هذا سؤال آخر يتبع إبراز الجريدة الجيدة، وهو نظريا شبيه بالسؤال عما يصنع طعاما جيدا، ويختلف الجواب حسب المكان والعادات، ومشتهيات الإنسان وهو من ناحية مبدئية انعكاس للأذواق البشرية.
ليس من الضروري أن تكون الجريدة الجيدة، تلك التي لها أكبر رواج أوvأكثر إعلان، وربما لا تكون أجيد الصحف في مجتمعها، مع العلم أن هذه كلها أمور منشودة ومرغوبة.
قد لا يكون لذا الجريدة الإمكانات والخدمات الميكانيكية التي تساعدها على الجمع والإنتاج والتوزيع اليومي والكفاءة الفنية والأخبار المؤثرة والعرض الريبورتاجي كلها، على الرغم من أهميتها عوامل ثانوية في صنع جريدة ناجحة بالفعل فهي لا تعوض أبدا عن الصحافة المكافحة المكرسة لخدمة الصالح العام.
وببساطة تكون الجريدة جيدة عندما يصفها المجتمع بأنها كذلك، وعندما تكون مؤازرة المجتمع الذي تنطق باسمه ومن أجله، واحترامه وثقته.
الصحف مثل البشر في الوقت الذي يرى وجهه في المرآة، ولكن الصحف عموما وفي غالب الأحيان تنجح أو تفشل حسب إمكاناتها، وبالتالي بالنسبة إلى قدرتها على الدفاع عن صالح المجتمع العام.
والقراء هم الذين يصدرون الحكم النهائي على مركز الجريدة في المجتمع، والنقطة الرئيسية بالنسبة إليهم، أكثر مما هو من أجل مصالح أصحابها، الشخصية السياسية، والاجتماعية، ومعروف في هذه الأيام أن الاستقلال الاقتصادي هو أحد الضروريات الأساسية في استقلالها التوجيهي ومن المؤكد أنه لم تكتشف بعد قاعدة لصناعة الجريدة الجيدة والشيء الثابت الوحيد في ذلك هو التبدل عينه، ويجب فحص الأساليب والغايات والنتائج، وإعادة فحصها يوميا إذا أريد للجريدة أن تبقى متطورة مع حاجات عصرنا ومفاهيمه المتطورة تطورا سريعا وانخفاض الرواج هو الجزاء الأكيد للمحرر الذي يقتنع بقاعدة النجاح كما كانت بالأمس ولا يغيرها.
وأمر أساسي آخر للجريدة الجيدة (أن تستحق الجريدة السمعة الكريمة التي لها) هو أن يكون لها استقلالها التوجيهي والاقتصادي، ولكن هذه الصفات نفسها بحاجة إلى أن يستعاض عنها بالقيم التي تجعل من الصحافة مهنة تقوم على التحرر من أي مصلحة ضد المصلحة العامة.
وهناك فنون مهنية تساعد على الحصول في ثقة القارئ واحترامه وعلى الحفاظ على تلك الثقة والاحترام، ويمكنه تعلم بعض هذه الفنون بالتقليد، إلا أن الفنون الأكثر أهمية تأتي بالبديهية، أو أنها لا تأتي أبدا، فإن الجريدة الجيدة توشي طريقة تقديم الأخبار بحرص أنها تبشر اهتمام القارئ بأخبارها إلى أقصى حد، وتقبل بالإشارة العاطفية وبالتشويه في نقل الأخبار الصحيحة إلى أقل حد، إنها تتجنب الخدعة الطباعية وتقدم الأخبار بأسلوب منظم ينسجم مع ارتياح القراء، إنها تسعى للحصول على أتم أشكال الموضوعية في تقديم الأخبار وتحصر رأيها في الافتتاحية، فالموضوعية الكاملة هدف تعمل الصحف إليه دوما، ولكن الحصول عليه لا يتم مطلقا، لأن ليس من شخصين ينظران إلى المنظر أو الحادث نفسه ويريان الرؤيا نفسها (مثلا) كل منا يرى زاوية بيته حسب مكان جلوسه).
