التعمير ومواكبة التنمية الجهوية - بريس تطوان - أخبار تطوان

التعمير ومواكبة التنمية الجهوية

تندرج الجهوية المتقدمة في إطار إعادة صياغة الهندسة السياسية والإدارية للمملكة من خلال تكريس اللامركزية و اللاتمركز  كمنظومة للحكامة الترابية و لاتخاذ القرار و اعتبار الجهة الفضاء الأمثل لتحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية والترابية. و لتحقيق هذا المبتغى، تم تجديد الترسانة الدستورية والقانونية و المؤسساتية في أفق  توفير الشروط  الكفيلة بمعالجة و تصحيح  الإشكالات الترابية و ترجمة إرادة التنمية.

و يظل تحقيق  التنمية الجهوية رهين باعتماد مقاربات جديدة و أنماط  تدبيريه مبتكرة  من طرف الهيئات المنوط بها صياغة و تنزيل مخططات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية. كما يقتضي  ذلك تعاون جميع مستويات الحكامة الترابية  المعنية ) الجهة، الإقليم، الجماعة) مع المصالح الخارجية و المؤسسات العمومية المعنية مثل مؤسسات التعمير التي تعتبر قوة اقتراحيه و تدبيريه  قادرة على تجويد العرض  الترابي  الجهوي و المحلي و المساهمة في تنزيله.

مكانة متميزة للجهة لتحقيق التنمية الترابية:

يأتي  تبني الجهوية المتقدمة في إطار تكريس دستور 2011 للامركزية كأسلوب للتدبير الترابي حيث تتبوأ مؤسسة الجهة مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الأخرى في عمليات إعداد و انجاز المشاريع  الترابية ( مخططات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و التصاميم الجهوية لإعداد التراب) . و تم تفصيل صلاحيات الجهة في القانون العضوي 14-111 المتعلق بالجهات و الذي خول الجهة مجموعة من الاختصاصات الذاتية، المشتركة و المنقولة من طرف الدولة.

و في هذا الإطار، ترجمت الدولة إرادتها في مواكبة طموح النص الدستوري في تنزيل الجهوية من خلال إصدار الميثاق الوطني للاتمركز الإداري ليتماشى مع الدور الذي خولته الوثيقة الدستورية لمؤسسة الوالي /العامل.  إذ أن هذه المؤسسة تمثل المصالح المركزية على الصعيدين الجهوي والمحلي، و تضطلع بمهمة تنسيق المصالح اللاممركزة وتسهر على حسن تدبيرها بالإضافة إلى مساعدة رؤساء المجالس الترابية على تنفيذ مخططات وبرامج التنمية.

و بالإضافة إلى ذلك، حث ميثاق اللاتمركز الجديد القطاعات الوزارية على نقل مجموعة من اختصاصاتها لمصالحها الجهوية. كما أن إحداث المراكز الجهوية للاستثمار  و تخويلها صلاحيات واسعة في ميدان تشجيع و مواكبة الاستثمار الخاص  يعتبر تأكيدا للاختيار الجهوي لمسار التنمية و لإحداث مناصب الشغل.

ومن ثمة، فان المؤسسات  المكلفة بالتعمير مطالبة ، شأنها شأن باقي المصالح الخارجية للحكومة، بمصاحبة مؤسسة الوالي /العامل ورؤساء الجهات و الجماعات الترابية في تنفيذ مخططات التنمية الترابية ، سواء الجهوية أو المحلية و كذا مصاحبة القطاع الخاص في عملية الاستثمار. و يتطلب ذلك تجويد و تعبئة أدوات اشتغالها و تطوير  منهجيات عملها و  طرق مقارباتها حتى  تتمكن من مواكبة تنزيل أهداف مخططات التنمية و تشجيع الاستثمار  الخاص بمنطق الجهوية المتقدمة.

متطلبات مواكبة التنمية الجهوية من طرف التعمير: تتطلب مسايرة المشروع التنموي الجهوي ، والذي يشمل  البعدين الإقليمي و  المحلي ، تطوير طرق اشتغال منظومة التعمير ، و  تجديد منهجيات تدخلاتها لتساهم في تحقيق رهان إنجاح تنزيل الجهوية المتقدمة و  تحقيق التنمية المحلية. و من هذا المنطلق، يجب  على مؤسسات التعمير اعتماد المقاربة الجهوية التي من المفترض أن تأخذ بعين الاعتبار التفاعلات و التقاطعات بين المكونات الترابية للجهة  و انعكاساتها على المستويات المحلية  بحيث يصبح منطق تفكيرها جهويا و ترجمة عملها محليا. و سيمكنها ذلك من امتلاك القدرة  على مسايرة المخططات التنموية الجهوية و إدراجها في إطار مشاريع ترابية متكاملة و مندمجة  مع برامج و مشاريع  الدولة مثل النموذج التنموي الجديد، الميثاق الوطني للاستثمار، البرامج  ذات العلاقة بتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية وكذا مختلف المخططات القطاعية ذات البعد الترابي (الفلاحة، الصناعة، السياحة، السكن، حماية الثروات الطبيعية، الحد من انعكاسات التغير المناخي والكوارث المرتبطة به…) .

