“الطريقة القادرية البودشيشية في مواصلة المسير” (قوة الوصية وصيانة السر)
حينما نتحدث عن الطريقة القادرية البودشيشية فإننا نكون في حضرة متميزة بكل ما تحمل كلمة تميز وامتياز من معنى وإشارة.
والسبب في هذا هو أننا نتحدث عن طريقة معايشة بوجداننا وأجسادنا وأرواحنا ومهجنا وأشواقنا ،أو بعبارة أوجز كما عرفها شيخنا سيدي حمزة القادري بودشيش رحمه الله تعالى كتصوف قائم بذاته بأنها “أذواق وأخلاق وأشواق“.
ولقد كان صادقا كل الصدق فيما قال وما أشار ،إذ كل هذه المعاني قد أنزلت تنزيلا في رحاب الزاوية العامرة بمداغ ، ومعها كل الزوايا الفرعية عبر الوطن المغرب الحبيب وخارجه.
فهي طريق الحال لا تعرف بالمقال ولا تدرك بالأعمال، مع اختلاف في الرواية، وإنما هي من فضل الله.
ولست هنا بصدد سرد كل خصائص هذه الطريقة المباركة التي سبحت بنا في عالم الروحانية سبحا وأغطستنا في لجج البحار النورانية غطسا وجذبتنا إلى الحضرة العلية جذبا .
هذه الطريقة محورها الذكر الكثير لا غير ،محورها الشريعة الغراء لا غير ، محورها المحبة لا غير ، محورها الصدق في الصحبة لا غير . وعلى رأس تلك الأذكار قراءة القرآن بسلك وكثافة لا نظير لها في باقي الزوايا مما حاول البعض تقليدها أو منافستها ، وعلى رأسها أيضا وفي كل وقت وحين تكرار قول “لا إله إلى الله” بمئات الآلاف من المرات يوميا وفرديا وجماعيا، لا يكاد اللسان يتوقف عنها في اليقظة وحتى عند المنام ،إضافة إلى باقي الأذكار التي كلها ذات مرجعية شرعية صحيحة المصدر .
كما أن محورها السلوكي هو اتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله وسيرته مقالا وأفعالا وحالا…في الظاهر والباطن …
وأيضا فشيوخها وخاصة الذين صحبناهم سنين عددا،على رأسهم الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش الذي قضينا معه جل عمرنا وريعانه،ليسوا من الذين ينتخبون كما تنتخب الأمانات العامة للأحزاب والجمعيات وغيرها ، وإنما لهم قواعد شرعية قائمة على الاستحقاق الروحي والكفاءة والخبرة التربوية التي أخذوها سندا عن سند وإجازة عن إجازة تماما كما يجاز علماء الحديث وزيادة.
كما أنها ليست لعبة في يد أصحاب الأهواء يقبلون ما يعجبهم ويرفضون ما لا يتماشى مع مطامعهم وميولاتهم.وليس لكل من هب ودب أن يحكم على هذا الشخص أو ذاك بأنه أهل للتربية والصحبة أو غير أهل . فالتزكية من عند الله تعالى وليست من العباد. ولا يزكي إلا من له إذن وخبرة في الميدان…
وهذه الإجازة لم تكن بمجرد وصية قولية وإنما هي مكتوبة وبشهادة العدلين وشهادة أهل الشريعة من العلماء والوجهاء والصادقين من المنتمين للطريقة توقيعا وتأكيدا وتكريسا . فهي ،أي الطريقة، تورث السر وتعلن عنه من غير التباس. وهذه خاصية جمالية وحصانة نقية قد تقيها من العبث وتطاول الأدعياء والمتصيدين في الماء العكر.
بحيث إن وصية الشيخ الأول تثبت وصية الشيخ الثاني والثاني يبشر بالثالث على قاعدة “طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن رأى من رآني وآمن بي وطوبى لمن رأى من رأى من رآني وآمن بي ” كما ورد في الحديث.
ومن أهم الوصايا التي عايناها ولمسناها وكان لنا الشرف في التوقيع عليها نصا واطلاعا تلك التي تركها شيخنا سيدي حمزة رحمه الله تعالى ،وهي مكتوبة بخط عريض لا لبس فيه ولا تأويل. إذ ينص فيها على أن الوارث لسره بعده هو ابنه الدكتور جمال الدين الشيخ الحالي شافاه الله وعافاه ومن بعده حفيده الدكتور مولاي منير حفظه الله ورعاه.
وهذه المبادرة من الشيخ سيدي حمزة كانت كتحصين للطريقة وضمان لاستمراريتها بإذن الله تعالى ،وكذلك سدا للباب في وجه كل متلاعب ومروج ومثير للفتنة والشقاق بين أفراد العائلة البودشيشية وكذا مريدي الطريقة .
