أحداث مدينة الفنيدق (شمال المغرب) أثارت أسئلة استفهام جد معقدة، يصعب فك شفرتها بمجرد استصحاب التحليل التقليدي الذي يربط ظاهرة الهجرة غير النظامية بالأوضاع السوسيواقتصادية، مع هذه الأوضاع بالنسبة إلى شرائح واسعة من الشعب المغربي تهاوت في السنوات الأخيرة لمراتب جد مأساوية نزلت بها بعيدا تحت عتبة الفقر.
التوصيف الكرونولوجي يشير إلى أن الحدث انطلق بنداءات من صفحات مجهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تدعو إلى جعل يوم 15 سبتمبر يوما للعبور الكبير لاقتحام السياج الأمني الحدودي بين الفنيدق وسبتة المحتلة.
التركيبة السوسيولوجية للمستجيبين لهذه الدعوة، تضمنت في شريحتها الأوسع أطفالا قاصرين أغلبهم من التعليم الثانوي الإعدادي أو الثانوي التأهيلي (13-16) أو بالغين عاطلين عن العمل، مع استجابة محلية وجهوية واسعة من فئات الشباب العاطل من تطوان والمضيق والفنيدق وطنجة.
التوزيع الجغرافي للشريحة الأوسع من هؤلاء غطت أجزاء مهمة من التراب الوطني لاسيما منطقة الوسط (من البيضاء إلى بني ملال) والمعطيات المتعلقة بالجنس، تقول بأن الحدث لم يكن ذكوريا بامتياز، فقد شاركت فيه فتيات من مستويات سنية مختلفة.
تحديد التاريخ المذكور، أي 15 سبتمبر، لم يكن اعتباطيا، بل خضع لاعتبارات مناخية دقيقة، تقدر أن جوا كثيفا من الضباب سيعم المنطقة، وستكون الرؤية شبه منعدمة، بما يجعل الهجرة السرية بمأمن من عيون البحرية الملكية، وخفر السواحل الإسبانية التي تراقب الحدود البحرية لمدينة سبتة المحتلة.
في الواقع ليست هناك معطيات إحصائية دقيقة حول عدد الشباب الذين لبوا نداء الهجرة الجماعية في اليوم المذكور لكن ما قدمته السلطات المغربية بشأن التوقيفات التي طالت هؤلاء، تتحدث عن أكثر من أربعة آلاف شاب بينهم أجانب (519 أجنبيا) 70 منهم ثبت تورطهم في التحريض لهذه الهجرة الجماعية، 164 منهم جزائري، و318 شخصا ينحدرون من دول جنوب الصحراء، إلى جانب 37 مهاجرا من جنسيات أخرى تونسية وآسيوية.
ومع توافر مؤشرات عن ضلوع أجانب في أحداث الفنيدق، إلا أن السلطات المغربية لم توجه أي اتهام رسمي بافتعال هذه الأحداث لا إلى الجزائر ولا إلى أي دولة أخرى، وفضلت الاشتغال بهدوء على هذا الملف، ومواجهة مختلف تداعياته، بما في ذلك التداعيات الحقوقية التي تفجرت عشية نشر صور شباب عراة تظهر عليهم علامات السياط في أجسادهم، إذ قدمت السلطات المغربية روايتها بهذا الخصوص بينما أمرت النيابة العامة بفتح بحث قضائي بشأنها واتخاذ المتعين بعد صدور نتائج التحقيق.
المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تدعم فكرة وجود بيئة لها قابلية للانخراط في هذا الحدث، فأرقام المندوبية السامية للتخطيط ما بين 2023 و2024، تسجل انتقال معدل البطالة من 12.9٪ إلى 13.7٪ على المستوى الوطني
باستحضار عنصر التراكم، لا يمكن تحليل الحدث من غير استحضار محطات سابقة لمحاولات اقتحام السياج الأمني الفاصل بين الفنيدق وسبتة المحتلة، كان أبرزها ما حدث سنة 2021، أي في قمة التوتر الدبلوماسي بين مدريد والرباط على خلفية استقبال إسبانيا لزعيم البوليساريو على أراضيها بهوية مزورة، إذ عرف شهر مايو (تحديدا في السابع عشر منه) تدفق آلاف المهاجرين على المدينة نفسها، معظمهم من المراهقين والشباب، وبعض المهاجرين من جنوب الصحراء، وأقدموا على هجرة جماعية باستعمال قوارب مطاطية سريعة، أزعجت إسبانيا، وسرعت من عملية التفاوض لإنهاء التوتر بين البلدين.
وقبل سنتين (وتحديدا في يونيو 2022) سيعرف السياج الأمني الفاصل بين الناضور ومليلية المحتلة حدثا مأساويا بسبب مواجهة السلطات المغربية لعملية اقتحام عنيف للسياج شارك فيها أكثر من ألفي مهاجر أجنبي تنحدر أصولهم من دول الساحل جنوب الصحراء الذين وصل أغلبهم إلى المغرب عبر حدوده الشرقية بتيسير جزائري.