نحو مقاربات  جديدة  لتعمير  تنموي و مواكب للجهوية:

تراكمت  لدى مؤسسات التعمير تجربة كبيرة وغنية في ميادين التخطيط الترابي من خلال تغطية جل التراب الوطني بوثائق تعمير ذات طبيعة مختلفة. لكن طغيان المقاربة التقنو-قانونية جعل هذه الوثائق غير قادرة على مسايرة الديناميات المجتمعية سواء في بعدها الاقتصادي أو في تجلياتها الاجتماعية.  لذا، فان  تبني رؤية  تكاملية ،مندمجة و تفاعلية ، تتقاطع  فيها مختلف المستويات الترابية انطلاقا من الجهة  وصولا إلى الجماعة ، تتطلب إعادة النظر في طرق اشتغال مؤسسات التعمير وتحقيق انتقال نوعي في منهجية تدخلاتها من أجل تشخيص التحولات الاجتماعية و  الأنماط  الجديدة لاستعمال الأرض من جهة، ومن جهة أخرى الاندماج في المنظومة الجهوية وفق فلسفة دستور 2011 و أهداف الميثاق الوطني للاتمركز و فلسفة ميثاق الاستثمار الجديد.

وتأسيسا على ما سبق، فان مراجعة مفاهيم ومنهجيات ومقاربات الاشتغال تعد الحلقة الأساسية لانتقال نوعي لعمل منظومة التعمير جهويا  و محليا وذلك من خلال:

  • جعل وثائق التعمير حاضنة للسياسات العمومية و لمخططات التنمية الجهوية والمحلية والية لتنزيلها عمليا من خلال اعتماد  المجالات الوظيفية ذات  الطبيعة التكاملية   Bassins de vie et d’emploi كمدارات للتهيئة  و للتخطيط الترابي و الربط  بين هذه المجالات لتوفير الاندماج و التكامل بينها؛

إذ تعتبر وثائق التعمير الإطار التقني-القانوني المخول من طرف المشرع لتنظيم استعمال الأرض و مرجعية للترخيص لمختلف المشاريع. فالترخيص للمشاريع الاستثمارية يبقى رهين باحترامها لمقتضيات وثائق التعمير حيث أن  نشر النص القاضي بالمصادقة على تصميم التهيئة بالجريدة الرسمية  يلزم الجميع الخضوع لمقتضياته و إعلانا للمنفعة العامة حيث يعادل في قوته القانون المتعلق بنزع الملكية. كما يلزم قانون التعمير الدولة و الجماعات الترابية و المؤسسات العمومية التقيد بتنفيذ مقتضيات مخطط توجيه التهيئة العمرانية حال المصادقة عليه.

و بذلك، فان وثائق التعمير تكتسي أهمية إستراتيجية في التخطيط الترابي لاعتبارات قانونية و تقنية بسبب قدرتها على توفير الإطار الأمثل لالتقائية مشاريع مختلف المؤسسات و القطاعات المعنية بالتنمية الترابية ( المشاريع الاقتصادية، المرافق العمومية و الخاصة، شبكات توزيع الماء و الكهرباء و التطهير السائل، البيئة، المياه والغابات ، النقل …) و توفير التماسك و الاندماج بين هذه المشاريع و باقي مكونات المشروع الترابي ( السكن، الطرق، مواقف السيارات، الساحات ، المساحات الخضراء…)؛

  • قدرة وثائق التعمير على الربط بين جميع المستويات الترابية خاصة المستويين الجهوي والمحلي.ومن ثمة، فان إدراج مخططات التنمية الجهوية و المحلية في وثائق التعمير سيمكن الجماعات الترابية من تنزيل مخططاتها في إطار مشاريع مندمجة ومتكاملة مع مشاريع الدولة و الخواص. كما توفر لها مرجعية عملية لإبرام تعاقدات و شراكات فيما بينها (الجهة- الجماعة) أو بينها وبين الدولة (الدولة-الجهة-الجماعة) أو بينها و بين القطاع الخاص. وسيتيح ذلك الانتقال من المفهوم الضيق لوثائق التعمير كمرجعية لتدبير رخص البناء وتوزيع القيمة المضافة على العقارات إلى مفهوم أوسع يجعلها مرجعية أساسية لتحقيق التنمية الترابية ؛
  • استثمار المرونة التي يتيحها قانون التعمير  بخصوص  منح  رخص الاستثناء  لتشجيع الاستثمار تماشيا مع فلسفة الميثاق الجديد للاستثمار و  الأهداف التي كانت وراء  إحداث المراكز الجهوية للاستثمار.كما يتيح هذا القانون إدخال تعديل جزئي أو كلي على تصميم التهيئة لمسايرة المستجدات في ميدان الاستثمار  و إحداث المشاريع دون انتظار انتهاء مدة صلاحية الوثيقة المعنية؛

