المرثاة الغزلية في الشعر العربي - بريس تطوان - أخبار تطوان

المرثاة الغزلية في الشعر العربي

وصف الكثيرون من باحثين ودارسين. الغزل في الشعر العربي بأنه لغة الوجدان والعواطف. تلك اللغة التي يعبر بها شاعر الغزل عن مكنون مشاعره وأحاسيسه الدفينة وهو يصف مفاتن حبيبته سواء أكانت تلك المفاتن حسية – أي الجمال الحسي – أم معنوية – أي الجمال الأخلاقي.

إن مثل هذا الوصف قد يصدر في أغلب الأحيان عن تجربة حقيقية فيتسم عندئذ بالواقعية وقد تبدو التجربة عند بعض الشعراء مكتسبة عن طريق المحاكاة والسماع. فتوصف بالتكلف والاصطناع. بيد أن بعض الشعراء يحاول من خلال قدرته الشعرية وبراعته الفنية إضفاء صفة الطبع والصدق عليها. لقد كثرت في المناقشات الأدبية لجمهرة الباحثين وفي تعليلاتهم وجدلهم الأدبي كلمات صارت بمرتبة المصطلحات الفنية. كالنسب والتشبيب والصبابة والهُيام. ونظرا لاختلاف وجهات نظرهم بدأت تلك المصطلحات تخرج إلى دلالات كثيرة متباينة تقترب بعضها حينا وتتباعد في أحايين أخرى. وسبب هذا الاقتراب والابتعاد يعود إلى القدرة على تحديد المصطلح الفني وهنا يجدر بنا أن ننوه بأن أي مصطلح فني لا يخضع إلى ضبط في التحديد ودقة في المعنى قد يؤدي إلى اضطراب في الفهم وأخيرا يؤدي إلى خلق بعض النتائج غير العملية مهما كانت محاولات الباحث جادة في هذا المجال. والذي يهمنا من شعر الغزل في الأدب العربي. ليس تعدد مصطلحاته الفنية وتباين نتائجها. بل ما يقدمه للقارئ والسامع من استجابة وجدانية  تخدم غرضا نفسيا وآخر اجتماعيا. فالغزل من الأغراض الشعرية التي تمتاز بها مجموعة من التجارب الذاتية الخاصة التي تعبر عن رغبات نفسية ونظرات اجتماعية في المرأة والحياة وبذلك يتبوأ الغزل مكانة مرموقة بين أغراض الشعر الأخرى التي غالبا ما توصف بالتكسبية وتكلف التجربة في مواقف متعددة من حياة الشاعر.

إن المطالع الغزلية في الشعر العربي وقصائد الغزل الكثيرة تطرد فيها رنة حزينة باكية تبدو في بعض الأحيان مظهرا سوداويا يصور بعض تشاؤمية الشاعر في نظرته إلى المرأة والجمال، وهنا يلعب العامل الاجتماعي والنفسي دورا كبيرا في خلق وتجسيد مفهوم الألم في المقدمة الغزلية.. إنه ظاهرة تدعو الباحث فيها إلى كثير من التأمل والاستيطان للوقوف على ماهية هذه التجربة ومعاناة الشاعر فيها. فإنني كلما قرأت المطالع الغزلية وأعدت قراءاتها، أحسست أن الألم الذي يغلف تجربتها قد يبدو لونا من ألوان ” رثاء النفس ” أو رثاء التجربة ذاتها – فعدم الاستقرار، القلق، الفراق، خيبة الأمل، الإحساس بالشكوى، الاعتزاز بالذكرى، والسأم. كلها مظاهر اجتماعية ونفسية مستمدة من بيئة الشاعر جعلت من الألم خصوصية فنية تمتاز بها تلك المطالع والمقدمات الغزلية. فالوقوف على الأطلال والبكاء عليها والتحسر على الذكريات الماضية والبحث عن آثار الديار والمنازل والرسوم هي رموز لتجربة الألم التي يجد فيها الشاعر راحة ولذة نفسيتين يطمئن إليهما في التبين عن بعض مشاعره الحبيسة. فامرؤ القيس مثلا يجد أن البكاء شفاء له في تجربة حبه عندما يقول : وإن شفائي عبرة مهراقة. فهل عند رسم دارس من معول.

