الرسل عليهم الصلاة والسلام، والمدافعة بين ثقافة الرحمة وثقافة الاستكبار (الحلقة الرابعة) - بريس تطوان - أخبار تطوان

الرسل عليهم الصلاة والسلام، والمدافعة بين ثقافة الرحمة وثقافة الاستكبار (الحلقة الرابعة)

وبعد 23 سنة من تنزيل القرآن المتوازي مع البيان النبوي، وبعد جهاد متواصل، باللسان، وبالمال، وبالنفس للنبي، صلى الله عليه وسلم، وللصحابة، رضي الله عنهم، اكتملت رسالة الرحمة، ونزل قوله تعالى ممتنا بهذا الاكتمال في حجة الوداع: ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾.  [المائدة: 4]

فما هي ملامح الرحمة في منهج الإسلام الخاتم، الذي حمله الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتمثَّله ودعا إليه، وأمر المسلمين بتمثله، والدعوة إليه؟

وما هي ملامح الرحمة في أوصاف الرسول، صلى الله عليه وسلم، وفي خصائصه؟

منهج الإسلام كله رحمة في العقيدة، وفي العبادة، وفي الشريعة، وفي كل المجالات: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾.[الأنبياء: 106]

وسأقتصر من ذلك على ستة ملامح، أراها كافية لتقديم صورة واضحة عن خصيصة الرحمة في الإسلام، وبعدها أعرض ملامح الرحمة في أوصاف الرسول، صلى الله عليه وسلم، وفي خصائصه:

أولا: ملامح الرحمة في منهج الإسلام:

1- قام الإسلام على الرحمة المتمثلة في شهادة الحق: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، التي تنفي الألوهية عن كل ما سوى الله تعالى، وتثبتها لله تعالى وحده، بمعنى أنها تثبت التوحيد لله، عز وجل.

* فالله تعالى هو الخالق وحده:  ﴿ أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون﴾. [النحل: 17]

* والله تعالى هو المالك للأحياء والأشياء وحده: ﴿ لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير﴾. [المائدة: 122]

* وهو المدبر وحده لأمور الناس والكون: ﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أو من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق﴾. [يونس: 31-32]

*  وهو العليم بما خلق وما دبر: ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾. [الملك: 13-14]

﴿ وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون﴾.[الأنعام: 4]

* وهو المعبود بحق، القادر على الاستجابة، تتوجه إليه المخلوقات كلها بالرجاء، وبالسجود: ﴿ ألم تر قرآن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم﴾. [الحجر: 18]

وهو- بالتالي- الحاكم، على المستوى الطبيعي، وعلى المستوى الاجتماعي: ﴿ والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون﴾. [يس: 36-39]

﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون﴾.[المائدة: 51-52]

إن هذا المضمون للألوهية والربوبية يحسه الإنسان في دخيلة نفسه، فهو الشعور المغروز الذي وضعه الله تعالى في الإنسان يوم خلقه، فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها: ﴿ وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا﴾. [الأعراف: 172]

﴿ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل للخلق الله ذلك الدين القيم﴾. [الروم: 29]

حقيقة أن للإنسان استعدادا مزدوجا للخير وللشر:﴿ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها﴾ [الشمس: 8]

وأن الشياطين اللعينة توسوس للإنسان بالشر من خلال النفس الأمارة بالسوء: خلقت عبادي حنفاء([1]) كلهم، وإنهم أتتهم الشيـاطين، فأجتـالتهم عن دينهم([2]).

ولكن هذا الازدواج غير ذي شأن بجانب الفطرة العميقة في الإنسان؛ والدليل على هشاشة هذا الازدواج:أن أي ابتلاء بالشدة يذهب به، فينساه الإنسان بالمرة، ولا يبقى له تأثير، وتعود للفطرة وظيفتها الرشيدة؛ فعندما تحيط بالإنسان شدة غير منتظرة لا يجد ملجأ يحتمي به إلا الله، عز وجل، يدعوه بإخلاص، فينقذه: ﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين.فلما أنجاهم إذاهم يبغون في الأرض بغير الحق﴾. [يونس: 22-23]

إن فرعون موسى، عليه الصلاة والسلام، لما أحس أنه يغرق في البحر الأحمر، خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد، التجأ إلى الله تعلى ضارعا، يرجوه الإنقاذ من الغرق، وذهل عما كان يدعيه طوال حياته من التأله في الأرض؛ لكن كان أوان التوبة قد فات، فلا توبة عند اليأس من الحياة.

