ثالثا: في مجال العمل الجمعوي المؤسساتي
إن العمل التطوعي النسائي حركة تستند إلى قيم المساواة والعدل والسلام، وتقنية تساعد على استدامة العالم لصالح الجميع، وهو ما دفع المرأة التطوانية أن تمضي قدما في الإسهام في العمل التطوعي، والنهوض بالعمل الجمعوي المؤسساتي، فكانت نبراسا يهتدى به، ومنبعا ثرا يستفاد منه.
ولعل من أبرز الخالدات في هذا المجال السيدات الآتيات:
– الحاجة العزيزة التطوانية زوج الحرفي والصناعي عبد الله الطوب، القلب النابض بالخير، المعروفة عند أهل تطوان بسعيها الوثاب للعمل الجمعوي التطوعي والخيري، هذه المرأة العظيمة التي تذوقت مرارة اليتم قبل أن تدرك مباهج الحياة، فصدق فيها قولهم من تذوق عرف ، وهي شربت من كأس اليتم، حتى ثمالتها، لكنها عرفت حقيقة اليتم وتذوقت معانيه، فلم ترد أن يعيش يتيم ما عاشت هي فكانت سندا لليتامى، وبلسما للمحتاجين.
شاءت الأقدار أن لا تكمل دراستها في التعليم النظامي، لكن حبها للعلم والتعلم دفعها إلى ملازمة كراسي محو الأمية، لتغرف هناك من معاني الحروف، وشربت من كأس المعرفية.
إن الجمعية الثقافية الإسلامية بتطوان ما زالت شاهدة على إسهامها الوازن والفعال في مجال النهوض بالعمل التطوعي، وما زالت جمعية أهل الكرم، المؤسسة الأولى التي شحذت همة الحاجة العزيزة وأعطتها شحنات إنسانية جعلتها واحدة من رواد العمل التطوعي بحاضرة تطوان.
وإن تبرع الحاجة العزيزة بقطعة أرض لجمعية أهل الكرم من أجل بناء مقر رسمي لها، سيظل منقوشا في ذاكرة العمل التطوعي بتطاون، وستظل وصيتها الخالدة: «أن تظل الجمعية مركزا مفتوحا لتعليم أصول قراءة القرآن الكريم والاهتمام باليتيم رعاية وتعليما»، وساما معلقا على رمسها، لقد تناثرت أفضال الحاجة العزيزة على المجتمع التطواني، فلم يستطع اللسان التعبير عن عطائها وسخائها اللامحدود، وعجز اليراع أن يخط كلمات الشكر والثناء…
– السيدة خديجة أخريف، المولودة في فبراير من سنة 1943 م. امرأة بألف، تطوانية ترکت بصمات راسخات في ذاكرة العمل التطوعي بحاضرة تطاون.
لقد عاشت تجربة، كانت منعطفا فاصلا في مسارها الجمعوي، حيث بعد إنجابها من زوجها عبد الوهاب العمراني لطفلة وسموها بحنان لكن شاءت قدرة الباري جل وعلا أن تولد معاقة ذهنيا سنة 1961م لتلهم والديها فكرة تأسيس جمعية تعنى بالأطفال المعاقين ذهنيا، هذا الإلهام وهذه الفكرة سيكتب لها النجاح والتنزيل على أرض الواقع، لتشهد سنة 1969م. تأسيس أكبر وأشهر جمعية في حاضرة تطوان بل في شمال المغرب كله، جمعية حنان لرعاية الأطفال المشلولين والمعاقين، ولكن نظرا للصعوبات التي تعترض أي عمل جمعوي تطوعي كيف ما كان اعترضت الجمعية الفتية مشكلة إيجاد مقر لها، مما دفع السيدة خديجة أخريف وزوجها إلى اتخاذ مرأب بسيط في حي (باريو مالقا) مقرا أوليا للجمعية، لتتنقل فيما بعد إلى أماكن في الأحياء العتيقة، قبل أن ترسو سفينتها وتستقر في مقرها الكبير الواسع والنموذجي (الحالي).
