يتفق علماء النفس إجمالا على تلخيص الذاكرة بقدرة الدماغ على حفظ المعلومات. ولا جدال على هذا فمن طبيعة الدماغ أن يحفظ كل ما يشعر به الإنسان بواسطة حواسه الخمس وبطرق أخرى، حتى ولو كانت قدرة بعض الأدمغة على استيعاب المعلومات أقل من قدرة البعض الآخر. أما الذكاء فقد جرى حوله نقاش طويل بين علماء النفس والفلاسفة منذ القدم حتى كاد يستحيل أحيانا التوفيق بين مختلف الآراء التي قدمت بهذا الصدد. وإنما يجوز القول بوجه الإجمال إن الذكاء يتمثل في قدرة الدماغ على الربط بين المعلومات والمعطيات التي يحفظها، وموازينها وجمعها وتصنيفها أو تحليلها أو الاستفادة منها عند الحاجة، وبمختلف الطرق فإذا نظرنا إلى الذكاء من هذه الزاوية وجدنا أنه لا علاقة له بالثقافة فقد يكون المرء رجلا ذكيا جدا رغم أنه أمي، وقد يكون رجلا ضعيف الذاكرة رغم أنه عالم. وعليه، لا يمكن أن يقال بأن ذكاء الإنسان يضعف بنسبة ضعف ذاكرته ولكن يجب في الوقت ذاته أن نسلم بأن الذاكرة القوية تساعد الدماغ على العمل بكفاءة أعظم، بغض النظر على مستوى الذكاء لأنها تيسر له الاستفادة بطائفة أوسع من المعلومات.
فكيف تعمل الذاكرة ؟ وما هي العوامل الرئيسية التي تجعل الدماغ يخزن المعلومات ؟ لاشك في أن من طبيعة الدماغ أن يحفظ كل ما يشعر به الإنسان بحواسه الخمس منذ اليوم الأول لولادته، فالطفل الذي يعجز عن التمييز بين حرف وآخر مثلا، يستطيع مع هذا أن يميز بيسر بين الحرارة والبرودة والطعم الحلو والمر ورقة الصوت وحدته، ونظافة الرائحة أو خبثها. وهذا لا يكون إلا بفضل الذاكرة وإلا لاضطر الطفل إلى أن لا يدرك حقيقة أي أمر إلا إذا وقع له في وقت من الأوقات دون أن يستفيد من هذه التجربة في وقت آخر لاحق وعلى هذا يجب أن نسلم بأن لكل إنسان قدرا من الذاكرة التي تكفيه لإدارة شؤونه الحيوية. وأنه يستفيد من التجارب التي يحفظها في دماغه لمجابهة مختلف الأحوال والظروف.
ولكن الدماغ يستطيع كذلك أن يحفظ أمورا لم يجربها الإنسان فعلا بل جربها آخرون، والدماغ قادر أيضا على خزن معاني الألفاظ المجردة كالعاطفة والحزن والسرور والحماس إلى غير ذلك. ولا تختلف قوة الدماغ في خزن هذه المعاني عن قدرته في حفظ أسماء المدن أو الأشخاص أو المواد أو الأرقام. ولكن قدرته على تحليل هذه المعلومات والمعطيات واستنتاج معلومات أخرى جديدة عنها تختلف باختلاف الأشخاص. وهذه القدرة هي التي يطلق عليها علماء النفس اصطلاح الذكاء. ويتفقون أيضا على أن هذه القدرة تختلف تبعا لعوامل كثيرة منها البيئة والوراثة والمعتقدات. فلاشك في أن الأذكياء ينجبون عامة أولادا أذكياء وأن سكان المدن بصفة عامة يكونون أكثر دهاء وحيلة من سكان البادية ونصر هنا على لفظة “عامة ” لأن لكل قاعدة شواذها.
ومن جهة أخرى علينا أن نلاحظ أيضا أن للدماغ قدرة معينة لا يتعداها في حفظ المعلومات. وهذه القدرة أيضا تختلف باختلاف الأشخاص تبعا لنفس العوامل التي ذكرناها. ولهذا نرى أن المرء ينسى في مختلف مراحل الحياة مختلف المعلومات التي خزنها في وقت سابق، إما لأن تلك المعلومات أصبحت متقادمة العهد لا فائدة منها، وإما لأنها لم تعد تهم الشخص من وقت قريب أو بعيد. فمثلا لابد وأن تتذكر رقم البيت الذي تسكنه، ولكن يكاد يكون في حكم المؤكد أن تنسى رقم البيت الذي كنت تسكنه قبل عشرة أعوام أو عشرين عاما لأن هذا الرقم أصبح لا يهمك، وقدرة الدماغ على طرد المعلومات غير المفيدة أمر مستحب لأنه يمكنه من إفساح المجال لحفظ معلومات أكثر فائدة بدلا من تلك وهذا بالنسبة للظروف المحيطة به طبعا.
وقياس الذكاء أمر صعب. وكثيرا ما جرت معايرته بفحوص أطلق عليها اصطلاح ” فحوص الذكاء ” ولكنها معايير خاطئة من وجوه عديدة لأنها تستند أولا وأخيرا إلى قدرة الدماغ على حفظ المعلومات، بينما الذكاء هو القدرة على الموازنة بين تلك المعلومات، ثم إن قدرة الدماغ على الحفظ تنخفض بنسبة تقدم الإنسان في العمر ولهذا قيل إن الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر، على أن قدرته على الاستنتاج في المعطيات ربما تزداد بنسبة تقدمه في العمر، فهل هذا يدل على أنه أصبح أشد ذكاء ؟ كلا ! لأن الذكاء لا يكاد يتغير في المرء منذ أن وصل عنفوان الشباب وإن انخفضت قدرته على حفظ الحقائق. وحتى هذه القاعدة لها شواذها. فهناك أشخاص بلغوا الشيخوخة ومازالوا أقوياء الذاكرة وآخرون مازالوا في أواسط أعمارهم وقد ضعفت ذاكرتهم.
وهذا ملخص للموضوع الذي يستوعب المجلدات، والآن كلمة لمن يشكو من ضعف الذاكرة مهما كان عمره ومؤهلاته. لعل أفضل نصيحة له هو أن يكتب الشيء الذي يريد أن يتذكره مرة أو مرتين أو أكثر على ضوء التجارب السابقة لكي يسيطر الدماغ على ذلك الشيء سيطرة كاملة. فللذاكرة علاقتها القوية بالحواس، والنظر هو من أهمها والدليل على هذا هو أن الإنسان يتذكر أمورا كثيرة – يتخيل صورها سواء أكانت أرقاما أو أشخاصا أو معادلات رياضية.
والله الموفق/ 26/10/2008