الرسل عليهم الصلاة والسلام، والمدافعة بين ثقافة الرحمة وثقافة الاستكبار (الحلقة الثالثة)
وجاءت فترة تعتبر أحلك فترة في تاريخ الصراع بين ثقافة الرحمة وثقافة الاستكبار؛ وذلك يوم أن حلت توراة عزرا بن سرايا محل توراة موسى، عليه الصلاة والسلام، فمنحت توراة عزرا هذه اليهود امتيازا:
أن لهم إلههم الخاص بهم إسمه (يهوه)، ووصفتهم بأنهم شعب الله المختار الذي أرواحهم جزء من روح الله، بينما أرواح بقية البشر هي أرواح حيوانية في جسم من صورة إنسان؛ ومن هذا التزوير صار الأنبياء يقتلون بفتاوى تصدر عمن يعتبرون أنفسهم ورثة الأنبياء؛ لقد قتل زكرياء وابنه يحيى، عليهما الصلاة والسلام، بفتاوى السنهدرين (المجلس الأعلى اليهودي)؛ وبنفس الفتوى صدر الحكم على نبي الله؛ عيسى بن مريم، عليه الصلاة والسلام، بالإعدام، والصلب؛ وجرت المحاولة للتنفيذ، لولا أن تدخل الله، عز وجل، فرفع رسوله عيسى بن مريم إلى السماء، وألقى شبهه على عدوه: يهوذا الأسخر يوطي، الحواري في الظاهر، عدو عيسى بن مريم في باطنه، على غرار ما سيكون بجانب خاتم النبيئين محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام، منافق عربي إسمه عبد الله بن أبي بن سلول: ﴿ وقولهم إن قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لقي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكن الله عزيزا حكيما﴾. [النساء: 156-157]
﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين يغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم﴾. [آل عمران: 21]
وبعد الظن بقتل عيسى بن مريم أفرغت رسالته في الثقافة الهيلينيستية التي جمعت كل وثنيات العصر من الشرق إلى الغرب، فعل ذلك يهودي من مدينة طرسوس بجنوب تركيا، إسمه اليهودي: شاوول، وأصبح إسمه المسيحي بولس، فعل ذلك ما بين سنة 50 و 60 م، وتبعه على ذلك مجامع الكنسية، ثم الأناجيل، وخاصة الأربعة المتداولة اليوم، وكانت النتيجة: أن عيسى بن مريم الذي جاء لينقذ بني إسرائيل من الوثنية، التي انحدروا إليها، أصبح هو وثنا يعبد من دون الله، عز وجل، ولقد فضح القرآن وأدان هذا التشويه لرسالة وشخصية عيسى بن مريم، عليه الصلاة والسلام:
﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد﴾. [المائدة: 74- 75]
وعانت البشرية الويلات من ثقافة الاستكبار ومن النتائج المترتبة عليها، بما تضمنت من شرك العقيدة، وشرك العبادة، وشرك التشريع، ويكفي، كمثال: أن إمبراطور بيزنطة: نيرون أحرق، سنة 64م، جزءا مهما من عاصمة ملكه روما، ذات المليونين من الساكنة، ليوسع قصره، وليجمل المدينة، ثم نسب جريمة الإحراق للمسيحيين ليبرر إبادتهم([1]).
وأمام هذا الوضع بالغ السوء أدرك العقلاء في البشرية من العرب ومن العجم: أن المآسي المحيطة بالبشرية لا يمكن أن تزول إلا بدين حق، يعتمد كلمة الله تعالى وكلمة رسله، عليهم الصلاة والسلام، ويرفض الشرك بكل أصنافه: الشرك الديني لدى اليهودية والمسيحية، والشرك الوثني لدى العرب وغيرهم، وهكذا تحرك زيد بن عمرو بن نفيل بن الخطاب فيما يرويه الإمام البخاري، من مكة نحو الشام أرض الأنبياء، باحثا عن الدين الحق، فقال لحبر يهودي في الشام:
إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني.
فقال الحبر اليهودي: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله.
فقال زيد بن عمرو بن نفيل: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأني أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟
قال الحبر اليهودي: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا.
فقال زيد: وما الحنيف؟
قال الحبر: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا، ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله.
فخرج زيد، فلقي عالما من النصارى، فذكر مثله، فقال عالم النصارى: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله.
فقال زيد بن عمرو بن نفيل: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا، وأنى أستطيع ذلك؟ فهل تدلني على غيره؟
قال عالم النصارى: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا.
قال زيد: وما الحنيف؟
قال عالم النصارى: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا، ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله.
فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم، عليه السلام، خرج، فلما برز، رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد: أني على دين إبراهيم([2]).
ثم قال زيد بن عمرو بن نفيل لأحد أصدقائه، وهو عامر بن ربيعة: أنا أنتظر نبيا من بني إسماعيل، يبعث، ولا أراني أدركه([3])، وأنا أومن به، وأصدقه، واشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فآقره مني السلام.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أعلمت النبي، صلى الله عليه وسلم بخبره، فرد عليه السلام، وترحم عليه، وقال: رأيته في الجنة يسحب ذيولا، وقال: يبعث يوم القيامة أمة وحده([4]).