سنة 1984م. أنشبت المنية أظفارها في بيت السيدة خديجة، لتخطف منها ابنتها «الْمُلْهِمَة» حنان عن سماء أمومتها، ثم فتئت أن اشتدت وطأة الظهر عليها برحيل رفيق روحها ومشروعها الخيري، المرحوم عبد الوهاب العمراني، لكن السيدة خديجة أخريف بقية شامخة بعزيمتها وإرادتها، ووفية لعهدها، حرصة كل الحرص على العناية بالأطفال المعاقين، والتخفيف من معاناتهم مهما كانت الظروف، ومهما اعترضت مشروعها من صعوبات، فآه ثم آه يا خديجة لقد أتعبت لمن بعدك، حتى وأنت في السبعين من عمرك تحملين على كاهلك المثقل برزايا الظهر، الاستمرار في العطاء، وإعادة البسمة إلى الوجوه البريئة، وكيف لا، وهي ترى فيهم ابتسامة حنان، وعطف عبد الوهاب.
– السيدة رشيدة المصطفى زوجة الشاعر الكبير محمد القيرواني، وأخت الملحن المتميز محمد المصطفى المرأة التطوانية التي راكمت التجارب والخبرات المرأة التي كافحت من أجل ترسيخ المبادئ الجليلة للعمل الجمعوي الهادف والراسخ في عمق الرؤى، لقد أوتيت من تفانيها في العطاء والبذل ما جعل المجتمع التطواني شاهدا على أعمالها الخيرة وحضورها المتمكن في النهوض بالعمل التطوعي.
إن مركزية رشيدة المصطفى في عدة جمعيات أبانت من خلالها عن عشقها للعمل التطوعي وللمبادرات الجمعوية الخلاقة كيف لا ووتر قلبها يعزف : أعيش حياتي على امتداد العمر الممنوح لي من حب الناس وتقديرهم ، واحترامهم، كيف لا، وبلبل يغرد: لا أشعر بكياني مكتملا إذا تقوقع العطاء في نفسي، آه عليك أيها البلبل الصداح، ستظل إسهاماتك في العمل التطوعي محفورة في ذاكرة تطوان.
وتجدر الإشارة هنا أن جهود السيدة رشيدة مصطفى في النهوض بالعمل التطوعي الجمعوي تتواصل في عدة جمعيات بحاضرة تطوان، من بينها «جمعية تطاون أسمير»، وهي من الجمعيات الرائدة بالحمامة البيضاء، وترأس السيدة رشيدة المصطفى بالجمعية نادي الطرز التقليدي الأصيل، وعضوا مستشارا بمكتب نفس الجمعية، كما أنها تشغل أمينة المال بكل من نادي التواصل ونادي حماية الأرامل والطفولة، التابعين لنفس الجمعية كذلك، كما تنتسب إلى جمعية المبادرة التنموية لتطوان والناحية، باعتبارها مستشارة، إلى غير ذلك من الجمعيات فهي بحق حمامة زاجلة في بساتين العمل الجمعوي، وبلبل صداح في حاضرة الأشراف، لسان حالها ومقالها رفقا بتقاليدنا يا أهل تطوان ! ! ! » .
بعد هذه الجولة الشيقة الموجزة في بساتين إسهامات المرأة التطوانية الفواحة عطرا ومسكا، المرأة التي برزت في مجالات مختلف تناسب وضعيتها وإمكاناتها داخل المجتمع، يخلص بنا البحث إلى الوقوف على العينة المختارة، والتي هي واحدة من رواد النهضة النسائية بالمغرب، ساهمت ولعقود في الرفع من مكانة المرأة التطوانية خصوصا والمرأة المغربية عموما، فمن هي هذه السيدة العظيمة؟ وما هو وقفها الخالد الذي أسهمت به في النهوض بالعمل التطوعي؟
عنوان الكتاب: المرأة التطوانية وإسهامها في البناء الحضاري والمعرفي
الكاتب: كتاب جماعي
الناشر: مركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد)
بريس تطوان
يتبع…