الرسل عليهم الصلاة والسلام، والمدافعة بين ثقافة الرحمة وثقافة الاستكبار (الحلقة الثانية)
الدين بموازاة الفطرة هو مصدر ثقافة الرحمة في حياة الإنسان، وهو بالتالي، مصدر حضارة الرحمة، التي تعطي الإنسان أدواته المتعددة لصناعة الرحمة وتعميمها على المخلوقات، بعيدا عن صناعة التدمير.
إن ثقافة الرحمة ترتبط بالتوحيد؛ حيث يؤمن الإنسان بالله تعالى ربا، يخلق ويدبر أمور الإنسان والكون؛ وحيث يؤمن به كذلك إلها، يعلم كل شيء، ويحكم طبيعيا وتشريعيا، ويجازي على العمل في الدنيا أو في الآخرة بالعدل والإحسان، ويميز في الجزاء بين الإنسان الصالح والإنسان الفاسد المفسد: ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون﴾ [الأنعام: 161] ﴿ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون﴾ [القلم: 35-36] ﴿أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون﴾ [الجاثية: 20]
وأيضا، حيث يتعبد الإنسان لله تعالى وفق المنهج الذي وضعه الله، عز وجل، للعبادة بمعناها الخاص، الذي يعني الشعائر، فتزكو نفس الإنسان بالصلاة والصيام والزكاة وما إليها، ويزداد خيره ورحمته: ﴿وأقم الصلاة إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر﴾. [العنكبوت: 45] ﴿خذ من أمالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها﴾ [التوبة: 104].
ومن ثم، يحيا الإنسان حياته كلها عابدا لله تعالى بالمعنى العام للعبادة، الذي يعني التزام المنهج الشامل للحياة الذي أنزله الله، عز وجل، على رسله، علهم الصلاة والسلام، في المعاملات المالية وغيرها، وفي العلاقات الداخلية والخارجية، مع المسلمين ومع غير المسلمين، ومع الأحياء كلهم، ومع البيئة: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون﴾. [البقرة: 277-278] إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها([1]).
كان الإنسان في مراحل حياته الأولى يعيش على ثقافة الرحمة، وعلى حضارتها، فيما يرويه عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، مرفوعا إلى رسول الله، ص:
كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين([2]).
بمعنى أنه بالانحراف عن التوحيد، وجد الشرك، ووجد الاختلاف بين الجماعات البشرية، فكانت ثقافة الاستكبار في مواجهة ثقافة الرحمة، ظهر شرك العقيدة وشرك العبادة أولا، فعبدت الأصنام مع الله تعالى أو دونه، وعبد البشر المتأله في عدد من الحضارات كنمرود بابل، معاصر إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، خلال القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وكفرعون مصر معاصر موسى بن عمران، عليه الصلاة والسلام خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ لقد دعا إبراهيم الخليل النمرود إلى الإسلام، وقدم له الله تعالى بأنه الذي يحيي ويميت، فأجاب النمرود بأنه هو، أيضا، يحيي ويميت: ﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في رب أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت﴾. [البقرة: 257]
ودعا موسى فرعون مصر إلى الإيمان بالله ورسوله، فأجاب الفرعون: ﴿لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين﴾.[الشعرء: 28]
ثم ظهر شرك التشريع، فشرع للناس البشر المتأله من أمثال النمرود والفرعون، وشرع الوسطاء الذين يدعون: أنهم يجمعون جانبا ناسوتيا يتصل بالناس إلى جانب لاهوتي يتصل بالآلهة وهؤلاء هم الكهنة وسدنة المعابد الذين يشرعون للناس ما يخالف شرع الله، باسم آلهتهم؛ فكانت الجاهلية التي تعني الرضا بوضع نفسي واجتماعي يحتكم لغير شرع الله، عز وجل، فالتشريع حق من حقوق الله تعالى على عباده، ومن خصائص الألوهية الحق وحدها؛ لأنه مظهر من مظاهر العبادة: ﴿إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون﴾. [يوسف: 40] ﴿أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون﴾. [المائدة: 52]
بدأت ثقافة الاستكبار، لأول مرة في تاريخ البشرية، كما سبقت الإشارة([3])، مع قوم نوح، عليه الصلاة والسلام، فقد دعا نوح قومه إلى الإسلام: ﴿يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم﴾. [الأعراف: 58] فأجاب القوم: ﴿أنؤمن لك واتبعك الأرذلون﴾ [الشعراء: 111]
ثم حث المستكبرون قومهم على الثبات لعبادة الأصنام، ولم يسمعوا لنوح الذي وصفوه بالضلال المبين: ﴿قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين﴾ [الأعراف:59] ﴿وقالوا: لا تذرن آلهتكم ولا تذرون ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا﴾ [نوح: 23]
وصبر نوح، عليه السلام، خمسين وتسع مائة سنة، يدعو قومه إلى الإيمان بالله ورسوله، دون جدوى؛ ولما يئس من استقامتهم دعا عليهم بالاستئصال؛ لأن فطرتهم قد فسدت، فكان إصرارهم على أن يعيشوا حالة استكبار لا رجعة عنه: ﴿رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا، وإني كل ما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا﴾ [نوح: 28-29]
وكان الطوفان الذي أنهى وجود الكافرين من قوم نوح، عليه الصلاة والسلام، في نفس الوقت نجا الله نوحا، والمومنين معه: ﴿ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة﴾. [العنكبوت: 13-14]
وتتابع الصراع بين ثقافة الرحمة وثقافة الاستكبار مع أنبياء الله: هود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، ويعقوب، وموسى، وغيرهم، عليهم الصلاة والسلام؛ تارة تنتصر ثقافة الرحمة، مع ازدهار الإيمان، وتارة تنتصر ثقافة الاستكبار، مع ضعف الإيمان وانحساره، في حياة الأنبياء، أو بعهد وفاتهم، لكن الصراع كان ينتهي بإبادة أعداء الله ورسله: ﴿فكلا أخذنا بذنبه فمنم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم ظالمون﴾ [العنكبوت: 40]
([1])- مجمع الزوائد ج 4، ص 108، رقم: 6.236، وهو صحيح، الفسيلة: النخلة الصغيرة.
([2])- مستدرك الحاكم، ج 2، ص: 596، وصحح الحاكم، ووافقه الذهبي.