ولما كانت  تجربة الحب، التي تعبر عنها تلك المطالع الغزلية ذات صلة وثيقة بواقعها الاجتماعي العام ارتبط شعر الغزل بواقع أحداث عصر الشاعر وخرجت تلك التجربة بما تحمله من ألم وحرمان إلى التعبير عن هموم الشاعر وطموحه وتأملاته فيما يجري حوله من أحداث سياسية واجتماعية وفكرية. كما يتجلى ذلك في تطور الشعر السياسي في الأدب العربي عامة. أما الرثاء فيشترك مع شعر الغزل في التعبير عن معنى الألم والأسى. سواء أكان ذلك بكاء على عزيز غال، أم ندبا على حبيبة جميلة، والرثاء في رسمه لصوره الباكية الحزينة، ينتزع تشبيهاته وأخيلته من واقع الأحداث المرتبطة بصاحب المرثاة. فلا غرابة إذا ما تفاعل الرثاء بواقع الحياة وعبر عن بعض هموم الشاعر ومشاعره عن طريق الحزن واللوعة والتحسر والبكاء. إن رثاء الحبيب لحبيبته أو الزوج لزوجه وبالعكس لا يختلف كثيرا في مظهره الحزين عن شعر الغزل الباكي الذي يرثى به الشاعر تجربته وخيبة أمله بل ويرثى نفسه فيه. هذه الظاهرة الفنية – النفسية في مثاليتها وصوفيتها وألمها جعلتني أحس أن مثل هذا الغزل هو رثاء ومثل ذلك الرثاء هو غزل في ضوء رصدي لنماذج شعرية كثيرة تمثل عصور الأدب العربي المختلفة تمثيلا لا يبعدها عن أحداثها وما طرأ عليها من تطور حضاري. فرأيت أن أفضل مصطلح يعبر عن مثل هذا الائتلاف بين غرضي الغزل والرثاء – في حدود الإحساس بالألم – هو ” المرثاة الغزلية “. ويبدو أن هذه المرثاة أو المرثية التي قد تجعل منها غرضا فنيا قائما بذاته في الشعر العربي.

إن القصيدة العربية في عصرها الجاهلي قبل ظهور الإسلام بقرن ونصف القرن – ابتداء من منتصف القرن الخامس الميلادي وحتى مطلع الربع الأول من القرن السابع الميلادي – كانت قد وصلت إلى مستوى رفيع من الكمال والنضج الفنيين كما يتجلى ذلك بوضوح في نظامها العروضي السليم ولغتها الأدبية الفصيحة وصروها الشعرية الفنية والواقعية المنتزعة من صميم البيئة العربية الصحراوية بكل ما فيها من تناقض في القيم الاجتماعية وتطرف في الجوانب النفسية التي خلقت الشاعر وجعلته يستجيب لأحداث عصره. وهو يعبر عن شخصيته القبلية العامة دفاعا عن العصبية في خضم صراعها العنيف مع غيرها من العصبيات حينا، كما تحدثنا بذلك قصائد المديح الاجتماعي والفخر القبلي، أو تعبيرا عن شخصيته الفردية التي تتجلى بتجسيد ذاته في مدى تفاعلها بأبعاد البيئة ومرئياتها المختلفة والمتباينة في قوتهـا وتــأثيرها بين شعراء ذلك العصر. فقد تأخذ في الإعجاب بالنفس. كما يظهر لنا ذلك من قصائد بعض الشعراء أمثال امرئ القيس وطرفة بن العبد وبعض الشعراء الصعاليك الذين يمثلون أكثر من اتجاه اجتماعي وفردي.

إن قسوة النظام القبلي بما فيه من أشكال وبنيات اجتماعية صارمة وميل الذات البدوية – بحكم انتقاليتها – إلى عشق الحرية والانطلاق.كانت قد تركت أثرا فنيا في الموروث الشعري القديم عند العرب والذي تمثله القصيدة الجاهلية أصدق تمثيل. وقد بقى هذا الأثر فعالا وقائما في الشعر العربي حتى بعد ظهور الإسلام. فالإسلام بثورته الجديدة. لم يستطع التأثير في شكل القصيدة العربية من حيث بناؤها الفني المتمثل في وحدة وزنها ووحدة قافيتها من جهة وفي تعدد أغراضها واستهلالها بالمقدمة الغزلية من جهة أخرى. بيد أن أثر الإسلام كان مركزا في المضمون الشعري قبل الشكل الشعري.

فالشاعر الجاهلي صاحب شخصيتين هما : الفردية عندما يعبر عن تجاربه الخاصة، كالحب، والرثاء، والحنين، ووصف الطبيعة، ثم القبلية العامة عندما يعبر عن تجارب قبلية – بصدق أو بالتزام مفروض عليه – في مجال الحروب والغارات والمنافرات، كما يظهر ذلك في قصائد المديح، والهجاء، والفخر القبلي، فإن الشاعر العربي ” عندما يشيد بصفاته الخلقية وأعماله الحربية لا يمجد نفسه فحسب، بل القبيلة التي ينتسب إليها “.

إن البناء الفني للقصيدة العربية القديمة يكشف لنا عن امتزاج هاتين الشخصيتين وتمثلهما – عبر تجارب زمنية طويلة وعريقة – في مجموعة أغراض يكشف عن وجود الذات الشاعرة والذات القبلية. فالمقدمة الغزلية من وقوف على الأطلال ونسيب وتشبيب ووصف مشاعر التجمل والارتحال ووصف مظاهر الطبيعة الصحراوية ورثاء وحنين. إنما هي صورة من صور الشخصية الفردية، في حين يمثل المدح والفخر القبلي والهجاء القبلي والحماسة صورة من صور الشخصية القبلية، فإذا أضفنا إلى هذه الظاهرة الفنية كون الشعر العربي مثالا صادقا ” للشعر الغنائي “- وهو الذي تتجلى فيه شخصية صاحبه بكل وضوح – أدركنا مدى العلاقة الكامنة في تعدد أغراض القصيدة وترجحها بين الشخصية الفردية والقبلية.

والله الموفق 26/10/2008


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.