وليست التقنية حتى ولو فنونها كاف لصنع الجريدة الجيدة على الرغم من أهميتها إذ أن الذي يكون نوع النجاح الذي هو قوة الصحافة إنما يكمن في قلب الجريدة وفكرها، في غاياتها ومعتقداتها وفلسفتها والنقاد المهرجون الذين عينوا أنفسهم بأنفسهم في أحيان كثيرة لا يرون ولا يعرفون أن قوة الصحيفة ليست استبدادية مطلقة، بل هي مبنية على قدرتها على أن تثقف وتحلل، إن غاية الجريدة أن تنير لا أن تملئ.
ومن حق القارئ أن ينفر من الصحيفة التي تريد أن تحكمه. إن القراء يريدون من صحفهم أن تحيطهم علما بالتاريخ يوما بعد يوم، إلى أقصى حد من الإحاطة.
وهذه الإحاطة هي الأخبار ، ثم أن القارئ يتوقع من الصحف تفسيرات وآراء توجيهية ترشده في تكوين أحكامه حيال قضايا العالم.
والواقع أن تحرير الجريدة المستقلة، إذا كان تحريرا مقنعا لا ينطوي على أي حقوق أو امتيازات فكرية، بل أن التحرير عبارة عن أمانة تدار في سبيل الصالح العام ، أن الحريات التي ضمنها الدستور للصحافة في الدول الديمقراطية، هذه الحريات لم تكن من اجل تعظيم شخصية أي محرر، وإنما وضعت من أجل تزويد القراء بالحقيقة وتنوع الرأي وعلى أساس المعرفة التي يحصل القراء عليها، بهذا السبيل يستطيع القراء أن يكونوا لأنفسهم أحكاما صائبة.
الصحف هي أساس بناء الديمقراطية الحقة، وبسبب هذه الحقيقة منحت الصحف من الامتيازات والحقوق الدستورية ما لا يمنح لمشاريع أخرى.
غير أن هذه الحقيقة تعنى من جهة ثانية، أن على الصحف واجبات تفرض من المحررين تنفيذها بدقة وأمانة ووعي، لتقديم الحقائق التي هي لقمة الرأي العام.
في محاضرة ألقاها الصحفي الأمريكي في الخمسينات روبي هوارد كما قال “إن الصحافة الأمريكية في صراع مع العقائد الخارجية المتحدية مدعوة لأن تؤدي أعظم ربما أصعب أدوارها، عليها واجب تفهيم قصار النظر ومحددين الخيال من عمال ومن أصحاب المال، أن مصالح كل منهم يجب ألا تتقدم مصالح الشعب كله…. وقال ستظل الصحف في أمريكا تهدد الغوغاء والكذابين، وتقدم العون الرئيسي لمن ينشد الحقيقة ليستعملها في خدمة الإنسانية، وعندما يتكلم عن الصحافة بهذا الخصوص لا يقصد جريدة معينة، أو صحيفة معينة أو مدرسة معينة للفكر الصحافي، نعلم من ان هناك معترضون ومعاكسون، ولكن هؤلاء أيضا قد يخدمون هدفا قيما يملك التحدي الذي يسلكون… وقال إنني واثق من أن الصحافة الأمريكية لن تعجز عن أداء واجبها، وذلك حكم ينهض على اختيارات الماضي، انقذوها وراقبوها ،حاسبوها ولكن استودعوها ثقتكم، لا تسمحوا لأي قوة أن تهدمها، أو أن تحد من حريتها، ذلك أن هذه الحرية لا يحد منها أو ينتهي أمرها إلا وينتهي أمركم، وأمر هذه الديمقراطية التي ما زالت مع كل نواقصها أكثر الحكومات التي أبدعها العقل البشري حرية وضياء”.
لقد حملت صحف هوارد سكريبس – كلها خلال السنين، الارشادات لمحرريها وموظفيها لنشر هذا المعتقد الأساسي.
بقلم: المرحوم ابن تطوان الكولونيل عبد النبي عبد القادر الجحرة
نقلا عن كتابه: الصحافة علم واختصاص
بريس تطوان
يتبع…