إذ الوصية من الناحية الشرعية وحتى القانونية غير قابلة للتقادم ولا للإلغاء والتراجع عنها ،سواء كانت في حياة الموصي فما بالك ما بعد وفاته .
في حين فالوصية من الشيخ الأول هي التي تثبت وتؤكد شرعية الشيخ الثاني ثم الثالث. وحتى لوفرضنا أنه أوصى بعشر شيوخ بعده فما كان يجب على المريدين سوى التسليم واحترام قرار الشيخ الموصي الأول ، وإلا فسيكون هناك عقوق وشقاق ونقض للعهد عند مخالفة الوصية وتحريف الوصية عن مسارها.
وهذا ما لم يحدث ولن يحدث أبدا، كما أنه لن يؤثر على مضمون الوصية، لأن أهل الدار أوعى وأذكى من أن تنطلي عليهم حيل المغرضين والخائضين و الماكرين . إذ الأمور قائمة بالله تعالى والطريقة مأذونة ومحاطة بعناية ربانية قد يئس إبليس من اختراقها مهما حاول…
ولهذا فالطريقة القادرية البودشيشية مؤسسة روحية خاصة ومستقلة لا أحد له الحق في أن يتدخل في سيرها واختياراتها إلا صاحبها وشيخها بالتسلسل والإذن . ولقد انتهى هذا التسلسل إلى الشيخ الدكتور سيدي جمال الدين أطال الله عمره ومن بعده ابنه البار سيدي منير الذي كرس شبابه بل منذ ريعان عمره لخدمة الطريقة والاجتهاد في نشرها داخل المغرب وخارجه.وما شهدنا إلا بما علمنا ،والله على ما نقول وكيل.
وهذا الشاب قد كانت الإشارة إليه بوراثة هذا السر منذ صباه ،وكنا نعرف هذا الأمر ونتداوله كلما كان والده الشيخ جمال الدين يصطحبه معه في زيارات نحو المدن وخاصة مدينة تطوان التي تحبه وتحترمه بشكل ملفت للنظر. في حين كان الكل يلقبه “ببشارة العارفين“أحب من أحب وكره من كره وذلك منذ عهد جد أبيه الشيخ سيدي العباس . ولهذا كالتزام وتأدب مع الشيوخ العارفين بالله تعالى فينبغي قبول البشارة بمحبة وتقدير تأسيا بسيرة رسولنا وحبيبنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الصادقين كما ورد في كتب السيرة والحديث ” عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله”…(نقلا عن عمدة القار يشرح صحيح البخاري)…
وعلى ذكر مدينة تطوان فإنه قد كان فيها رجل يسمى بسيدي عبد السلام يسكن بحي التوتة يعرفه الفقراء ويزورونه بين الفينة والأخرى . وهذا الشخص كانت له كشوفات مشوقة تحدث فيها مع الشيخ سيدي حمزة رأسا لرأس، فيما أكد لي هذا شيخنا سيدي حمزة بنفسه.
كما كان من بين ما نقله عنه الفقراء هو أنه كان يقول بأن الذي يظهر له في شاشته من ورثة سر الطريقة ولد صغير لم يحن وقته بعد والذي لم يكن سوى الدكتور مولاي منير . بل في لقاء خاص أوصاني هذا السيد عبد السلام قائلا: “حينما تذهب إلى زاوية مداغ والتقيت بهذا الولد، الذي هو منير ، انظر إلى وجهه ثم انصرف” . وفعلا كنت أطبق في بعض الأحيان هذه الوصية ولست أدري ما الحكمة منها…
فهذه مجرد حكاية استئناسية تضاف إلى الحقيقة الثابتة بخصوص مواصلة السير على نهج الطريقة ، والتي أساسها الوصية الأولى التي هي أصل الثانية ،بحيث كلاهما تنصان على وراثة الدكتور مولاي منير لسر جده ووالده بعد عمر طويل إن شاء الله تعالى،والذي فيه ضمان لاستمرارية نهج الطريقة وحفظ لمكانة إخوته وباقي أفراد عائلته ، وما دون هذا التفسير فكله تأويل وتحريف لمقتضيات الوصية وتصيد في الماء العكر وسعي بائس ويائس للإيقاع بين الإخوة والشرفاء . ولكن هيهات هيهات فللبيت له رب يحميه وللسر حصن لا يطلع عليه إلا من اختصه الله به و”الله أعلم حيث يجعل رسالاته””يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ”.والله الموفق والهادي للصواب.