مجموع هذه المعطيات يسمح في اتجاهات مختلفة للتحليل، يصعب اختبار قدرتها التفسيرية ما لم ترشح معطيات أخرى إضافية.
وسائل الإعلام الجزائرية التي انخرطت بكثافة في تأطير الحدث قبل وقوعه، ومواكبته، وجعلته عنوانا على فشل ما تسميه بـ«سياسة المخرن التفقيرية للشعب المغربي» لم تردد في تقديم تفسير آخر مناقض، إذ استصحبت أطروحتها السابقة باستعمال المغرب لورقة الهجرة لابتزاز إسبانيا والاتحاد الأوروبي، بينما لم تبادر السلطات المغربية إلى تقديم أي اتهام رسمي للجزائر بخصوص علاقتها بهذا المخطط.
المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تدعم فكرة وجود بيئة لها قابلية للانخراط في هذا الحدث، فأرقام المندوبية السامية للتخطيط ما بين 2023 و2024، تسجل انتقال معدل البطالة من 12.9٪ إلى 13.7٪ على المستوى الوطني، وتحدث عن ارتفاع نسبة البطالة في الوسط الحضري بـ 17.6٪، وتسجل رقما مخيفا بخصوص بطالة الشباب ما بين 15 و24 سنة، أي الفئة الأساسية المعنية بحدث الفنيدق، بحوالي 36 في المائة، كما تتحدث تقارير المندوبية نفسها عن تصريح 82.5 في المائة من الأسر المغربية بأن وضعيتهم المعيشية تدهورت.
في المقابل، ثمة غموض كبير على مستوى ترتيب الحدث، فلا تزال الأجهزة الأمنية تفكك من الناحية التقنية ألغاز الصفحات المجهولة التي أطلقت نداء الهجرة الجماعية في التاريخ المذكور، وتجري تحقيقات مع القائمين عليها، كما تطرح أسئلة كبيرة حول سبب اختيار 15 سبتمبر في علاقة بتوقعات دقيقة تخص حالة الطقس، مما تتعذر توفير معلومات بشأنها زمن إطلاق النداءات المذكورة لدى شباب أغلبهم من القاصرين أو متدنيي المستوى التعليمي، كما يكتنف الحدث غموض آخر، يتعلق بخلفيات الدعوة إلى هجرة جماعية بهذا النحو، مع أن مثل هذه الدعوة، التي لا يمكن تصور نجاحها بحكم ما تستدعيه من تعبئة أمنية شاملة لمواجهتها، وهو ما يرجح أن القصد السياسي منها كان أكبر من أي شيء آخر، أي وضع السلطات المغربية في حرج الموقف، سواء من جهة علاقة الرباط بمدريد في حالة تسجيل قصور أمني في مواجهة المقتحمين، أو من جهة علاقة المغرب بمحيطه الدولي، في حالة تسجيل إخلال حقوقي في مواجهة المقتحمين باستعمال القوة المفرطة.
البعض يفترض أن هذه العملية هي من اختلاق مغربي خالص، ويسوق على ذلك مؤشرات «تساهل أمني» في مواجهة المقتحمين، وأن قصد الرباط من ذلك وضع إسبانيا وأوروبا تحت مزيد من الضغط لتحقيق مصالح حيوية، لكن ما يدحض هذا التفسير هو حجم التعبئة الأمنية الشاملة وغير المسبوقة، ونجاحها في إفشال الهجرة الجماعية، والإشارة الإسبانية بجهود المغرب في إبطال مفعول هذه الهجرة، ناهيك عن مستوى العلاقات المميزة بين الرباط ومدريد والتي يحرص الطرفان على تعميقها وتنميتها.
في الواقع لا شيء يمنع من طرح فرضية أن تكون هذه العملية بتوجيه أجنبي، استعمل هذه المرة، هشاشة البيئة الاجتماعية التي باتت تحمل أعلى مستويات اليأس والإحباط مع حكومة عزيز أخنوش، فالتراكم المسجل بهذا الخصوص، ومركزية الأجانب في كل عملية اقتحام منذ سنة 2018، فضلا عن التأطير الكثيف والمواكبة الدقيقة للحدث من قبل مختلف وسائل الإعلام الجزائرية، وانفراد الخط التحريري لهذه الصحف مقارنة بغيرها من الصحف الدولية بربط الأحداث إما بفشل سياسة المخزن، أو بابتزازه لأوروبا، فضلا عن المعطيات المتعلقة باختيار التاريخ، وطبيعة الدعوة الجماعية، كل ذلك يجعل فرضية أن تكون هذه العملية جزءا من مخطط أجنبي أمرا واردا، وهو ما يمكن أن تكشف الأيام القليلة القادمة عن بعض تفاصيله.