وخرج سلمان الفارسي من المعبد الذي كان يقيم عليه للنار المجوسية، في أصبهان بجنوب إيران، باحثا عن الحق الذي خرج من أجله زيد بن عمرو بن نفيل، فقال له راهب نصراني في عمورية بالعراق نفس ما قاله الحبر اليهودي والعالم النصراني لزيد بن عمرو بن نفيل، في الشام، ثم بشره بنبي يبعث قرب زمانه:
قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجرا إلى أرض بين حرتين([5])، بينهما نخل، به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل([6]).
وبعث الرسول محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام، بإحياء ملة إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، القائمة على التوحيد الخالص، وعلى عبادة الله وحده، عقيدة، وشريعة، وأخلاقا، أعني بعث بمقومات ثقافة الرحمة: ﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كأنه حنيفا مسلما وما كان من المشركين. إن أولى الناس بإبراهيم للذين آتبعوه وهذا النبيء والذين آمنو﴾. [آل عمران: 66-67]
وعلم الباحثون عن الحق بالبعثة النبوية في مكة، فاتصلوا برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان من أوائل المسيحيين الذين آتصلوا به: ورقة بن نوفل ابن عم أم المؤمنين خديجة، رضي الله عنها، قال للرسول، صلى الله عليه وسلم، وقد قص أمامه ما حدث له في غار حراء:
هذا الناموس([7]) الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك، فقال الرسول، صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جيئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا([8]).
فآمن ورقة بن نوفل برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد قال عنه، صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا ورقة، فإني قد رأيت له جنة أو جنتين([9]).
وفي المدينة المنورة ومباشرة بعد الهجرة النبوية، جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو في دار أبي أيوب الأنصاري، الحبر اليهودي عبد الله بن سَلاَم، فسأل الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن ثلاث مسائل، قال عنها: لا يعلمك إلا نبي، فأجاب الرسول، صلى الله عليه وسلم، عنها، فما كان من الحبر إلا أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله([10]).
ومن المدينة المنورة، وبعد صلح الحديبية سنة 6 هـ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتابا إلى أكبر علماء النصرانية بروما مركز المسيحية، وهو الأسف الأكبر ضَغَاطِر، فآمن الأسقف الأكبر برسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونزع الملابس السوداء للرهبان، ولبس لباسا أبيض، وخرج يدعو إلى الإسلام، فضربه المسيحيون ورهبانهم، حتى أكرمه الله تعالى بالشهادة في سبيله([11]).
وفي مقابل هذا الموقف الإيجابي للمسلمين واليهود الباحثين عن الحق، وللحنيفيين العرب وبعض من كانوا وثنيين، كان موقف المستكبرين الرفض والعداء للرسالة وللرسل؛ سواء في ذلك اليهود، أو النصارى، أو الوثنيون العرب، كأبي جهل وأبي لهب، وحَيَىٍّ بن أخطب وأمثالهم، الذين أعلنوا تعجبهم من دعوة الرسول محمد، عليه السلام، إلى عبادة الواحد الأحد، وقد كانت الديانة الأخيرة تدعو إلى عبادة ثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس، أو اثنين: الأب والإبن وحدهما لدى بعض النصارى واليهود:
( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم، وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق). (ص 4-7)
﴿ وقالت اليهود عُزَيْرُ بن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى يوفكون﴾. [التوبة: 30]
وصابر الرسول صلى الله عليه وسلم، في مواجهة ثقافة الاستكبار، كما صابر الرسل أولوا العزم من قبله: نوح، إبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم الصلاة والسلام، وكان، عليه السلام، يردد ما كان يردده نوح، عليه السلام: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون([12])
([1])- المسيحية والإسلام والاستشراق، ص: 253.
([2])- صحيح الإمام البخاري بشرح فتح الباري، ج: 7، ص: 142، رقم: 3.826، والمعجم الكبير للطبراني، رقم: 4.663.
([3])- توفي زيد بن عمر بن نفيل قبل البعثة النبوية بخمس سنوات.
([5])- الحرة أرض ذات حجارة سوداء، وللمدينة حرتان من جهتين.
([6])- صفة الصفوة، ج: 1، ص: 201، لعبد الرحمان ابن الجوزي.
([7])- صاحب السر أي الوحي، وهو جبريل عليه السلام.
([8])- صحيح الإمام البخاري بشرح فتح الباري، ج: 1، ص: 23، رقم: 3.
([9])- مستدرك الحاكم، ج:2، ص: 609، وصححه الألباني في الصحيحة رقم: 405.
([10])- صحيح الإمام البخاري بشرح فتح الباري، ج: 7، ص: 272، رقم: 3.938.
([11])- طبقات ابن سعد، ج:1، ص: 276، وسفراء النبي، صلى الله عليه وسلم، ج: 2، ص:92.