– التمييز بن المجالات الترابية التي تكون موضوع وثائق التعمير، حيث لا يمكن مقاربة المجالات المترو بولية Territoires métropolitains للتجمعات السكنية الكبرى بنفس الرؤية وبنفس القوانين والوثائق  وضوابط التهيئة التي تعالج  و تدبر بها المجالات الحضرية المتوسطة والصغرى و المجالات الساحلية و الداخلية. لذا يجب خلق أقطاب داخل مؤسسات التعمير متخصصة  و تشتغل وفق خصوصيات المجالات الترابية وحسب طبيعة هذه المجالات على غرار مشروع إحداث أقطاب خاصة بالعالم القروي الذي تروم تنزيله الوزارة الوصية على القطاع.

و بمناسبة ذكر العالم القروي، فتجدر الإشارة إلى تعدد طبيعة الإشكاليات التي تهم المجالات القروية حيث يجب التمييز بين المجالات التي تقع داخل مدارات عمرانية كبرى Aires métropolitaines، و التي تعرف ضغطا كبيرا من حيث الطلب على السكن و تشهد انتشارا كبيرا لظاهرة التقسيمات العشوائية و غير القانونية للعقار، و بين المجالات القروية الساحلية و الداخلية و الجبلية ، و  بين المجالات القروية الغنية  و المجالات الفقيرة و تلك البعيدة عن الحواضر. إذ أن كل مجال من هذه المجالات يتمتع بخصوصية متميزة تتطلب معالجة خاصة؛

– رصد توجهات و سلوك الفاعلين الاقتصاديين من أجل مواكبة الدولة و المراكز الجهوية للاستثمار والجماعات الترابية في استقطاب وتشجيع الاستثمار لخلق فرص الشغل وتمكين الجماعات الترابية من الموارد الجبائية الضرورية لتعبئتها لتحقيق وتنزيل مشاريعها التنموية الجهوية والمحلية؛

لذا يجب إحداث مراصد ترابية على مستوى مؤسسات التعمير وخلق شبكة لهذه المراصد بطريقة أفقية تشتغل بشكل تفاعلي مع المراكز الجهوية للاستثمار وكذا مع باقي المكونات الجهوية المعنية بالتنمية الترابية. وسيساعد ذلك على جعل قطاع التعمير قوة اقتراحيه لمشاريع ترابية مندمجة وتكاملية تتماشى مع أهداف وطموحات الحكومة والجماعات الترابية في ميداني التنمية وخلق فرص الشغل سواء على الصعيد الجهوي أو على الصعيد المحلي؛

  • تأهيل العنصر البشري الذي يعد من أهم العناصر التي ستساهم في تحقيق النقلة النوعية لمؤسسات التعمير حيث سيمكن تكوين الموارد البشرية لهذه المؤسسات من امتلاكها أدوات تحليل ورصد الديناميات الترابية المحلية والجهوية .لذلك يجب أن ينصب التكوين على علوم التنمية و علوم تصور و صياغة المشاريع الترابية، في بعديها الجهوي والمحلي بالإضافة إلى  استعمال نظم المعلومات الجغرافية و وسائل التكنولوجية الرقمية المتاحة. وسيؤدي ذلك  إلى الارتقاء بهذه المؤسسات لتصير مراكز للذكاء الترابي قادرة على تسريع وثيرة إنتاج الوثائق المرجعية لاستعمال الأرض، واقتراح مشاريع ترابية مندمجة، وتدبير المجال بطريقة احترافية وتفاعلية  تستجيب لطموحات شركاءها خاصة الجماعات الترابية و القطاع الخاص.

خلاصة القول: يعتبر تفعيل الجهوية المتقدمة فرصة مفصلية في تاريخ التعمير بالمغرب، إذ تعد مناسبة لتبني طرق حكامة جديدة ومنفتحة، مرتكزة على منهجيات حديثة في تدبير التراب قوامها التخطيط الاستراتيجي الذي يعتمد التشاور والإشراك، ونهج مقاربات أفقية و التقائية برؤى استشرافية و استباقية للديناميات الترابية ستستجيب لانتظارات الفاعلين المعنيين.

إن التجربة التي راكمها التعمير بالمغرب مند أكثر من 100 سنة، خاصة في ميدان إعداد وثائق التعمير،الاستشرافية منها و التنظيمية، تعتبر رأسمال معرفي وعملي ثمين قادر على  المساهمة  بشكل فعال في تحقيق التنمية الجهوية و المحلية.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.