها ما لم يكن في زمن الحاجب
وقال يصف منازلها التي كانت تسرج بالليل مشبها إياها بالثريا عندما تسرج ليلة الختم بالجامع، حيث الشموع في كثرتها وتنوعها وإضاءتها تتناسق في منظر بديع:
انظـــر إلى بهجة بليونش وحسن ذاك المنظر اللامع
تحكى الثريا عندما أسرجت بليلة الختمة في الجامع
ومما امتازت به بليونش في هذا العهد أنها كانت، مع ما فيها من تطور في العمارة وامتداد رواق الحضارية الموحدية عليها، مأوى لطائفة من كبار متصوفي الرقن السادس والسابع الهجريين؛ الذين ترددوا عليها أو نزلوا بها، فكأن التأنق الزائد الذي كان عليه أهل سبتة وبليونش دعا إلى حركة معاكسة تصدرها أهل التصوف من خلال دعوتهم إلى الزهد والتقلل من الدنيا والتبلغ بأقل الزاد، وكانت بليونش بما فيها من حسن الطبيعة وجلال المنظر داعية للتفكر والخلوة، وقد اشتهرت سبتة وأحوازها في عهد الموحدين بطائفة من كبار أهل التصوف مثل ريحان الأسود الذي كان بميناء مدينة سبتة وأبي عبد الله البيغي الكماد وأبي الحسين بن الصائغ (600هـ/1203م) وأب الحجاج المنصفي (608هـ/1207م) مدين الغوث (594هـ/1197م) وأبي عبد الله محمد بن شعيب الجذامي (604هـ/1207م) وأبي الصبر أيوب بن عبد الله الفهري (609هـ/1212م)، وهو الذي حمل على رأسه صحفة كبيرة من عود من عمل الروم من مدينة سبتة إلى جبل إيروجان فأعطاها أبا يعزى، فكان أبو يعزى يقري فيها الضيفان الواصلين إليه، وأبي محمد عبد الجليل بن موسى الكتامي ثم السبتي (613هـ/1216م) وابن العربي الحاتمي (638هـ/1240م)، وأبي مروان اليحانسي الذي كانت له رابطة في أحجار السودان، وكان يجتمع إليه فيها الفقراء والمحبون، وكان يصنع ليلة المولد طعاما للفقراء يأكلونه وكان طعامه الكعك والعسل ويحضر تلك الليلة الفقراء والمحبون ويعمل فيها السماع. وابن سبعين المرسي (669هـ/1270م) وكان قد استقر بسبتة، وكانت قد كلفت به امرأة موسرة من أهل سبتة فتزوجها وأنفقت عليه مالا وبنت له زاوية في دخل دارها، فشاع أمره وشاع عنه أنه فيلسوف فنفاه ابن خلاص منها، وأبي القاسم ابن الصبان وكان يقرئ التصوف في مدينة سبتة في مسجد المحلة، وأبي العباس الناهض، ويوسف القصير البادسي الذي كان من عادته أن يصوم شهر رمضان في سبتة والحسن بن الخراز والشيخ ابن زيجا المعروف ببوشعبان المؤذن بمسجد الدكالي، أدركه ابن قنفذ وأثنى عليه، وقال: وهو الآن يتردد من جزيرة الأندلس إلى أحواز فاس وسبتة، وأكثر لبثه في الرباطات أبقى الله بركته بمن. وغيرهم.
ومن الرباطات المعروفة في هذا العهد رابطة أحجار السودان ببليونش، ورابطة الصيد. وغيرها، وقد كان عدد الروابط والزوايا في سبتة سبع وأربعون ما بين زاوية ورابطة محاذية للبحر من جانبي الجنوب والشمال داخل المدينة والأرباض وخارجا عنها، كما كان المتعبد المبارك في قمة جبل موسى مأوى للصوفية وأهل الرباط.
ومن الأخبار المتعلقة ببليونش في هذه الفترة؛ ما ذكره أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبيديس النفزي في كتابه “نزهة الألباب في صفات الأحباب”، حيث قال: “وقيل لي بسبتة المغرب: إن رجلا أدخل الفقراء داره ورياضه ببليونش موضع قريب من سبتة، وطاب ذلك اليوم مع الفقراء، فقال: يا ليت من يتملك هذه في الدار الآخرة وإنما احوال الدنيا فانية وليست باقية، فقيل له: قدمها للدار الآخرة، حتى تنتقل بخير ما بحضرتك، فإن الله يجازيك على عملك ويثيبك، فقدرت داره وجنته باثني عشر ألفا، واشتراهما من نفسه الفانية لنفسه الباقية، وفرق الثمن على المساكين”. وقد توفي ابن عبيديس بغرناطة سنة 659هـ/1260م، وألف هذا الكتاب قبل سنة 632هـ/1234م.
الكتاب: سبتة وبليونش “دراسة في التاريخ والحضارة”
للمؤلف: د. عدنان أجانة
منشورات تطاون أسمير/ الجمعية المغربية للدراسات الأندلسية
(بريس تطوان)
يتبع…