﴿ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ألآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾.  [يونس: 90-91]

وإذن: فالإحساس بالربوبية والألوهية هو الرحمة الأولى في الإسلام التي وضعها الرحمان الرحيم منطلقا لكل أنواع الرحمات في المنهج التي بعث به جميع الأنبياء، وبعث به خاتمهم محمد، عليهم الصلاة والسلام.

2- أما الرحمة الثانية التي تسري في جميع أجزاء الشريعة فهي ربط التكاليف باستطاعة الإنسان المكلف، ورفع الحرج فيها عند احتمال الإرهاق؛ فالقيام في الصلاة شرط للعبادة، ولكن المريض الذي يرهقه القيام يصلي جالسا، والمسافر الذي يرهقه الصيام يفطر، ويقضي عند الرجوع من السفر، والقرض الربوي حرام، ولكن المريض الذي تصبح حياته مهددة، ولا يجد مالا حلالا للعلاج، يباح له أن يقترض بالربا، للخروج من حالة الضرورة: ﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليضهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾. [المائدة: 7]

﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾. [الأنعام: 120]

والجهاد لنصرة الإسلام ونبي الإسلام واجب؛ لكن الضعفاء من النساء والعجزة معفون، بشرط أن ينصحوا للإسلام بما يستطيعون: ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم﴾.[الحج: 76]

﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا تصحوا لله ورسوله﴾. [التوبة: 92]

3- أما الرحمة الثالثة فهي رعاية الشريعة للمصلحة في كل التشريعات؛ وبالمعنى الحقيقي للمصلحة الذي يشمل الدنيا والآخرة؛ فالشعائر تساعد الفطرة، وتقوي اتجاه الاستقامة والانضباط: ﴿ إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر﴾.[العنكبوت: 45]

﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾.  [البقرة: 182]

وإعدام القاتل، والمرتد، والزاني المحصن، وممارس الشذوذ الجنسي؛ إعدام هؤلاء مصلحة للمجتمع؛ لأنه تطهير للمجتمع من ضرر التلاعب بالعقيدة، حيث يُسْلِمْ الشخص في أول النهار، ويرتد في آخره، لتشكيك المسلمين في دينهم: ﴿ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، واكفروا آخره لعلهم يرجعون﴾.[آل عمران: 71]

ولهذا كان العقاب مشددا يردع المتلاعبين بالنظام العام للمجتمع: من بدل دينه فاقتلوه([3]).

ولأن ذلك الإعدام حماية للحياة من الاعتداء؛ فمن علم أن ما فعله بحياة الغير سينعكس على حياته بنفس الفعل، سيرتدع عن الاعتداء؛ ولهذا قال الله، عز وجل: ﴿ ولكم في القصاص([4]) حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون﴾.[البقرة: 178]

﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى﴾. [البقرة: 177]

وأيضا في ذلك ردع لجرائم الأعراض والأنساب، وردع لجرائم الاعتداء على كرامة الأسرة وتماسكها، وعلى كرامة الإنسان بعامة: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به([5]).

4- أما الرحمة الرابعة فهي حفظ السلام الفردي والأسري، والمجتمعي والدولي: ﴿ يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين﴾.[البقرة: 206]

([1])- الحنيف: الميال إلى الحق بطبعه واتجاهه العام.

([2])- صحيح الإمام مسلم، رقم: 2.865.

([3])- صحيح الجامع الصغير وزياته، رقم 6001. وهو للإمامين البجاري وأحمد.

([4])- القصاص: معاقبة الجاني بمثل ما اعتدى به على الغير وبمقداره.

([5])- صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم: 6.465.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.